q
هذه التنظيمات حتى تنهض من ضعفها وتنجح في الوصول أو الاقتراب من أهدافها ينبغي تغيير العقليات السائدة فيه فضلا عن ذلك، تغيير أو ابتكار وسائل جديدة للعمل السياسي، مثل الاهتمام بالدراسات والأبحاث العلمية واستطلاعات الرأي، والاهتمام أو تأسيس قاعدة بيانات أو ما يسمى مخازن التفكير...

كـَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عند بعض التنظيمات السياسية عن الحاجة إلى "التغيير"، ويقصدون به التغيير السياسي، في بنية نظام الحكم، غير أنهم نسوا أو تناسوا الركن الأساسي للتغيير، وهو التغيير الإجتماعي للأفراد عامةً، ولتنظيماتهم السياسية خاصةً، التي أصبح الوصول إلى تحقيق أهدافها أو الاقتراب منه بعيداً، أو أنه استغرق وقتاً طويلاً، أو أنها لم تحقق من الهدف شيئاً كثيراً. لذلك فإن تركيزنا في هذا المقال سيكون عن الحاجة للتغيير في بنية التنظيمات السياسية وتركيبها ووسائلها وغاياتها، ولماذا تعارض أو تقاوم أي توجهات جدية لتغيير أساليبها وبرامجها ومخططاتها.

إن أسباب التغيير، متعددة، متشعبة، نذكر منها تعرّض التنظيمات السياسية باستمرار إلى إخفاقات وانتكاسات وأخطاء عميقة أثناء مسيرتها الطويلة، التي يعود معظمها إلى اتخاذ قرارات غير صائبة أو القيام بأفعال غير سليمة، أو تبنّي آراء غير مدروسة بشكل جيد، متسرّعة، بعيدة عن الواقع، وحتى بعيد عن التوجه العام لأعضائها. 

وإذا كان هناك ثمة استشارات، فهي لا تتجاوز استشارات بعض الأشخاص الذين يكونون عادةً مؤيدين لهذه التوجهات. ومن المفيد الرجوع إلى كتاب جان ماري دانكان "علم السياسة" الذي يبين أحد أسباب فشل هذه التنظيمات السياسية في تحقيق أهدافها بقوله: "إذا كانت بعض نظريات علم السياسة قد فشلت، فذلك لأن طموحها كان عند نقطة الانطلاق غير معقول...

 ويمضي بالقول: لقد أدى الفشل النسبي على الأقل، لهذه الجهود التنظيرية إلى إحداث أزمة في العلوم الاجتماعية. فمعرفة العام لا يمكن بلوغها إلا من خلال معرفة الخاص. ومعرفة الخاص بحد ذاتها، مشروطة بجهد نظري يستهدف إعداد المفاهيم ويستلزم وجود منهج مجرد وعام بدونه ستبقى هذه المعرفة مجرد تكرار للمعطيات. يجب أولا ملاحظة أن الأسس النظرية لمثل هذه المحاولات انتهت للإفلاس، لكن التناقض يبدو ساطعا بين الأسس الفكرية المعلنة والمنتج الذي تم الحصول عليه".

ومن أسباب توقف التغيير في بنية التنظيمات السياسة، هو تعطل آلية ما يطلق عليه جان ماري دانكان في كتابه السابق "دورة النخب". فالنخب القديمة تتمسك بالقيادة، لكن الأخرى الفتية والفاعلة تريد الوصول إليها، قبل أن تُطرد بدورها، فيما بعد..هذه العملية تسمى "دورة النخب".

إن ظاهرة حلول نخبة جديدة محل القديمة تتم بطريقة غير محسوسة، لكن آليتها تتعطل فجأة أحيانا. فالكثير من الأفراد قليلي الجدارة نجحوا في الدخول إلى صفوف النخبة، والبقاء فيها. كما أن النخب القديمة تتمكن بشكل تعسفي من احتكار القيادة بحيث لا تتمكن النخب الجديدة من الوصول إليها. إن مثل هذه الأوضاع تثير ضغطا يؤدي لانفجار عنيف. ومن نتائجه الانشقاقات وخروج أفراد من هذه التنظيمات.

ومن الأسباب الأخرى، هو إهمال أو تجاهل الاقتراحات أو النصائح أو الآراء التي يطرحها كثير من المفكرين والمخلصين، سواء من داخل هذه التنظيمات أو من خارجها، لأن قيادات هذه التنظيمات كثيراً ما يتصورون أنفسهم متفوقين في كل شيء، ولذلك لا يرغبون سماع الحقيقة أو أي رأي مخالف لهم، لأنهم لا يريدون أن تتحطم أوهامهم كما يقول فريدريك نيتشه، حيث أن كثير من هذه التنظيمات تعتبر، مع الأسف، النقد الموجه إليها "إهانة"، والاختلاف معها "خيانة". 

وعلى ذكر النصيحة، يقول أفلاطون، "من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئا، فسوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى سعر". ولهذا فإن هذه التنظيمات تريد التأييد فحسب، هذه هو شعارهم.

نعم من حق هذه التنظيمات أن يكون لها "رأي" تعتقد فيه وتدافع عنه، لكن ليس من حقها أن تسميه "الحقيقة". وعلى هذا الأساس لا جدوى من الحوار مع أي فرد من هذه التنظيمات لأنه عبد تابع، ذليل، خاضع، خانع، بلا إرادة، عقله وقف في خدمة وتبرير عقيدته، كلما جادلته ازداد تعصبا وحقدا. إنهم السلبيون الذين يمتلكون عقدة لكل حل.

 إذن تقديس القيادات والطاعة العمياء لكل أفكارهم وأعمالهم وأقوالهم من أهم أسباب توقف التغيير في هذه التنظيمات وضعفها. وأكثر ما تكرهه هذه التنظيمات، كما يقول شوبنهاور، هو وجود إنسان يفكر بشكل مختلف، لأنهم لا يكرهون رأيه فحسب بكن يكرهون جرأة هذا الإنسان على امتلاك الشجاعة للتفكير ليكون مختلفاً.

ومن الأسباب الأخرى هو استصغار الأمور أو شيئا من الخطأ أو الزلل، وعدم القدرة على قراءة صفحة المستقبل بما كان، وفي ملابسات الحاضر وإمكانياته. كذلك انتهاج سياسة غير واقعية، وهي أن تفعل ذات الشيء مرة بعد أخرى، وتتوقع نتائج مختلفة. 

إذن على هذه التنظيمات حتى تنهض من ضعفها وتنجح في الوصول أو الاقتراب من أهدافها ينبغي تغيير العقليات السائدة فيه فضلا عن ذلك، تغيير أو ابتكار وسائل جديدة للعمل السياسي، مثل الاهتمام بالدراسات والأبحاث العلمية واستطلاعات الرأي، والاهتمام أو تأسيس قاعدة بيانات أو ما يسمى "مخازن التفكير". فالدراسات وركيزتها البحث العلمي، هي التي تطرح نتائج تتضمن إعادة صياغة بدائل واحتمالات متوقعة.

وأخيرا، وكما هو متوقع أن كل من يدفع باتجاه التغيير يجابه من أصحاب العقول الجامدة، وأصحاب المركزية الشديدة، بالرغبة الجامحة في إبقاء الموجود، وذلك من أجل مواقعهم ومصالحهم ومنافعهم الخاصة. والشخص ذو التفكير الجامد، مغلق الذهن لا يستطيع أن يتقبل أفكار غيره ويتفهمها.

وأن ما يدفع التنظيمات السياسية ويساعدها في النجاح والتطوّر هو الجرأة. الجرأة في التفكير، والجرأة في التنفيذ، والجرأة في تقبل الفشل ومراجعته. أضف إلى ذلك اعتماد المنهج العلمي في التحليل والاستنتاج المنطقي، لأن العلم هو حصيلة خبرات كثيرة انصبت آخر الأمر في قواعد، ولذلك قالوا: إن القاعدة الصحيحة هي التي تصح عند التطبيق.

* باحث وأكاديمي عراقي

اضف تعليق