العقل بحسب العلماء هو رديف الحكمة ومنتِجها، وإنْ أُصيبَ بالعجز عن هذا النوع من الإنتاج، فثمَّة تداعيات ترهن العقلَ وتُشْبِعهُ بالرديء من الأفكار، كأنْ تنحو الى تعبئتهِ بالتطرّف على حساب العقلانيّة المعتدلة، فالأخيرة تشكّل محورَ الاعتدال في السلوك الذي يجيءُ كمنتَجٍ للنوع الفكري وطبيعته، ولا يمكن التركيز على صدّ التداعيات المترسِّبة من نكوص العقل، ما لم ننجحْ بوضع حدٍّ للفكر الناقص، المنفعل، المشتَّت، كما في مؤثِّثات التطرف السياسي وسواه من أنواع أخرى.
إذاً نحن بإزاء تحدّيات وتداعيات النكوص العقلاني، وما تفرزه على التفكير والأفعال أو ردودها، والنكوص هنا هو الندّ المباشر للعقل المعتدل، كونه يتأتى من نضوب الوعي، وقلّة المنسوب الثقافي، وتلويث القواعد الإنسانية التي ستغدو عاجزة غن صنع حصانة العقل المعتدل، والبيئة التي ينشأ ويترعرع وينمو فيها عقل الإنسان هي المنتِج والمحرِّك والمؤثِّث له، على صعيد المعتقَد ومن ثمَّ على صعيد الفعل.
هذا المُستنتَج ليس وليد حقبة بذاتها، فمراحل التاريخ البشري على كوكب الأرض، تؤكّد هذا المستنتَج وترسّخ فحواه في كلّ المراحل الفائتة منها والمُعاشة راهناً، أي لبيئة العقل دور مركزي في صنع النكوص العقلاني، أو على العكس من هذا تماما، أي حين يصير العقل مصدر الاعتدال، فالبيئة أيضا هي التي تمنح العقل مثل هذا الامتياز الأقوى، وحين تكون مرتهَنة بالانفعال، ومُساقة بالتسرّع والتوتر والمحرّك العاطفي الانفعالي، فسوف يحضر النكوص العقلاني بقوة، ويتذبذب الفكر المنهجي حضورا وغيابا، تأثيراً وضعفاً، فيزدهر التطرّف وتُصاب التركيبة العقلية المعتدلة بالتكاسل، وقد تنشط في المنحى العكسي، وعند هذه النقطة يتعاظم النكوص العقلاني في مقابل ضمور الحكمة!.
إنَّ كل منابع التطرّف هي نتاج مباشر لتذبذب الفكر المنهجي، وعندما تُخلى مساحة عقلية واسعة من الحكمة لأيّ سببٍ كان، ستكون هذه المساحة نفسها مهيّأة لاستقبال البديل المضاد، لأنّ العقل لا يقبل وجود المساحات الفارغة فيه، فأما أن يُملَأْ بالفكر الأجود المنتمي للحكمة أو سيُملَأْ بالضد، ومنه وأكثره خطرا عل العقل هو (التطرف)، وهذه النقطة بالتحديد تمثّل منطلقا للنكوص العقلاني، هنا أيضا يُفترَض أن تبدأ لحظة المعالجة، كي يتم ملء الفراغ العقلي بما هو جيد من الأفكار والمبادئ لتكون المساحات العقلية الفارغة معبّأة بالأجود والأنسب والمعتدِل، فيتمّ ردع التطرف وعدم السماح له بغزو العقل.
هذه هي الخطوات التي تكفل تحييد النكوص العقلاني، وتضمن ردعاً مكتملا وفاعلا لأي فكر يسعى لتقويض الاعتدال كمنهج سياسي أو حياتي شامل، بالطبع ليس هذا الأمر سهلا أو متاحاً في جميع الظروف، أو لكل منْ يحتاجهُ، فالإعداد العلمي المبرمج لمكافحة النكوص العقلاني هو من فعل العقل أيضا، مضافاً إليه إرادة قيادية علمية حريصة كل الحرص على تنظيف البيئة من التطرف، مع الشروع بحملة جماعية، بعد التخطيط لها، لملء العقول ومساحات الفراغ بالمبادئ المعتدلة.
فالقضية إذاً بمثابة صراع عقلي بين قطبين، الأول النكوص، والثاني الحكمة، أما ساحة المعركة للمتصارِعيْن فهي العقل نفسه، فإن كان التطرف في أوْجِه مستغلّا ضعف الإرادة البشرية، سيكون النكوص العقلاني هو المنتَج الأكثر تدميرا للإنسان، وعلى العكس من ذلك، إذا كانت الحكمة والتفوق في الإرادة والبرمجة مهيّأة وحاضرة للفعل والتأثير، فإن العقل سوف يكون في أقوى الميول للحكمة والاعتدال، وهذا هو المبتغى، وهو السبيل الى كسب نتيجة الصراع بين القطبين سالفيّ الذكر.
يكثر مثل هذا الخلل بالعقول في المجتمعات الضامرة، فهي في الأعمّ الأغلب تكون بوّابة مشرعة الأظلاف لهجمات النكوص العقلي، أما تلك المجتمعات التي تصدّت بعلمية عملية للتطرف، فإنها نجحت في تحييد عوامل البيئة الضامرة المعبّأة بكل أصناف وأسباب الفكر المتطرف، وبالطبع لم يأتِ ذلك بضربة ساحر، ولا يتحقق في ليلة وضحاها، فقد ذكرنا فيما سبق، كيف يصبح التفوق على النكوص أمراً واقعاً، وأشرنا بتكرار الى الاستعداد والتمهيد العقلي لاستقبال الفكر الأجود من سواه، بسياق مبرمج وإرادة قيادية فكرية سياسية علمية، تعلن على الملأ أن الهدف المبتغى هو كبح التطرف ومعالجة النكوص العقلاني لصالح ما هو أفضل وأنجع.
ومن الأفضل أيضا أن تُدعَم جميع خطوات مكافحة الضمور الفكري، بخطوات وآليات معدَّة قبل البدء بعملية التصدي والمكافحة، فأنْ يكون العمل مرتجَلاً، لن يصبّ هذا في روافد النجاح، وطالما أنّ المطلوب هو ترميم العقل وحمايته من موجات الفكر المسيء، فلا يمكن أن تُركَن البرمجة والإعداد المسبَّق جانباً، ومع مواصلة هذا الجهد العلمي العملي المزدوج، بدراية ومثابرة وإصرار، فإنّ قطْف النتائج ذات المقبولية لن يكونَ بعيد الأمد، أو محالاً، وهذا ما يُستَشَفّ ممّنْ سبقونا في مكافحة التطرّف والنكوص العقلي.
إن دراسة وتمحيص ما سبق - في الأمم الأخرى- من مكافحات وتصديات للخلل العقلي، سوف يمدّنا بكثير من الخبرة، فلا بأس من التداخل مع ما مضى من تجارب في هذا المدار، على العكس، سوف يمدّنا ذلك بذخيرة فكرية عملية وتصوّرات مستجدّة، من شأنها تيسير الشروع والمطاولة في مكافحة الفكر المريض، فالغرض أصلاً ليس التبجّح ولا الاستعراض ولا الادّعاء بأننا داخلون في حالة صراع مع النكوص العقلي، وإلحاق الشلل التام بالندّ المقابل، ليس هذا هو المبتغى ولن يكون كذلك، إن الهدف المعلَن بصوت عال وقلمٍ عريض هو ملء فراغات العقل المنتسِب لنا، بالمبادئ التي تقف الى جانب الاعتدال وليس التطرّف.
اضف تعليق