مقدمة
يعد تحليل النفس البشرية، مِن أصعب القضايا التي تواجه المختصين في العلوم الانسانية، بسبب التركيب المعقد لعواطف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه ودوافعه وسلوكه وعلاقاته بالعالم المحيط به، وبذاته أيضاً. وترتبط كل هذه القضايا بنمط حياة الإنسان ومصالحه وبمتطلباته وأهدافه ورغباته، التي تستدعي انفعالات متباينة، سنركز على أحدها وهو اتجاه انحرافات النفس البشرية غير الجسدية، وما يتصل بها ويعارضها، اتجاه الاستقامة.
وسنستلهم جوهر ذلك بشيء مما جاء في القرآن الكريم، وخطب الإمام علي بن أبي طالب (ع) ووصاياه. مبتدأين من معنى انحراف النفس البشرية، ثم بيان كيفية الخلط بين الانحراف والاستقامة، وما هي القوة الدافعة وراء هذا الانحراف، وأخيراً حالة المجتمع عند طغيان الانحرافات عليه.
1. معنى انحراف النفس البشرية
ذكرت معاجم اللغة العربية، أن معنى انحرف الشيء، هو مال وعدلَ عن قصده. هذا التعريف يشير إلى أن هناك ثمة هدفاً معيناً أو مسلكاً محدداً ينبغي السير عليه، فإذا مال الانسان عنه، فهو بهذه الحالة يكون قد انحرف. هذا المسلك أو الهدف، غالباً ما يطلق عليه لفظ "الاستقامة"، فإذا انحرف الانسان في سلوكه، يكون قد مال عن الاستقامة، وفعلَ ما يوجب اللوم أو العقاب.
لكن هذا التعريف يدخلنا في قضية نسبية غير محددة الاتجاه، لأن ذلك يعني أن هناك خطان أو منهجان غير متوازيان، يمكن أن يصبح أي منهما الاستقامة، وبالتأكيد، الآخر هو الانحراف. وللفصل بهذا الموضوع يتعين إيجاد ميزان دقيق له القدرة على التمييز بين الاستقامة والانحراف. لأنه دون وجود مثل هذا الميزان، أو المقياس، سيدّعي أصحاب كلا الاتجاهين أنه يمثل الاستقامة. هذا الذي يحدث في الواقع العملي.
أما الجهة المؤهلة لأن تكون حكماً في ذلك هي المباديء الجوهرية للأديان والأخلاق الإنسانية، وجملة من القيم كالحق والعدالة والصدق والاخلاص والنزاهة والخير ومحبة الآخرين والفضيلة، التي ينبغي أن يمثلها حكماء، ثقاة. كل هذه القيم تمثل الاستقامة.
أما السلوك الاجتماعي المنحرف، هو السلوك الذي يخرج بصورة بارزة عن المعدل السوي، وهو شكل خاص من الشر الأخلاقي، يتجلى في توجهات مناقضة لقواعد السلوك القويم وأشكاله المألوفة، ويشمل أفعالاً عديدة سيئة مثل الرذيلة والفساد والباطل والظلم والعدوانية والزيف والكذب والضلالة والكراهية والحسد. ويطلق الإمام علي، في نهج البلاغة، على طريق الاستقامة، الطريق الواضح، الذي يوصل إلى النجاة وشاطيء السلامة، غير أن الذي يخالف ذلك ويسير في طريق الاعوجاج سيؤدي به إلى المتاهة والهلاك، فيقول: "أيها الناس! من سلك الطريق الواضح ورد الماء، ومن خالف وقع في التيه". إذن طريق الانحراف ينطوي على استخدام وسائل غير أخلاقية لتحقيق مصالح الانسان وأهدافه.
2. الخلط بين الاستقامة والانحراف
مِن أشد القضايا المؤثرة سلباً في المجتمع، المؤلمة، التي يعاني منها الطيبون، المخلصون، هي قلب الحقائق والتزييف والتمويه والخداع، التي يقوم بها قسم من فئات المجتمع، عن قصد وليس عن جهل. وبطريقة القلب هذه يتم الخلط بين الاستقامة والانحراف، ذلك بتقديم الانحراف والباطل والفساد على أنه استقامة وإصلاح وحق، ينبغي الدفاع عنه. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الناحية خير تعبير بقوله تعالى: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)) البقرة/ 11. تبين هذه الآية إدعاء أهل الفساد أنهم مصلحين. لهذا يقول مثل هؤلاء الأدعياء ويبينوا للمجتمع أن رأيهم كان صحيحاً طبقاً لحساباتهم واستنتاجاتهم، حينها ينطبق عليهم القول: "إن رأي كل إنسان صحيح بالنسبة إليه". لكنهم في الحقيقة أنهم يموهون، ويشبهون الاستقامة والحق بالانحراف والباطل، كما يبين ذلك الامام بقوله: "يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون". لكن، بالتأكيد، لا يقوم بعملية الخلط والتمويه هذه، إلا أشخاص محترفون، يمتلكون القوة والدهاء والمقدرة في استعمال أساليب ملتوية لقلب الحقائق لصالحهم، بجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً. لذلك يصعب على فئات واسعة من المجتمع التمييز ومعرفة ما يقوم به هؤلاء من أفعال باطلة. لكن ذلك لن يكون صعباً على العلماء والمفكرين والحكماء المخلصين وأصحاب الخبرة.
لقد بين الإمام علي، كيف تتم عملية الخلط المقصودة، بين الحق والباطل، بقوله:"... ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان". الضغث: قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس. والمعنى، أنه يؤخذ من الحق شيئأ، ومن الباطل شيئاً فيخلطان.
إذن الغاية الأساسية من عملية الخلط هي حرف الاستقامة عن مسارها، من أجل التمويه والخداع. هذا يتطلب التحضير اللازم المسبق والإعداد الجيد لهذه العملية، كما يقول الإمام: "قد أعدّوا لكل حق باطلاً، ولكل قائم مائلاً، ولكل حي قاتلاً، ولكل باب مفتاحاً، ولكل ليل مصباحاً". لذلك نجد الذين يقومون بهذه العملية، يجتهدون في ابتكار مختلف الحجج والبراهين ويحشدونها تحت ستار الاستقامة، لإثبات توجهاتهم ومنطلقاتهم المنحرفة وتبريرها، وحتماً سيجدونها في المجتمع.
لذلك فإن تمييز الاستقامة عن الانحراف، تتطلب من عامة الناس جهداً كبيراً وفحصاً دقيقاً ومعياراً صائباً لإظهارها وكشف خباياها، كما يبين الإمام، بقوله: "فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه". ويقول أيضاً: "ولا يدرك الحق إلا بالجد". كل ذلك يتم بسبب أن الإنحراف يجري خلف كلمات مهيبة مثل الدفاع والشرف والوطنية والاخلاص. ومن شدة التباس الأمور في زمن الانحراف، يصبح الحصول على مكسب حلال عملية صعبة جداً، وأشدّ من ضربة السيف، كما يصف ذلك الإمام: "...حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حله".
3. القوة الدافعة وراء انحرافات النفس البشرية
إن القوة المحركة الدافعة خلف انحرافات النفس البشرية، تكمن في عاملين أساسيين متداخلين، هما غرائز الإنسان وطبعه. أي الدوافع الراسخة في حاجات الإنسان البيولوجية، وفي عواطفه ورغباته. ويبدأ انحراف النفس البشرية، عندما يلجأ الإنسان في تحقيق واشباع غرائزه ورغباته ومصالحه، بأساليب غير أخلاقية، غير إنسانية، من غش وكذب وخداع واحتيال وعدوانية وقسوة. كذلك يلجأ إلى هذه الأساليب عندما يجد نفسه لا ينتفع من السير على طريق الاستقامة، أو أن مصالحه تتضرر من ذلك.
وعلى هذا الأساس يقف كثير من الناس ضد الاستقامة، غالباً، بصورة غير مباشرة، حينما تتعارض الاستقامة مع أهوائهم وشهواتهم وغاياتهم. بهذه الحالة هم يسيرون في طريق الانحراف فعلياً، لأنهم يدافعون عن أنفسهم ووجودهم أزاء هجوم الحق والعدل.
إذن كل الرغبات غير الجسدية، كالرغبة الحثيثة للشهرة والسيطرة والطمع والتهالك على الزعامة والتهافت نحو الثروة والكسب، وأسلوب التنافس غير الأخلاقي، تتأصل جذورها في بنية طبع الإنسان وغرائزه. بهذه الحالة تصبح القوة الدافعة وراء كل هذه الأفعال المنحرفة، هي حفظ ذات الإنسان، وتلبية رغباته والسعي وراءها دون رحمة. ومن هذه الأفعال الأساسية هو "الطمع"، أي الرغبة الشديدة في الشيء واشتهاؤه، الذي يؤدي بالإنسان أن يتناول ما ليس بحق، ومن ثم تكون نتيجته المهاوي والهلاك، كما يوضح ذلك الامام علي، بقوله: "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع". ويحذر أيضاً من التهافت نحو الطمع بقوله: "وإياك أن توجف بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة". توجف: تسرع. ومن الأفعال الأخرى، هي التكالب على لذائذ الدنيا، حيث يحذر الإمام الغفلة والانخداع بها، بقوله: " وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها". ويبين أن التكالب على الدنيا يجعل الناس لا يبصرون ويؤدي بهم إلى السير في طريق الانحراف، فيقول: " سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها واتخذوها رباً".
إن المعضلة المرافقة لهذه الرغبات المنحرفة، هي أن السعي وراءها لا ينتهي، ولا يشفى غليلها، عند الإنسان، ولا تختفي بإشباعها، لأنه يقع في صميم طبيعة هذه الرغبات فكرة لا يمكن اشباعها، كما يقول أيريك فروم في كتابه "الإنسان من أجل ذاته". وحتى لو استطاع المرء أن يشبع كل رغابته... سيبقى متوتراً، ويتخيل أن الاشباعات دائمة الازدياد سوف تشفيه من الجشع وتعيد توازنه الداخلي. وقد وصف الامام علي، الاستمرار في طلب الرغبات، وأن الإنسان، إن حصل على ما يريد، لم يكتفي، إنما يريد المزيد، بقوله: " إن أعطي منها (أي من الدنيا) لم يشبع ". كذلك يخاطب الإنسان بقوله: "واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك". لأنه عندما يحصل الانسان على مطلوب وتحقيق أمل، يتجدد له آخر، وهكذا حتى يرد الموت. ويبين كذلك أنه من تهالك في حب لذائذ الدنيا أصيب بثلاث أمراض نفسية، الهم والحرص والأمل غير المنتهي، كما في قوله: "ومن لهج قلبه بحب الدنيا التاط قلبه منها بثلاث: همِ لا يغبه، وحرص لا يتركه، وأمل لا يدركه". لهج: أولع. ألتاط: ألتصق. لايغبه: لا يفارقه. فالإنسان بهذه الحالة الأخيرة، لو ملك شيئاً لابتغى آخر وهكذا.
إذن الجشع، هنا، راسخ الجذور في الطبيعة الحيوانية للإنسان، بل في ذهنه وتخيله. إذن الرغبات لها جذورها في النواقص التي يعاني منها الإنسان، التي تظهر في اضطراب هذا الإنسان وقلقه، مما يجبره على فعل الرغبات المنحرفة.
4. حالة المجتمع عند طغيان انحرافات النفس البشرية
في ظل شيوع الانحرافات عن معايير الأخلاق الحميدة في المجتمع، حيث يكون الحق مخفياً والباطل ظاهراً، لابد من بروز أنماطاً من السلوك يطغى عليها النفاق والرياء، والقطيعة بين القول والفعل، وسيطرة أصحاب الضلالة، وقلة عدد الذين لهم القدرة على مجابهة أصحاب النفوذ، بقول الحق وإبانة الصدق. وتغير الموازين التي تقاس بها أفعال الناس وتصرفاتهم، كما يظهر التناقض في سلوك الناس وازدواجيته. يصف الإمام كثير من هذه الحالات وغيرها، لكننا سنذكر قسماً منها.
فمثلاً حين يصف حال الفاسقين، يقول: "كأني أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر فإلفه....ثم أقبل مزبداً كالتيار لا يبالي ما غرق، أو كوقع النار في الهشيم، لا يحفل ما حرق". إن هذا القول له ناحيتين شديدتي الأهمية. الأولى، هي أن خصال الانحراف والباطل ارتبط بالطبيعة التكوينية للفاسق، ارتباطاً وثيقاً، وأصبحت جزءاً من حياته. أما الناحية الثانية، فهي أن هذا الفاسق، عند قيامه بأعماله المنكرة لا يهمه ما يقع للآخرين من ظلم واجحاف. كما يبين الامام، اختفاء الحق والصدق، مقابل انتشار الباطل والكذب، فيقول: " وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل... ولا في البلاد أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر". ويقول أيضاً: " غار الصدق، وخاض الكذب". ثم يبين أن أحكام الدين ستتبدل وتنقلب:"...ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا".
ويبين الإمام حالة النفاق عند الإنسان، ذلك في ازدواجية أفعاله، عند القيام بفعلين متعاكسين في آن واحد، كي لا تتضرر مصالحه:" يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره". أي يرى الحق دائماً معه، وأن خصمه على باطل. كذلك يقول:" ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي". بمعنى يمنع الآخرين ويطلب منهم ترك الأفعال المشينة، لكنه في الوقت ذاته، لا يكف عن هذه الأفعال، ويأمر بما لا يمكن حصوله.
بعد ذلك يبين الإمام كيف تتغير المقاييس، في حال انتشار الإنحراف في المجتمع، إذ ينظر الناس إلى الأشياء، بنظرة مغايرة للحقيقة. فيقول: "ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً". الكيس: العقل. هنا يتبدل مفهوم الغدر إلى معنى آخر، إذ يصبح من العقل والحكمة. كذلك تتغير مفاهيم الصدقة وصلة الرحم والعبادة، فيقول: " يأتي على الناس زمان... يعدون الصدقة غرماً، وصلة الرحم مناً، والعبادة استطالة على الناس". غرماً: خسارة. أي تصبح الصدقة، خسارة، وصلة الرحم استكثار وفخر وإحسان. أما العبادة فتصبح تفوقاً على الناس بالفضل.
وهناك قضية مؤلمة يبينها الإمام وهي أن الاحترام والتقدير يكون للمحتالين الفسقة، بينما المنصفين لا أحد يهتم بهم، فيقول: "يأتي على الناس زمان لا يقرب منه إلا الماحل، ولا يظرّف إلا الفاجر، ولا يضعّف فيه إلا المنصف".
إذن في الختام، أن الخلاصة التي نستنتجها من هذا المقال هي أن معظم الخصال المنحرفة التي ذكرناها تنطبق على ما يجري في زماننا الحالي، هذا أولاً. ثانياً، أن كثير من الأقوياء والأثرياء هم سبب ونتيجة للإنحراف والتمويه والخداع. ثالثاً، أن هؤلاء الأقوياء والأثرياء يساعدون ويحمون الضعفاء الذين يخضعون لهم فقط. رابعاً، أن التهالك على السلطة والثروة والزعامة، صفة متأصلة عند كثير من الناس. خامساً، أن التنقيب عن الإستقامة وفرزها عن الإنحراف، أصبحت عملية شديدة الصعوبة. كما ينبغي التنويه، أننا استندنا في أقوال الإمام علي(ع)، من مصدرين، هما "كتاب نهج البلاغة شرح محمد عبده"، و" كتاب نهج البلاغة شرح علي محمد دخيل".
اضف تعليق