الرحمة الإلهية واثارها على الأرض تتبدى للجميع، فمن شاء ان ينهل منها ليهذب روحه وعقله واخلاقه فلا يمنعه عن هذا الامر مانع سوى نفسه او العوائق المصطنعة التي وضعها امام تقدمه، ولا توجد فرصة أعظم من شهر رمضان الكريم ليحاول ان يبرمج حياته من جديد وفق منظور الرحمة...
ان آثار رحمة الله على عبادة، الظاهرة والباطنة منها، لا تعد ولا تحصى، وقد سخرها لينعم الانسان في رحمته الواسعة التي لا حدود لها ولا امد، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)، ويمر الانسان خلال حياته بمحطات مفصلية تشكل منه، بمقدار التفاعل معها، ذلك الانسان العارف برحمة ربه والمتنعم بأثاره او الانسان الجاهل بها والمنكر لها وبالتالي غير المستفيد منها الا بمقدار يسير، ومن اهم هذه المحطات التي تتجلى فيه اثار الرحمة الإلهية ونعمها هو شهر رمضان الذي قال تعالى عنه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ).
شهر رمضان المبارك فيه من الخصائص الفريدة التي تعطي للإنسان القدرة على التفاعل مع الرحمة واثارها والاستفادة منها بمقدار حركته والجهد الذي يبذله في سبيل ذلك، وهو ما يشير اليه الامام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) بقوله: "في شهر رمضان تترجم الأفكار إلى وقائع، وتتحول الحروف إلى حركة والكلمة إلى حياة، يتحول الإنسان إلى أمة كإبراهيم (عليه السلام) حيث كان أمة قانتاً لله، يكون أُمة بتقدمه في هذا الشهر، فهو يعبد الله ما يعادل عبادة سنة، وهو في المجتمع ليس فرداً، بل أفراداً متعاونين متآخين، وهو في الكون بذرة تبعث الحياة في كل ركن من أركان الدنيا، فشهر رمضان شهر الحركة والبركة"، وتحرك الانسان بشقيه المادي والروحي في طريق الرحمة يوصله الى مراده في نهاية المطاف.
ان السكون والرتابة التي تصيب الانسان خلال حياته تحتاج الى محفز حركي ينشط الانسان ويدفعه باتجاه التغيير والقدرة على التحرر من قيود الخمول والطاقة السلبية التي تحد من تحرر أفكاره ومعرفته وطموحه وفاعليته، لكن في هذا الشهر تختلف المعادلة ويتحول الانسان الى طاقة متجددة قادرة للوصول الى غاياتها، يقول السيد الشيرازي (رحمه الله): "كل جسم ساكن إذا مسهُ نسيم هذا الشهر يأخذ بالحركة، فالكثير يخرجون للتبليغ في هذا الشهر المبارك، والكثير يشتغلون في الليل والنهار، وإذا ما حاولنا ان نحصي انتاج بعض الأفراد لوجدنا إنهم ينتجون ما يعادل الإنتاج في عام كامل".
والحديث عن تلك الاثار في هذا الشهر الفضيل لا يمكن ان تحصى او تعد لأنها ارتبطت برحمة الله التي وسعت كل شيء، ولأنها ارتبطت بنعم الله (عزوجل) التي أسبغها على عباده، لكن يمكن ان نذكر البعض منها على سبيل المثال لا الحصر.
1. التكافل والتراحم على المستوى الاجتماعي بين الافراد يعطي الصورة الحقيقية للمجتمعات الإنسانية التي خلقها الله (عز وجل) للتعارف والتعاون والتسامح والسلام وليس العكس.
2. الابتعاد عن الماديات التي تشغل الانسان طوال حياته والتفرغ لصفاء الروح وحب المعرفة وإخراج الشحنات السالبة التي تشكلت في النفس بمرور الوقت.
3. الاخلاق الحسنة من اهم اثار رحمة الله التي يحب ان يراها بادية على الانسان، وفي هذا الشهر الفضيل هناك فرصة عظيمة لإنبات الاخلاق الحسنة والتحلي بالفضائل في نفس الانسان ونزع الرذائل والأخلاق السيئة عنه.
4. فرصة للمراجعة مع الذات من اجل تصحيح المسار لمن انحرفوا عن جادة الصواب، وهي فرصة مناسبة للوصول الى القمة بصورة متدرجة كما يقول الامام الراحل (رحمه الله): "لا يكون الإنسان من اليوم الأول عادلاً كاملاً أو زاهداً كاملاً أو شجاعاً كاملاً أو كريماً كاملاً أو عالماً كاملاً وإنما يصل إلى القمة تدريجياً".
5. التجديد والقدرة على احياء النفوس والارواح الميتة او المثقلة بالأدران، ومع المعاني الروحية الكبيرة التي يحملها هذا الشهر الكريم (الصبر، التقوى، الورع، العفو، التسامح...الخ) فان النتائج المرجوة ستكون إيجابية وسريعة، وأفضل برنامج للتجديد في هذا الشهر الفضيل نجده في القرآن الكريم كما أشار الى ذلك السيد الشيرازي (رحمه الله) بقوله: "وإن في القرآن الكريم يجد الإنسان برنامج التجديد الذي يبتغيه ويسعى من أجل تحققه في هذا الشهر".
والخلاصة ان الرحمة الإلهية واثارها على الأرض تتبدى للجميع، فمن شاء ان ينهل منها ليهذب روحه وعقله واخلاقه فلا يمنعه عن هذا الامر مانع سوى نفسه او العوائق المصطنعة التي وضعها امام تقدمه، ولا توجد فرصة أعظم من شهر رمضان الكريم ليحاول ان يبرمج حياته من جديد وفق منظور الرحمة التي وضعها الباري (عز وجل) للجميع ولم يمنعها عن أحد، خصوصاً وان: "الانسان بحاجة في كل عام إلى وقفة مع نفسه ومع الحياة، لأن غبار الحياة قد يتراكم على قلبه فيجرده عن رؤية الحقيقة وتحول بينه وبين طريق التقدم، فلابد من غربلة تمهد الطريق إلى الدخول في شهر رمضان، لابد من نقض لما علق بالإنسان من غبار الجهل واليأس والتخلف، والأخذ بشآبيب الأمل والتقدم للمضي في طريق راسخ نحو تجديد الحياة الفردية ليكون هذا التجديد هو السبيل لتقدم حياة الجماعة نحو الامام"، ولا يكون ذلك الا من خلال الاستفادة القصوى من الرحمات والعطايا التي منّ الله بها على عباده في هذا الشهر الذي لا تنتهي اثاره وبركاته على الانسان.
اضف تعليق