{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}.
الصّبر، هو احد ابرز مقومات النجاح في كل شيء وعلى كلّ المستويات، فعندما ترى إنساناً او مجتمعاً، لا فرق، ناجحاً فتأكّد بانه انسان صبور، والعكس هو الصحيح، فاذا وجدت اخر فاشلاً ففتّش عن جزعه ونكوصه.
والصبر يتناسب تناسباً طردياً مع التحدّيات، فكلما كبُرت التحديات وعظُمت كلما احتاج الانسان الى صبر اكبر وأكثر، والعكس كذلك هو الصحيح، فالذي لا يواجه التحديات لا يكون بحاجة الى صبر شديد.
والصبر بمفهومه الرسالي اشمل بكثير من مفهومه المتداول والذي نحصرُه في السَّرَّاء وَالضَّرَّاء بمفاهيمها الشخصيّة، ابداً، انه مفهوم يشمل حتى الحوار والاختلاف والنقد والتحديث والتجديد والتغيير الاجتماعي والتاريخي وكل شيء.
والصبر يعني الحبس والثبات، وانّما سُمّي الصّوم صبراً لانه حبس النفس عن المفطرات، فمن جانب نحن بحاجة الى الصبر بمعنى الحبس؛
فعند الحوار نحتاج الى ان نحبس انفسنا على ان نتجاوز على الاخر استهزاءاً او استخراطاً او ما أشبه، كما نحتاج الى ان نحبس انفسنا عن مقاطعة المتحدّث حتى يكمّل الفكرة ويدلي بدلوه، فكم من جدالٍ عقيمٍ ابتُلينا به ليس لأننا نختلف في وجهات النظر ابداً وانما لانّ طرفَي الحوار لا يدعان الاخر يكمّل حديثه ليتبيّن فيما بعد بأنّ الفكرة واحدة ولكن الأسلوب او الفهم يختلف.
كذلك، يلزمنا ان نحبس انفسنا عن مقاطعة المتحدث عندما يريد ان ينقل خبراً او رواية، فلطالما فقدنا معلومة او خسرنا رواية عندما نقاطع الناقل فتنقطع سلسلة الرواية فنخسر الكثير من الإضافات التي قد تكون جديدة بالنسبة لنا او مهمة.
كذلك فنحن بحاجة الى ان نحبس انفسنا عن العجلة في ردود الأفعال او الاجابات، فالعجلة في مثل هذه الحالات تدفعُنا الى ان ندلي برأيٍ او فكرة او حتى معلومة اما هي ليست في محلها او انها غير دقيقة او هي سرٌّ استُدرجنا له، انما استعجلنا النطق بها لمجرّد انها ردة فعل على كلام الاخر او لإثبات الذات او لرد التجريح او ما أشبه.
ان الكثير من مشاكلنا، سواء العائلية او الاجتماعية او السياسية او ما الى ذلك، سببها الاستعجال وعدم قدرتنا على حبس انفسنا عند الكلام او الرد على الاخر، ولذلك فإننا بأشد الحاجة الى الصبر بهذا المعنى لتجاوز الكثير من مشاكلنا، التي تبدأ بسيطة وساذجة وقد تكون تافهة الا انها تنتهي الى تصفيات بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بسبب عجلتنا في التعامل معها، فلو صبرنا قليلاً ومنحنا انفسنا فرصاً ما لعثرنا على الحل المناسب باقل الخسائر المطلوبة.
ان الصبر يمنحنا فرص كثيرة لنتحمل بعضنا، فنتجاوز الكثير من المشاكل، وبذلك سننجح في إدارة خلافاتنا على افضل شكل واسلم النتائج.
ان في قول الامام امير المؤمنين (ع) {وَاسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ} بمعنى اتخاذه شعاراً كما يلازم الشعار الجسد، إشارة رائعة الى مفهوم الصبر بمعنى الحبس، فهو يجنّبنا الكثير من المنزلقات وبه نتجاوز الكثير من المشاكل.
اما المعنى الثاني للصبر، والمقصود به الثّبات، فهو الاخر مفهومٌ لابد ان نستحضره دائماً من اجل ان نحقّق النجاحات المطلوبة.
وهو بهذا المعنى ذو بُعدٍ انساني لا علاقة له بالخلفيّة، يخدم كل من يأخذ به، ولذلك قال امير المؤمنين (ع) {ما أُعدِمَ الصّبور الظّفر وَإنْ طال به الزمان} فالصّبور هنا يمكن ان يكون اي انسان عاقل يفهم معنى الصبر ودوره في تحقيق الهدف.
ان قول المعصوم {الاعمالُ بخواتيمها} لا يمكن ان يتحقق اذا لم يثبُت المرء الى النهاية، فليس في الانطلاق منقبة او شجاعة وانما في الثبات على الطريق الى النهاية لتحقيق الهدف الذي انطلق باتجاهه المرء.
وعندما ينطلق الانسان باتجاه هدفٍ ما قد لا يستشعر المخاطر او يواجه التحديات، والتي عادة ما تبرز في الطريق بعد ان يقطع مسافة ما، وهو لا يقدر على استيعابها ومواجهتها من دون الثّبات، والذي يعبّر عنه القران الكريم بمفهوم الاستقامة، كما في قوله {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وفي الآية إشارة في غاية الاهمية الا وهي الثّبات على الهدف الذي من اجله انطلق الانسان، وليس الذي ستفرضهُ الظروف والواقع الذي قد ينحرف بالهدف الى امرٍ آخر، كما لو ان امرءاً انطلق بسيارته من بغداد الى البصرة وفي الطريق صادفته ظروفاً ما انحرفت بهدفه ودفعته دفعاً للذهاب الى كربلاء، هذا يعني انه لم يثبُت على هدف منطلقه، صحيح انه وصل الى هدف ما ولكنّه ليس الهدف الذي انطلق به من بغداد، ولذلك فهو بهذه الحالة لم يثبت على هدف المنطلق.
ان الكثير من الحركات والزعماء والقادة ينطلقون من اجل هدفٍ ما، القضاء على الاستبداد مثلاً، وبعد جهد جهيد ينجحون في القضاء على الاستبداد الا انهم انفسهم يتورطون بالاستبداد وكأنّهم ناضلوا ليستبدلوا المستبد بأنفسهم!.
كذا الحال لمن يشن حملة شعواء للقضاء على الفساد المالي والاداري ليجد نفسه وقد تُوِّجَ زعيماً للفاسدين وكبير اللصوص، وكأنّه نافس الفاسدين ليحل محلهم!.
ان سبب الفشل عادة او التراجع او التوقف او حتى التورّط بما انطلقنا من اجل تحقيقه، هو عدم تحلّينا بعنصر الثبات عندما نتصور سهولة الامر او عندما تفاجئنا التحديات التي لم ناخذ لها اهبتها.
ان التغيير لا يأتِ بسهولة، فلابد من الصبر عليه، من خلال الصبر على تحدّياته، والا فالنتيجة هو استبدال مستبدٍ باخر او فاسدٍ باخر او لصٍ باخر، وهذا ما نلاحظه اليوم في جلّ عمليات التغيير التي شهدها عالمنا العربي في إطار ما بات يُعرف بالرّبيع العربي، كما نلاحظه اليوم في العراق، فبعد اكثر من (١٢) عام على التغيير اذا بِنَا نتورط بما ناضلنا وجاهدنا وضحينا من اجل اقتلاع جذوره وكنس اثاره من البلاد، لماذا؟ لأننا لم نصبر على التغيير عندما انهارت قوانا امام اول تحديات السلطة والجاه والمال.
اخيراً؛ فان من المهم جداً ان يتحوّل الصبر الى ثقافة في المجتمع، ليتسنى لنا التفاهم والتعايش، فلا يكفي ان تكون لوحدك صابراً بل لابد ان يكون المجتمع كله كذلك، يصبر بعضه على البعض الاخر، ويصبر كله على المنهج والهدف والمنطلق، ويصبر على التغيير بالفعل الإيجابي المستمر والمتراكم، او ما يسمى بالمثابرة، ولذلك حمّلنا القران الكريم مسؤولية المصابرة في المجتمع والتي تتحقق بالتكافل والتذاكر والتعاون، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
اضف تعليق