إنَّ اضطراب الشخصية الانطوائية يضعف بنحو خطير ومستمر أداء الوظائف الشخصية، والمهنية، وهو من بين أكثر حالات اضطرابات الشخصية انتشارا، ويمتاز صاحبه بتجنب الاتصال بالأشخاص؛ بسبب المخاوف من النقد، أو عدم التقبل، أو الرفض، وهذا يؤدي إلى ظهور قيود خطيرة في القدرة على العمل في المواقع المهنية...
بقلم: الدكتور حمزة هاتف عبد الجبوري-جامعة القاسم الخضراء-كلية العلوم
تخصص: علم النفس الاجتماعي
إنَّ اضطراب الشخصية الانطوائية يضعف بنحو خطير ومستمر أداء الوظائف الشخصية، والمهنية، وهو من بين أكثر حالات اضطرابات الشخصية انتشارا، ويمتاز صاحبه بتجنب الاتصال بالأشخاص؛ بسبب المخاوف من النقد، أو عدم التقبل، أو الرفض، وهذا يؤدي إلى ظهور قيود خطيرة في القدرة على العمل في المواقع المهنية، فضلا عن إقامة علاقات شخصية مقيدة بشدة. ومما لا شكَّ فيه أنَّ احتمال توقع التعرض لمــواقف اجتماعية علـــــى وجه الخصوص تولد مستويات عالية مـــن القلق لدى الأفراد الذين يعانون من اضطراب الشخصية الانطوائية. (Hummelen&Karteud،2007،p348).
وعلى الرغم من تناول مجموعة كبيرة من البحوث والدراسات اضطراب الشخصية الانطوائية إلا أن القليل من الدراسات قد بحثت في بيولوجيا الجملة العصبية (علم الاحياء العصبي)، ولا سيما الميكانزمات العصبية المرتبطة بالاستجابة للقلق، وتلك التي تعمل في تنظيم الانفعالات، وتعدُّ الدراسة التي قام بها مجموعة من الباحثين التي تناولت موضوع الروابط العصبية لميكانزم تنظيمي ضمني، هي الدراسة الوحيدة المنشورة للتصوير العصبي الوظيفي للمرضى الانطوائيين، ووجدوا أنَّ المرضى الانطوائيين لم يعتادوا على تكرار عرض الصور السلبية، ولم يزيدوا من نشاط القشرة الحــــزامية الظهرية الأمامية المرتبطة بالتحكم المعرفي، وتقليل عدم الاستقرار العاطفي، قياسا بمستوى المتطوعين الاصحاء، ما يوفر دليلا أوليا على أن المـــــرضى الانطوائيين، يظهرون تنظيما ضمنيا شـــــاذا للانفعــــال، وهناك ميكانزم تنظيمي تكيفي يستعمل بصــــورة شائعة للانفعال، هو إعادة التقييم المعرفي (Gross،1998،p.271).
والحقيقة أنَّ هناك نوعان من الوسائل المستعملة بصورة شائعة لإعادة التقييم، الأوَّل: إعادة تفسير المواقف، والآخر: هو التباعد النفسي، أمَّا الأول فيتم فيه إنشاء سرد للمواقف المكروه، ويقوم بتصويره بنحو أكثر ايجابية، ومثاله: أنَّ مشهدا يصف رجلا مريضا متمدد في سرير المستشفى يكون أقل إزعاجا عندما يتخيل أنَّه بدأ يستجيب لعلاج فعال للغاية. أمّا الآخر فيتبنى الفرد فيه منظورا يعزز خبرا، أي: مواجهة الموقف، بوصفة بعيدا عن الذات، ومثاله: أنَّ استعمال الطبيب لغرفة الطوارئ لانعزال سريري، يساهم بفعّالية في وجود محفزات مزعجة. ولقد تم إعادة التقييم المعرفي، وارتباطاته العصبية على نطاق واسع في مجتمعات البحث عند الأصحّاء. (Buhle&Wager،2014،p.2981).
لقد حــــدد هذا العمل المناطق المعززة، عن طريق إعادة التقييم، (أي: المرتبطة بتنظيم الانفعال)، ومنها المرتبطة بالانتباه الانتقائي، والذاكرة العاملة، مثال هذا، أنَّ القشرة الحزامية الأمامية الظهرية، وقشرة الفص الجبهي الظهراتي الجانبي) متخصصتان بالحالة العقلية، وأنَّ قشرة الفص الجبهي الوسطي، متخصصة في اختيار الاستجابة، ومنعها، لا سيما قشرة الفص الجبهي البطني الجانبي، وتبيَّن أن هذا النشاط المرتبط بإعادة التقييم، يعدِّل من نشاط مناطق التقييم تحت القشرة، أي: المرتبطة بتفاعل الانفعال، ويزيد من فاعلية اللوزة الدماغية، التي يرتبط عملها بكشف محفزات الإثارة، والتهديد المحتمل، وقد ظهر في الدراسات التي تناولت الميكانزمات العصبية، وتوقع إعادة التقييم والتنفيذ في اضطراب الشخصية الانطوائية، أن هناك انماطا شاذة للنشاط أثناء إعادة التقييم، والمتضمنة على نحو خاص في فرط نشاط اللوزة الدماغية عند المرضى الذين يعانون من اضطراب المزاج، والقلق، والاكتئاب الشديد (Johnsrone & Kalin،2007،p.887).
ودلّت الإحصاءات عند العيِّنات المدروسة أنَّ اضطراب الشخصية الحدّية، واضطراب القلق الاجتماعي، يكون متغيرا، إلا أنَّها في العادة تكون أساسيه، وكبيرة لا سيما في اضطراب القلق الاجتماعي، المعروف أيضا بـ(الرهاب الاجتماعي المعمم)، وفي اضطراب الشخصية الانطوائية للمرضى، ولكن الاعتقاد السائد أنَّ اضطراب الشخصية الانطوائية، أكثر خطرا من الاضطرابين الأخيرين؛ من جهة الضعف الوظيفين وشدَّة الأعراض، علاوة على ذلك، إنَّ في عرض التحفيز يرتبط نشاط اللوزة الدماغية بتوقع أحداث مكروهة عند مرضى اضطراب القلق الاجتماعي، قياسا بالمشاركين من الأصحّاء.
وعلى الرغم من الآثار التي تظهر في مرضى اضطراب القلق الاجتماعي، إلا أنَّها أكبر من تلك التي تظهرها المجموعة الضابطة. ويعتمد تجنب المواقف الاجتماعية، الذي هو السمة المميزة لاضطراب الشخصية الانطوائية، على القلق الاستباقي.
(Hummelen، & Karterud،2007،p.383).
لقد دُرِس النشاط العصبي في الفترة التي يتوقع فيها المشاركون مهمة إعادة التقييم، وهو موقف يتوقعون فيه أن يحكم المجربون على أدائهم؛ لأن القلق في اضطراب الشخصية الانطوائية يرتبط بالمخاوف السلبية، وعدم التقبل، والرفض الاجتماعي، وهو يشمل الفئات المستخدمة للحوافز سابقا، مثل الخوف من الوجوه الغاضبة، أو المحتقرة. وعلى هذا يمكن القول إنَّ إعادة التقييم المعرفي للمرضى الانطوائيين، واستجابتهم للصور التي تصف مجموعة من المواقف الشخصية المكروهة، بما في ذلك الخسارة، يظهر المأساة والعدائية عندهم، وإذا ما قورنت الروابط العصبية لتوقع إعادة التقييم، فضلا عن التفاعل (رد الفعل )، مع إعادة تقييم الصور الاجتماعية المكروهة في المرضى الانطوائيين، والمشاركين من الأصحاء في استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI) يتَّضح أن المرضى الانطوائيين يظهرون قلقا مبالغا فيه، قياسا بالمشاركين من الأصحّاء، إذا ما قيس بالتقارير الذاتية السلوكية، فضلا عن التفاعل المرتفع في اللوزة الدماغية، لا سيما أثناء توقع إعادة التقييم.
الطرائق:
أجريت دراسة تم تعين فيها 23 مشاركا من الانطوائيين، و 24 مشاركا من الأصحّاء، من العيادات الخارجية للمركز الطبي لجبل سيناي، والمركز الطبي va لجيمس جي بيترز من مدينة نيويورك، ومن إعلانات الصحف، والانترنت. وقدم جميع المشاركين موافقة مسبقة مكتوبة؛ للمشاركة، بعد توضيح كل الإجراءات بنحو كامل، وفقا لأنظمة مجلس المراجعة المؤسسية في كلية طب إيكاهن Icahn في جبل سيناي. وتم استبعاد ستة مشاركين انطوائيين، و3 مشاركين أصحاء، لأسباب فنية.
إنَّ النتائج الحالية تعكس البيانات المتحصلة من 17 مشاركا انطوائيا، و21 مشاركا صحيحا، وقد لبى المشاركون في المجموعة الانطوائية معايير DSM-IV لاضطراب الشخصية الانطوائية، ولم يلبوا معايير اضطراب الشخصية الحدية، أو الفصامية. وقد استبعد المشاركون الذين لبوا معايير اضطراب الضغط ما بعد الصدمة، في الماضي أو في الحاضر، والمصابون باضطراب ثنائي القطب الاول، وبالاضطراب العاطفي الفصامي، والمصابين بالأمراض العصبية للجهاز العصبي المركزي، واضطراب نوبات الصرع، واضطراب تعاطي المخدرات في الستة اشهر السابقة، وفي الاضطراب الاكتئابي الشديد.
وتم أيضا استبعاد المشاركين المصابين بمرض طبي خطير، والنساء الحوامل، وأولئك الذين يعانون من التفكير الانتحاري الحالي، وكان ينبغي أيضا خلو المشاركين من الأدوية النفسية على مدى إسبوعين (6 اسابيع للفلوكستين )، ولم يستوف المشاركون الأصحّاء معايير DSM-IM اضطراب في المحور الأول، أو الثاني، ولم يلبوا أية معايير أخر للاستبعاد، كما مبين أعلاه.
لقد تم عمل التقييمات التشخيصية باستعمال المقابلة السريرية المنظمة لطبيعة مريضDSM-IV، والمقابلة السريرية المنظمة لاضطرابات شخصية المحور الثاني من DSM-IV وكما هو متوقع، كانت نسبة مرضية وعالية، مع اضطراب القلق الاجتماعي في العينة الانطوائية. ولبى سبعة مشاركين انطوائيين معايير القلق الاجتماعي، و(6) كانوا من الرهاب الاجتماعي المخصص (الخاص).
تضمنت تشخيصات المحور الاول الاكتئاب الشديد في (3) مشاركين، وتعاطي المخدرات في مشاركين اثنين، واضطراب الهلع في مشارك واحد، واضطراب الأكل في مشارك واحد. وشملت التشخيصات المرضية للمحور الثاني في العينة الانطوائية 14 مشاركا يعانون من اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية، و(2) من المصابين باضطرابات شخصية جنون العظمة، و(1) من اضطراب الشخصية الاعتمادية.
وهناك محاولة أخرى درست الروابط العصبية لإعادة التقييم في مرضى اضطراب الشخصية الحـــــدية، الذين بينت أيضا أنَّهم اظهروا في تنظيم الانفعال الواضح في استجابة للمواقف الاجتماعية، قياسا بالمشاركين الأصحَّاء Koenigsberg،et al،2009 وتألفت حوافز المهمة من 64 صورة سلبية، و32 محايدة مستمدة من نظام الصور العاطفية العالمية (IAPS) وبالنظر لأهمية الاستجابات المختلة التنظيم على المنبهات (التلميحات ) الاجتماعية في ظواهر اضطراب الشخصية الانطوائية، استخدم فقط الصور الاجتماعية التي شملت على الأقل شخصا واحد لكل من مجموعتي الصور السلبية والمحايدة.
المناقشة:
تبيَّن من الدراسة الأولى للميكانزمات العصبية، التي تحدد إعادة التقييم المعرفي في اضطراب الشخصية الانطوائية، أن في أثناء إظهار تشابهات واسعة بالمشاركين الاصحَّاء في الميكانزمات السلوكية والعصبية التي تم تجنيدهم أثناء إعادة تقييم الصور الاجتماعية السلبية، أظهر المرضى الانطوائيون تفاعلا متصاعدا في اللوز الدماغية، وهي منطقة الدماغ المرتبطة على وجه الخصوص بالتقييم الانفعالي السلبي، لا سيما توقع إعادة الصور السلبية. واظهر المرضى الانطوائيون تقارير ذاتية متصاعدة؛ لقلق الحالة والسمنة، قياسا بالمشاركين الأصحّاء، وهذه التقارير ارتبطت ايجابيا وبصورة كبيرة بالمشاركين.
وأثناء توقع أعادة التقييم، أظهر المرضى الانطوائيون فرطا واضح التفاعل في اللوزة الدماغية الثنائية الجوانب، وبأسلوب متسق، مع عمل سابق يقيم الروابط العصبية للقلق الاستباقي في مرضى اضطراب القلق الاجتماعي. وفي الحقيقة، يشترك اضطراب الشخصية الانطوائية في كثير من الأحيان مع اضطراب القلق الاجتماعي، وهي حالة تتصف بخوف ملحوظ من المواقع الاجتماعية، إذ يتعرض الفرد الى تدقيق محتمل من الآخرين، ويهيمن الخوف عليه من المواقف الاجتماعية، فيجنبها، بوصفة صفة متحدية لاضطراب القلق الاجتماعي، بينما يؤكد اضطراب الشخصية الانطوائية على الخوف من النقد الاجتماعي، وعدم التقبل والرفض بوصفها محفزات للتجنب الاجتماعي.
ووجدت الدراسة فروقا سلوكية قوية بالفعل بين المشاركين الانطوائيين والاصحاء في قلق التقرير الذاتي (المبلغ عنه ذاتيا)، إلا أننا لم نجد دليلا على الفروق في المهمة في فعالية إعادة تقييم التقرير الذاتي عبر المجموعات. بينما تكون هذه النتائج هي التقارير الأولى لأداء إعادة التقييم في المرضى الانطوائيين، إلا أنَّها متسقة مع النتائج السابقة حول إعادة التقييم في مرضى اضطراب القلق الاجتماعي. وكما في بقية الدراسات، وجد أنه لم يكن هناك أي تفاعل بالحالة (بالضرف)، دال معنويا في التقارير الذاتية لإعادة التقييم السلوكي بين المجموعات الضابطة للمرضى وللأصحَّاء. علاوة على ذلك، وُجِد تشابه بين المرضى الانطوائيين و المشاركين الاصحّاء في جوانب الاستجابة العصبية أثناء إعادة التقييم. إن نشاط اللوزة الدماغية المتصاعد في المرضى الانطوائيين وتحسبا لمهمة إعادة تقييم المتضمنة حوافز اجتماعية سلبية يشير إلى أنَّ التداخلات السلوكية التي تقلل من تنظيم اللوزة في سياقات اجتماعية متوقعة قد يترك أثرا مهما في معالجة اضطراب الشخصية الانطوائية.
اضف تعليق