كل طرف سياسي لا يعجبه أي شيء يصدر من الآخر، لهذا يحاول تحجيمه والانتقاص منه وتسفيه آرائه وتخطيئها. والأفضل من ذلك فإن الأطراف السياسية الناجحة تدير خلافاتها بمعايير منطقية واضحة، فلا تدعها تنفجر. الأزمة الحقيقية، هي أزمة وعي، والثورة الحقيقية هي ثورة الوعي، لأن "الديمقراطية"، هي مرحلة متقدمة...
لقد كتبتُ، وكتب غيري، كثيراً عن خصائص المجتمعات السياسية المتخلفة، لكن الأمر المؤسف، أن هذه الكتابات لم تلق أي صدىً لدى معظم السياسيين الفاشلين. لذلك آثرنا أن نكتب مرة أخرى عن خصائص هؤلاء السياسيين وتصرفاتهم بوجه عام، لعل هناك مَن يقرأ ويتعظ.
1. اعتماد التخمين للتعامل مع مشكلات المجتمع.
التخمين يعني العمل بآلية الحدس والظن والوهم، الذي قد يُخطأ وقد يصيب. لذلك فالسياسي الفاشل لا يعتمد على التفكير المنطقي العميق، القائم على دراسة المشكلات وتحليلها ومعرفة أسبابها والتوصل إلى نتائجها، ويكتفي ويقتنع بما يمليه عليه هواه وظنّه، ويبني عليه الحلول والأعمال والقرارات التي تكون في غالب الأحوال مستعجلة. لكن الممارسة والتجربة تبين فيما بعد، بأغلب الأحيان، أن تخمينه كان خاطئاً.
2. ليس هناك قدرة على التنبؤ عن المستقبل.
إن الكلام عن المستقبل ليس من باب كشف الغيب، واستعمال العرافة والكهانة، إنما هو دراسة علمية للحيثيات والمسببات والظروف التي يمر بها والتي مرّ بها المجتمع، لاستشعار ما قد يترتب عليها من نتائج، وتحديد ما يحتمل حدوثه، في عملية اختيار عن كيف يمكن الرد على حدث معين، وفقاً للمناهج والطرائق العلمية. كل ذلك حتى لا يأتي اليوم الذي يقول فيه ذلك السياسي الفاشل: "لم يخطر على بالي"، لأنه لا يمتلك بصيرة الرؤية من بعيد، ورؤية ما حوله، في الوقت ذاته، لذلك يتجلّى الفشل بوضوح في كثير من سياساته وقراراته. إذن التنبؤ الذي نقصده هو التنبؤ العلمي، الذي يستند -كما جاء في المعجم الفلسفي المختصر- إلى وجود رابطة موضوعية بين الظواهر.
3. غياب خطة عمل لإدارة الدولة.
من السمات الرئيسية للسياسيين الفاشلين في إدارة الدولة، أنهم لا يعرفون ماذا يريدون وما هي أهدافهم وماهي خططهم في الاقتصاد والتعليم والصحة إلخ، لأنه ليس لديهم رؤية واضحة مفصلة في بناء المجتمع واصلاحه. وكل ما يعرفوه هو أن السلطة هي غاية وليست وسيلة لتطوير المجتمع وتقدمه، وأنها، أي السلطة، هي غنيمة وذلك بالحصول على المناصب وغيرها من الامتيازات وتحقيق مصالحهم الخاصة. وفي هذا المجال يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "إن من أبغض الرجال إلى الله لعبداً وكله الله إلى نفسه، جائراً عن قصد السبيل، سائراً بغير دليل...".
4. رفض النقد والنفور من الموعظة والنصيحة.
النقد، طريقة لكشف الأخطاء والتناقضات في النظرية والممارسة التي تعيق مسيرة المجتمع إلى الأمام، وتُعد إحدى القوى الدافعة لتطور المجتمع وتقدمه. هذا النقد، الذي ينبغي أن يكون بناءً، لا يكتفي بالتدليل على المثالب، إنما يشير إلى سبل التخلص منها أيضاً. ومن المؤسف أن هناك بعض السياسيين لا يتقبلون النقد والنصيحة ويرفضون الأفكار التي تأتي من غيرهم، لأنهم يظنون أنهم الأفضل والأحسن.
فضلاً عن ذلك يعتبرون النقد إهانة لهم، والاختلاف معهم خيانة. والأسوأ من ذلك أنهم يحملون الكراهية والضغينة لكل من يجاهر بتوجيه النقد إليهم. وفوق ذلك أنهم لا يرغبون بالتغيير والتطوير لأنهم يظنون أنفسهم في الوضع الأفضل، مهما كانت أوضاعهم سيئة، لهذا يرفضون النصيحة وينفرون من الموعظة الحسنة، حتى لو كانت من العلماء والمفكرين المخلصين. وبهذا السياق يقول الإمام علي عليه السلام أيضاً في عهده لمالك الأشتر لما ولاه مصر: "وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك". المنافثة: المحادثة. غير أن الأمر مختلف عند السياسيين الفاشلين، فهم أكثر الناس ابتعاداً عن العلماء والحكماء.
5. امتلاك قدرة فائقة على التبرير واختلاق الحجج والذرائع.
القضية المؤلمة بالنسبة لنا هي تلك القدرة الفائقة التي يمتلكها أولئك السياسيين الفاشلين، في تبرير الأخطاء، والدفاع عن الفشل بذات الوقت. وقد وصف الدكتور علي الوردي هذه الحالة وصفاً رائعاً، بقوله: "إن العقل البشري قادر أن يختلق الحجج التي يتذرع بها لتبرير أي عمل يقوم به مهما كان سيئاً". لهذا فالسياسي الفاشل لا يعترف بالهزيمة والتقصير، ولا يتقبل الكارثة أو الإخفاق كأمر واقع، ولا يستطيع الاعتراف بمسؤوليته المباشرة فيما حل به وبالمجموعة التي ينتمي إليها وبالمجتمع بوجه عام، لذلك فهو إما يهرب من الواقع أو يلقي اللوم عن فشله على الآخرين، أو يستجيب بالعدوان أو يوهم نفسه أن الأمر عابر. وفي حالات أخرى يتذرع بعض السياسيين أنهم ضحايا تخطيط داخلي أو خارجي، بينما هم في حقيقة الأمر قد سمحوا لأنفسهم أن يصبحوا ضحايا.
6. صعوبة القبول بوسائل حل التنازع.
إن الاختلافات والنزاعات بين الأطراف السياسية، عديدة، لكن وسائل حلّها محدودة، كما أن الاعتراف بنتائج هذه الحلول يواجه كثير من حالات الرفض، وهي حالة نسبية حسب نفعها أو ضررها لهذا الطرف أو ذاك. يبين هذه الحالة الدكتور علي الوردي أيضاً بقوله: "عند التنازع، فإن العقل لا يصلح أن يكون حكماً بين الناس لحل هذا التنازع، فكل فريق من المتنازعين حين يحتكم إلى عقله، يتصور أن الحق معه، وأن الباطل مع خصمه، ولا يمكن حل التنازع بين الخصمين سلمياً إلا عن طريق فريق ثالث، يقبلان حكمه، أو هو قادر على فرض حكمه عليهما بالقوة".
ونشير هنا إلى بعض القضايا التي تخص حل التنازع:
القضية الأولى، أن الفريق الثالث يمكن أن يتألف من العقلاء والحكماء، الذي ينبغي أن يكون مقبولاً من طرفي النزاع، وهو أمر صعب التحقيق بالنسبة للسياسيين الفاشلين.
القضية الثانية، هي وجود المحكمة العليا، وهي الأخرى تكون قراراتها مرفوضة، أحياناً، لدى بعض الأطراف، حين لا تتوافق نتائجها مع مصالحهم.
والقضية الثالثة، هي اللجوء إلى مجلس النواب لحسم الخلافات، وهي أيضاً خاضعة للمساومات والتوافق بين السياسيين الفاشلين.
القضية الرابعة، هي الشك الزائد، وفقدان الثقة بنوايا كل طرف من الأطراف المتصارعة. والشك الزائد هو مرض نفسي يعطل العمل السياسي ويزرع الريبة بين هذه الأطراف، مما يسيء إليهم جميعاً في النهاية.
القضية الخامسة، هي أن كل طرف سياسي لا يعجبه أي شيء يصدر من الآخر، لهذا يحاول تحجيمه والانتقاص منه وتسفيه آرائه وتخطيئها. والأفضل من ذلك فإن الأطراف السياسية الناجحة تدير خلافاتها بمعايير منطقية واضحة، فلا تدعها تنفجر.
وفي الختام، نقول أن الأزمة الحقيقية، هي أزمة وعي، والثورة الحقيقية هي ثورة الوعي، لأن "الديمقراطية"، هي مرحلة متقدمة، وهي بحاجة إلى هذا الوعي لتجاوز القديم الموروث، وانبثاق الجديد. والسؤال الهام الذي ينبغي علينا جميعاً الإجابة عليه هو كيف يمكننا رفع مستوى الوعي عند الفرد كي يمارس الديمقراطية بشكلها الصحيح.
اضف تعليق