والقرآن مثله مثل كل ما أنعم الله على الإنسان من خيرات، فإذا لم يستفد منها بل عمل على العكس منها كانت عليه نقمة أ رأيت كيف يتحوّل النفط الذي أسداه الله نعمة للإنسان إلى بلاء على الإنسان، يحرقه ويدمّر حياته عندما يحاول أن يعبث به ولا يحسن استخدامه...
مقدمة قرآنية
القرآن الحكيم هو صحيفة السماء في الأرض، بل هو هديَّة السماء لهداية أهل الأرض، الذي أنزله الله بعلم، ليكون دستور حكم للحياة وسعادة الأحياء ممَّن يطلبون السعادة من البشر خاصة.
ونعتقد بأن القرآن الحكيم هو الذي يجب أن نقتدي به ونقتفي اثره حتى يقودنا إلى السعادة في الدنيا والجنة في الآخرة، ففي الحديث قال (ص): (إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع، وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة).
وها هي الفتن تعصف بنا في هذا العصر الأغبر من كل جانب، وتأتينا المصائب والبلايا من كل حَدَب وصوب، وتاهَ الناس في أمرهم، وحار العقلاء في شأنهم، وخرج ضعيفو الإيمان من الدِّين إلى الإلحاد، والكفر –والعياذ بالله– مما يرونه من أعمال تلك الفرقة الضالة المضلة من قطعان التكفير الصهيووهابية المجرمة الذين نصَّبوا أنفسهم ناطقين رسميين باسم الإسلام، وكفَّروا الأمة الإسلامية بكل طوائفها، واستباحوا دماءها، وأموالها، وأعراضها، وعاثوا في الأرض فساداً وإفساداً، فشوَّهوا كل الصور الراقية للدِّين الإسلامي العظيم، ورسوله الكريم (ص).
القرآن الكريم منهج للحياة
وفي أتون هذه النار المستعرة، من بداية هذا القرن الرقمي الإلكتروني، حيث تحوَّلت الأمة إلى ما يُشبه التنور واستعرت النار لتحرق الأخضر واليابس، والكل يُكبِّر، ويُهلل، ويقرأ القرآن، فكيف السبيل إلى الخلاص من كل ذلك؟ وما هو الطريق والمنهج السليم لمعرفة الحق؟
إنه القرآن الحكيم، الذي جعله الله فيصلاً، وفرقاناً، يُفرِّق بين الحق والباطل، وجميل ما يقوله الإمام الشيرازي الراحل (رحمة الله عليه) في كتابه (شهر رمضان شهر البناء والتقدم): "القرآن الحكيم كتاب للحياة ومصدر للنور ودستور للسلام، فعن الحياة يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)، وعن النور يقول تعالى: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157)، وعن السلام يقول جل ذكره: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 16)
وهكذا كان القرآن الكريم في بدو الإسلام، فهو الذي وضع المسلمين على طريق الحياة الرَّغيدة الشريفة من خلال حثّه على العمل والإنتاج، وعبر تحفيزه الناس على التعاون ومساعدة الغير، ومن خلال ما وضع أمام المسلم من مناهج اقتصادية واجتماعية نتيجتها هي الحياة الكريمة التي ترفرف أجنحتها بالسعادة والرخاء".
فالرسول الأكرم (ص) علَّم الناس أصول العيش الراقي، والحياة الحرة الكريمة، في ظل حكم الله تعالى فيهم، فكان العنوان العريض لحكمه العدل في أجلى صوره، وأرقى وأنقى تجلياته في الحياة وبالعدل ينتشر السلام ويعم القسط في المجتمع فتنمو الحياة وتزدهر وتُبنى الحضارة الإنسانية على أساس تلك القيم الربانية.
وكل تلك الأسس والمباني الفكرية، والعقدية كانت في القرآن الحكيم، فهو المنبع والأصل للحضارة الإسلامية بكل ما فيه من تعاليم وأوامر وتشريعات راقية، يقول سماحة الإمام الراحل: "وكذلك القرآن الكريم أرشد الناس إلى طريق الحياة السليمة من خلال الضوء الذي يُسلّطه في طريقهم ليهتدوا في الظلمات إلى مواطن الخير فيتمسكوا بها، والى مواطن الشرّ فيتجنبوها، وعرّفهم القرن الحكيم سُبل السَّلام في الدنيا قبل الآخرة، ويوم كان المسلمون يفهمون القرآن وتعاليمه ويتمسكون به ويأخذون بمنهجه كان لهم الخير والصلاح.. أما عندما تركوا القرآن جهلاً من بعضهم بآياته وعناداً منهم لِمنهجه انهالت عليهم المشكلات من كل حدبٍ وصوب".
ثم يبدأ سماحته يُذكِّرنا ببعض تلك الآيات الحضارية الراقية جداً التي شكَّلت الأساس الحضاري للبناء الاجتماعي في الدين الإسلامي الحنيف، فيقول سماحته: "عندما ترك المسلمون العمل بمضمون؛ آية الأمّة الواحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (المؤمنون: 92)
وآية الأخوَّة: (إنّمَا المُؤمِنُونَ إخوةٌ) (الحجرات: 10)
وآية الحرية: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157)
وآية النِّعَم: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة: 29)
وآية النكاح (الزواج): (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) (النور: 32)
وآية التعاون على فعل الخير: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)
وآية المسؤولية: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21)
وآية الحكومة (العادلة): (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105)
وآية تجنّب الظلم: (لا تُظلِمُونَ وَلا تُظلَمُون) (البقرة: 279)
وآية تجنّب الخمر والميسر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة: 91)
ثم يقول سماحته: "عندما ترك المسلمون العمل بهذه الآيات وغيرها من آيات القرآن الكريم انطفأت شُعلة الحياة في نفوسهم وأصبحوا كما قال تعالى: (لا يموتُ فِيها ولا يَحيى) (طه: 74) فلا هم بميتين ولاهم بأحياء.. أي أنهم في حالة احتضار دائم، وهناك أممٌ كثيرة في التاريخ عاشت هذه الحالة العصيبة لردح من الزمن".
وفعلاً نحن أمة يصدق عليها أنها في حالة احتضار، رغم أنها ربع سكان المعمورة عدداً، وتملك أكبر احتياطات الأرض من النعم الظاهرة والباطنة، إلا أنهم أذل، واضعف الأمم وعجيب الغريب، بل العجب العُجاب أن يستضعفها أذل وأخزى أمم الأرض اليهود الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة ونزل عليهم الغضب الرباني، وهم يُشكِّلون أقل الأمم قاطبة وربما عددهم جميعاً أقل من قبيلة واحدة من قبائل العرب المعروفة والمشهورة، فاحتلوا أرضهم وشرَّدوا شعبهم، ودنسُّوا قدسهم وأذاقوهم أبشع أنواع المهانة والخزي والعار، وها هم يتراكضون إلى أحضانهم ليُطبِّعوا معهم وما هم مطبِّعين ولكم خاضعين خاشعين راكعين يُقبلون أحذيتهم ولا يقبلونهم أيضاً لأنهم بنظرهم حشرات ضارة يجب قتلها وإبادتها كما يُعلنون جهاراً نهاراً.
وهذا ما قاله وحذَّرنا منه رسولنا الكريم (ص) منذ قرون حيث قال: (يوشك الأمم تداعى عليكم تداعي الأكلة على قصعتها، قال قائل منهم: من قِلَّة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من عدوكم المهابة منهم، وليقذفن في قلوبكم الوهن!!. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وقال (صلى الله عليه وآله): (إذا عظمت امتي الدنيا نزع الله منها هيبة الإسلام). أليس هذا الذي حلَّ بنا اليوم؟!
القرآن نور الحياة
الحياة بلا نور هي ظلام حندس، وظُلمات بعضها فوق بعض، ولذا لا يمكن أن تُبنى الحياة في الظلام، بل لا بدَّ من النور والضياء الذي يُتيح الفرصة للأحياء بالحركة والنشاط، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (النبأ: 11)
والقرآن الحكيم هو نور الحياة الحقيقية التي أمر الله بها، وإلى ذلك يُشير سماحة الإمام الراحل بقوله: "أما في مجال النور الذي يسطع من آيات القرآن ليبعث على الهداية والصلاح؛ فقد أصبح الأمر عكسياً، فالظلام هو الذي عمَّهم والموت هو الذي شملهم، فقد وصفهم القرآن بقوله: (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة: 257)، بعد أن أخرجهم القرآن من الظلمات إلى النور (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
هذه الوقائع التي نعيشها ونتخبَّط فيها ولا نهتدي إلى سبيل منقذ منها لأننا نبحث عن الحلول في كل مكان، من شرق الأرض وغربها، ولا نبحث عنه في القرآن الحكيم وهو بين أيدينا ونتلوه آناء الليل وأطراف النهار، ولكن نتلوه على الأموات، وفي الفواتح، في الزواج والاحتفالات للتبرُّك فقط، وهو مطلوب ومرغوب ولكن أين القرآن وتأثيره النوراني في حياتنا؟ هل هو ضوء الحياة ونورها الذي نعيش فيه ونهتدي بهداه في كل أوقاتنا أم أنه صار كتاب أموات يُتلى على الأموات لتخفيف العذاب عنهم ببركة تلاوته عندهم، فألا يجدر بنا ونحن أحياء أن نتلو القرآن علينا في حال حياتنا ليُخفف العذاب عنا في معيشتنا ومسيرة حياتنا كلها؟
نعم؛ لقد تبدّلت وتحوّلت حياتنا إلى ضنك في ضنك، ومن ضيق إلى أضيق، ونقوم من مصيبة لنقع فيما هو أبشع منها وما ذلك إلا نتيجة طبيعية لبعدنا عن القرآن الحكيم وذكر بنا الكريم الذي يقول في محكم كتابه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه: 126)
جميل ما يقوله سماحة الإمام الراحل أيضاً: "هذا هو حال المسلمين اليوم، حياة تحتضر، وظلام دامس، واضطراب وضنك، فإذا أردنا الحياة السعيدة ذات العزة والشرف والكرامة، وإذا أردنا أن يُرفرف السلام فوق رؤوسنا، فلا بدّ أن نعود إلى كتاب الله، وبالأخص في هذا الشهر المبارك، لا بدّ أن نقرّر العودة إلى القرآن عندما نجلس بين يدي الرحمن ونقرأ آياته.
وعلينا أن لا نكتفي بالقراءة فقط -بالرغم ما لقراءة القرآن من ثواب وأجر لا يعادله شيء- فإنّ القراءة وحدها (كرامٍ بلا وَتَر) كما ورد في الحديث الشريف.
والقرآن مثله مثل كل ما أنعم الله على الإنسان من خيرات، فإذا لم يستفد منها بل عمل على العكس منها كانت عليه نقمة أ رأيت كيف يتحوّل النفط الذي أسداه الله نعمة للإنسان إلى بلاء على الإنسان، يحرقه ويدمّر حياته عندما يحاول أن يعبث به ولا يحسن استخدامه.
فمن الضروري أن نجدد عهدنا بالقرآن العملي بعد القرآن العلمي، لعلّ الله يُخلصنا من هذه الهوة السحيقة التي سقطنا فيها يوم تركنا القرآن كمنهج للحياة".
ما أجملها من دعوة، وما أعظمها من عودة إن تحققت –ولا بدَّ منها– لأننا اليوم أصبحنا في صراع محتدم على الوجود الإسلامي لا على بعض الحدود المرسومة، فوجودنا مهدَّداً من هؤلاء الطغاة الجبارين بكل ما لديهم من تقدم علمي وتطور تقني يُريدون غزونا في بيوتنا ومخادعنا ويسلبوا منا ديننا وإيماننا ويُلقون بنا في مستنقعات الرذيلة التي أعدوها لنا بكل أشكالها وألوانها البراقة على الطريقة الهوليودية اليهودية المعروفة.
فعلى الأمة الإسلامية أن تنهض من كبوتها وتستيقظ من غفلتها وتقوم باسم الله مستعينة ومستنيرة بكتاب ربها لينير دربها ويهدي أجيالها على الصراط المستقيم، وكل ذلك له شرط واحد وهو أن نبدأ التغيير من أنفسنا ألاً ثم ننطلق لنغيِّر العالم كما فعلنا ذلك من قبل، قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
اضف تعليق