q

منذ أن عرف الإنسان نفسه وهو يجتهد لإيجاد أفضل الطرق لتربيتها وصناعة مجد ذاتي يستدعي بدايةً أن يوفر ما يضمن له تحمل الظروف الصعبة مواجهة التحديات الكبيرة. حتى عرف الإنسان الدين الذي بدأ يفرض طرقاً لتربية الجسد والروح معاً لتحقيق هذا التطلع الفطري للإنسان.

فمثلاً كان الفرد من بني اسرائيل اذا ما اراد ان يتفرغ للعبادة والتبتل فعليه أن يؤهل نفسه مدة طويلة عبر الصيام عن الطعام والشراب وحتى الكلام، وفي العبادة تكمن كل فرص الصلاح كما يعتقد.

ومن هنا ظهرت عبر هذه الأديان صوراً واشكالاً متعددة للصيام، كالصوم عن أكل اللحم وكل ما يرتبط بمنتوج الحيوان، وكان هناك أيضاً من يصوم بشكل متواصل تحت عنوان "صوم الوصال" لتحقيق هدف ما كنزول المطر مثلاً او حتى عودة الغائب أو أي حاجة أخرى.

وهكذا تشاركت كل الأديان في تربية الفرد عبر أشكال الصيام المختلفة، إلى أن جاءت الفكرة الحضارية المغيرة لاعتقادات الانسان المتواضعة عبر الإسلام ونظم هذه الأشكال ووجهها بشكل صحيح ليجعل للصيام "هدفٍ سامٍ".

وهذا يعني أن فريضة الصوم لم تكن يوماً غريبة على الناس، وإنما كانت موجودة حتى قبل أن يكتشف الإنسان الأديان، وكل ما قامت به رسالة الإسلام هو توجيه هذه الفرضية بالشكل الذي يضمن "الهدفية" في الممارسة العبادية.. ولكن ما هو هذا الهدف؟

ظاهر ممارسة الصيام الكف عن الأكل والشرب وباقي الملذات الأخرى من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وهي حالة تشبه إلى حد كبير مع فوارق بسيطة ما تقوم به باقي الأديان الأخرى، فما الذي يميز الإسلام عن غيره إذا كان هدف الصيام في الإسلام الامتناع عن الأكل والشرب والممارسة الجنسية كما يعرفه أهل اللغة والاختصاص؟

يجيب عن هذا السؤال قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

إذاً.. الآية تبين أن الهدف من الصيام هو "التقوى" الذي أشار له تعالى في قوله: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، وهنا يمكن توجيه الإسلام للصبر والمعاناة في نهار الصيام وبتحويله مدرسة للتقوى.

وعندما تكون التقوى هدف الصائم ستختلف الممارسة كثيراً عن غيرها من باقي الاديان، فعندما تصوم الجوارح لا تصوم عن الحرام فقط، بل إنها تحاول أن تتجنب كل ما يلوث أجواء هذه الممارسة الإلهية الفريدة، فيصوم اللسان عن الغيبة والكذب والافتراء مثلاً، والرواية الشهيرة التي يطلب فيها رسول الله (ص) من إحداهن بتناول الطعام بعد أن اغتابت أحدهم توضح هذه الفلسفة وترسخها بقوة.

إذ يقول (ص): "كيف تكونين صائمة وقد أكلتِ لحم الناس؟"، في إشارة منه إلى الإتيان بالغيبة التي يرفضها الإسلام في الأيام الاعتيادية فكيف إذا كانت في ساعات الصوم؟

إن بلوغ هدف الصيام في شهر رمضان الكريم لن يتحقق ما لم توظف كل جارحة من جوارح الإنسان لنيل هذا الهدف وهو التقوى، فالأمر ليس بالسهولة التي نتصورها في الامتناع المعروف عن الطعام والشراب وحسب، وإنما أن تكون هنالك حالة من اليقظة المستمرة للجوارح ومحاربة حالة الشرود التي تحدث لها عبر الغضب وسوء الخلق التي يأتي بها البعض تحت ذريعة صعوبة مواصلة الصيام.

وحتى تفسيرات الأئمة عليهم السلام التي وردت في كتب الروايات الشريفة تصب في هذا الاتجاه، فعندما يقول رسول الله (ص) في احدى خطبه بمناسبة حلول شهر رمضان: "يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غلت مردة الشياطين وفتحت أبواب السماء وأبواب الجنان وأبواب الرحمة وغلقت أبواب النار..."، فهي إشارة إلى حالة التقوى التي ستكون سائدة على المجتمع الإسلامي، والتي تفرض عبر أجواء الصيام عدم وجود أي نزعة أنانية أو تصرف أخلاقي سيء مصدره الشيطان.

وكذلك حينما يخبر الإمام الصادق (ع) أصحابه بأن الصيام زكاة للأجساد فهو يشير إلى بلوغ التقوى عبر هذه الوسيلة.

أخيراً.. صوم شهر رمضان فرصة للتزود بالتقوى التي تحصن الفرد في الدنيا والآخرة وتجعل منه شخصاً مختلفاً يسعى نحو الكمال.. نحن نصوم في شهر رمضان لنثور على النفس المعاندة التي طالما تحكمت بأفعالنا على مدار العام وجاء الآن شهر الصيام ليروضها.

اضف تعليق