لماذا يبذل الكثير جدًّا من الناس من وقتهم ومالهم وزادهم طواعيةً لأشخاص آخرين لم يلتقوا بهم قط، وربما يعيشون في الجهة الأخرى من البلد أو حتى الجانب الآخر من العالم؟ قد يكون العطاء بحقٍّ هو ما يُساعد نوعنا على البقاء؛ ومن ثَم فقد كُتب له البقاء بناءً عليه...
قبل عدة سنوات، كنتُ أقود السيارة بصحبة أولادي متَّجهِين إلى ماكدونالدز المحلي حين تجاوَزت سيارةٌ الإشارة الحمراء وكادت تصدمنا أثناء انعطافي نحو موقف السيارات. انحرفت تلك السيارة وتوقَّفت في ناحية بينما انحرفت أنا، وتوقَّفت في الناحية الأخرى، وبمُعجزةٍ لم تصطدم السيارتان بسرعة بالغة. بعد أن تنفَّست الصعداء، دخلت بالسيارة في المسار المخصَّص للبيع … وعندئذٍ أدركت أن السيارة التي كادَت تصطدم بنا كانت أمامنا مباشرةً.
حدَّد السائق الآخر ما سيطلبه ثم مضى بالسيارة لتسلُّم طعامه عند النافذة. أثناء انتظاري في الصف، لاحظت أن قائد السيارة كان مُستغرقًا في حوار طويل جدًّا من خلال نافذة البيع - كأن موظَّف الخزينة كان ابن عمِّه الذي ضلَّ عنه منذ زمن طويل أو شيئًا من هذا القبيل. راح حنقي يزداد أكثر فأكثر؛ إذ بدأت تجربة شرائي من نافذة ماكدونالدز بأننا نجونا بأعجوبة من حادث سيارة ثم ها هي ذي تستغرق ٢٠ دقيقة.
أخيرًا، ابتعدت السيارة الأخرى عن النافذة، وأثناء ذلك، أنزل قائدها الزجاج وأخرج يده ملوِّحًا لي بتحية وجيزة.
عندئذٍ، كنت غاضبة بعض الشيء، فأنزلت زجاج نافذتي أنا أيضًا. وأومأت له إيماءةً من نوع آخر.
ثم توقَّفت بالسيارة للحصول على طعامي وناولت موظَّفة الخزانة بطاقة الائتمان، لكنها ردَّتها على الفور، قائلةً: «لقد حاسب ذلك السائق الآخر على طلبكِ بالكامل.»
هنا شعرت بإحراج شديد - فقد كان هذا، على كل حال، بمثابة اعتذار ذلك السائق عن الحادث الوشيك. («لقد كدتُ أقتلكِ، لكنكِ ستَحصُلين على شطيرة ماكفمافين مجانًا، بذلك نكون متعادلين، أليس كذلك؟») وللأسف، لم يكن في وسعي سحب تلك الإيماءة التي أومأتها له ولا تجنُّب رؤية أبنائي لها.
لماذا إذن دفع سائق السيارة حساب طعامي؟ بلا شكٍّ ليُرضي ضميره إزاء ما حدث - للاعتذار عن القيادة المتهوِّرة وأنه كاد يَصطدِم بي. لقد جعلتني هذه الحركة أصفو، لكنها جعلته هو الآخر أيضًا راضيًا عن نفسه.
وهذه القصة تُسلِّط الضوء على أحد الأسباب الرئيسية وراء كون إسداء العون يُكسبنا مشاعرَ طيبة؛ إذ يستطيع أن يخرجنا من حالات مزاجية سيئة. بل ومن الممكن حتى أن يساعد الناس على التعافي من الحزن، كما أوضحت في بداية هذا الفصل. وكما قال مارك توين: «أفضل طريقة لتُدخِل البهجة في نفسك هي أن تُحاول إدخال البهجة على شخص آخر.»
تدعم الأبحاث العلمية التجريبية بشدة حدْس توين. من الممكن أن تُخفِّف مساعدةُ الناس من إحساسنا بالذنب وتُكفِّر عن خطأ اقترفناه، وهو ما يزيد بدورِه من شعورنا بالسعادة.
في واحدة من الدراسات، طلب الباحث من امرأة في الشارع أن تَلتقِط صورة له بكاميرا تبدو باهظة الثمن. وذكر أنَّ الكاميرا حسَّاسة، لكن كل ما يتعين عليها فعْله هو توجيهها والضغط على زر. لكنها حين ضغطت على الزر، لم تعمل الكاميرا. في بعض الأحيان، كان الرجل يتغاضى عن المشكلة بأن يقول: «إن الكاميرا كثيرًا ما تتعطَّل»، وفي أحيانٍ أخرى، كان يُشعِر المرأة بالذنب قائلًا لها إنها أتلفَت الكاميرا بالمبالغة في الضغط. بعد ذلك بينما كانت المرأة تمضي في الشارع، كانت امرأة أخرى تُسقِط ملفًّا مليئًا بالأوراق فتتناثر في الشارع.
مَن التي كانت تتوقَّف لمعاونتها في التقاط الأوراق؟ ٤٠ في المائة فقط من اللواتي لم يشعرن بالذنب ساعدْنها، في مقابل ٨٠ في المائة من اللائي شعرن بالذنب. تُوضِّح هذه الدراسة ببساطة كيف يمكِن أن يفيد العطاء في إخراجنا من حالة مزاجية سيئة.
للعطاء أثرٌ طيب في النفس
في عام ٢٠٠٧ مات باركر براون، ابن ابن عمي، في سن السابعة بسرطان الدم. لا شكَّ أن فقدان طفلٍ في تلك السن الصغيرة حدثٌ مأساوي ويغيِّر الحياة، لكن والدة باركر، سارا، كانت عازمة النية على أن يأتي خير من وراء وفاته. لذلك فقد طلبت من كل أصدقائها وأفراد أسرتها أن يُكرِموا ذكرى باركر بتسجيل أسمائهم في سجل التبرُّع بنخاع العظم.
وقد سجَّلت اسمي بدافع شعوري بالواجب. فقد كان ابني روبرت في نفس عمر باركر بالضبط، ولم أستطِع أن أتخيَّل حتى أنْ أمُرَّ بما كانت سارا تمرُّ به. لذلك فقد كان طلب التسجيل في سجل التبرُّع بنُخاع العظم طريقةً سهلة جدًّا لي للتعبير عن دعمي لسارا. فلم يكن التسجيل يستلزم سوى مسحةِ لعاب صغيرة بقطعة قطن، أجريتها في مطبخي ثم أرسلتها بالبريد.
لم يخطر السجل على بالي كثيرًا بعد ذلك، حتى تلقيت اتصالًا في خريف ٢٠١٥. فسمعت مَن يقول لي: «يبدو أنكِ قد تكونين مناسِبة للتبرُّع لأحد الأشخاص.» وبعد شهر، أمضيت يومًا في المستشفى لأخضع للإجراء الطبي اللازم.
أثناء مغادرتي المستشفى ذلك المساء، شعرت بفرحةٍ عارمة. فقد تسنَّت لي فرصة إنقاذ شخص على كل حال. ورغم أنني لا أعرف هذا الشخص، وربما لا ألتقي به أبدًا، فقد كانت هذه التجارب من أكثر التجارب البنَّاءة التي مررت بها على الإطلاق.
توضح هذه القصة كيف أن العطاء لا يساعد شخصًا آخر فحسب - بل يُساعدنا أيضًا على الشعور بالرضا. تذكَّر مرة حرَّرت فيها شيكًا لجمعية خيرية، أو أعطيت نقودًا لشخص مشرَّد، أو ساعدت غريبًا ضلَّ الطريق واحتاج إلى مَن يدُله. ربما كان دافعك للعطاء في تلك المواقف كلها أن تكون طيبًا أو كريمًا - أن تساعد شخصًا آخر. لكن كل أنواع العطاء هذه تجعلنا نحن أيضًا أشدَّ سعادة.
العطاء مُفيد للمخ أيضًا
بعد كل كارثة طبيعية - من حرائق الغابات التي اشتعلت في كاليفورنيا إلى الأعاصير التي أغرقت تكساس - يتقدَّم الغرباء لتقديم العون بطريقةٍ أو بأُخرى. بعض الناس يتبرَّعون بالمال والمؤن، ويُساعد آخرون بالبحث عن ناجين وإعادة إعمار المجتمعات المحلية. تحدُث أعمال المروءة هذه تلقائيًّا، ومن دون نفعٍ ظاهر لفاعل الخير.
لماذا يبذل الكثير جدًّا من الناس من وقتهم ومالهم وزادهم طواعيةً لأشخاص آخرين لم يلتقوا بهم قط، وربما يعيشون في الجهة الأخرى من البلد - أو حتى الجانب الآخر من العالم؟ قد يكون العطاء بحقٍّ هو ما يُساعد نوعنا على البقاء؛ ومن ثَم فقد كُتب له البقاء بناءً عليه من منظور التطور. بعبارة أدق، الذين يُساعدون الآخرين غالبًا ما يتلقون مساعدةً في المقابل، وهو ما يزيد من احتمال بقائهم (وجيناتهم).
وانسجامًا مع هذا الرأي، نجد العلاقة بين العطاء والشعور بالرضا قائمة حتى بين الأطفال الصغار، الذين لا يمكن حقًّا أن يكونوا قد بلغوا مرحلةَ فهْم تقدير المجتمع للعطاء. فعلى سبيل المثال، يشعر الأطفال في سن سنتين بالسعادة حين يعطون حلوى - مثل بسكويت جولدفيش - لأطفال آخرين تفوق سعادتهم حين يحتفظون بالحلوى لأنفسهم.
تأكيد آخر للرأي القائل بأن العطاء قد يكون موجودًا في جيناتنا يأتي من أبحاثٍ حديثة في علم الأعصاب. فعلى سبيل المثال، وضع الباحثون في إحدى الدراسات المشاركين في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لقياس تنشيط مخِّهم، ثم طلبوا منهم تأمُّل تلقي نقود لأنفسهم أو التبرُّع بالمال لمنظَّمة خيرية. مجرد التفكير في العطاء نشَّط جزءًا من المخ يعالج تجارب المكافأة؛ في الواقع، هذا هو الجزء الذي ينشط في المخ عند تناول الشوكولاتة! (وكذلك عند تعاطي الكوكايين، لكن يبدو ذلك مثالًا غير ملائم.) على النقيض، تلقِّي المال لأنفسنا يؤدِّي إلى مستوياتٍ أدنى من تنشيط المخ، مما يُوحي بأن العطاء أفضل أثرًا في النفس من الاستئثار بالأشياء لأنفسنا.
يكون ذلك التنشيط أكبر حين يختار الناس التبرعَ طواعيةً مقارنةً بما يكون عليه الحال حين يُطلَب منهم ذلك. لكن حتى التبرُّع الإجباري لمنظمات خيرية يثير بعض النشاط في المخ، مما يُشير إلى أن فعل العطاء في حدِّ ذاته يخلق شعورًا بالرضا.
اضف تعليق