لماذا يجب أن تتحول "أجرة العامل" الى قضية مثار جدل في الاوساط الاقتصادية، وتتحول احياناً الى أزمة خانقة واحياناً الى اخرى الى مطلب عام، ربما تنزلق في متاهات الشعارات السياسية بين التظاهرات هنا وهناك؟ بينما الحقيقة؛ هي "حقٌ" مفروض للعامل، سواء كان ضمن المؤسسات الانتاجية الحكومية أو الاهلية، أو كان ضمن الاعمال الحرة التي نراها منتشرة في بلادنا. وبدلاً من أن يكون "الأجر" رديفاً لـ"الحق" في المنطوق والمفهوم. فانه بات تحدياً عنيداً أمام العامل في ظل اقتصاديات متداعية بالاساس وتعاني من تصدعات، فيما هو يعيش في أدنى مستوى معيشي بين شرائح المجتمع.

هذا الوضع أجبر العامل اليوم في معظم بلادنا ولاسيما العراق، لأن يجرب كل السبل للحصول على ما يعتقد أنه أجره الحقيقي من صاحب العمل، وكلما كان الشعور عميقاً بعدم الثقة وأن ثمة غبن في المعاملة، كان العمل أشد على استحصال هذا الأجر وبطرق ربما تكون ملتوية وغير مشروعة. بالمقابل نرى – والحال هكذا- أن صاحب العمل يتخذ اجراءاته الاحترازية للحؤول دون تعرضه لما يعتقده هو، "استنزاف" في نفقات المشروع أو مكان العمل أياً كان.

مسوغات تكرّس الواقع الخاطئ

إن غياب الرؤية الحضارية وانقلاب المفاهيم والمعايير ثم تبني النماذج الاجنبية، فسح المجال أمام البعض من اصحاب الرساميل في المجتمع، لأن يتمادوا في الاستغلال البشع للعامل في مختلف الميادين، متشبهين في ذلك بالنظام الرأسمالي على أنه النموذج الناجح الذي يفتح آفاق العمل والانتاج لمن يملك اكثر، ويسوقون لذلك مبررات تكاد مكررة في اوساطنا الاجتماعية، مع ذلك فهي سائدة، مثل؛ مغامرة صاحب رأسمال المال بأمواله وخشيته من الخسارة، وأنه أوجد ثروته من الكد والتعب وغير ذلك. أما اصحاب المعامل وشركات النقل والورش الصناعية وغيرها، فانهم يتعللون بأن رأسمالهم يتعرض للاستهلاك بمرور الزمن، مما يتعين احتساب أجور الصيانة والإدامة وغيرها، وهنالك مبرر آخر يسوقه البعض من أن المال له موارد إنفاق كبيرة واستراتيجية – إن صح التعبير- تفوق الهموم البسيطة للمواطن العامل، فهم احياناً يسهمون في استثمارات ضخمة في قطاعات النقل والصحة والتعليم، مثل المستشفيات والجامعات الأهلية وايضاص المتنزهات ومدن الألعاب وأشباهها، وهي تعود بالنفع الى المواطنين انفسهم. وهنالك مبرر آخر يسوقه الكثير من اصحاب العمل، بأن "المال عمل متراكم، فالربح في قبال العمل".

وبغض النظر عن الردود على هذه المبررات التي أوردها علماؤنا في كتبهم وفندوها بالكامل، ومنهم سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في عديد كتبه في هذا المجال، ومنها "الصياغة الجديدة". فانه المثير في أمر اصحاب الرساميل، أنهم من حيث لايشعرون ، يعودون ببلادهم وشعبهم الى عهود الإقطاع المندثرة التي شهدها الغرب في القرون الماضية، وصدروها الى بلادنا فيما بعد، حيث كان المزارعون يعيشون تحت رحمة الإقطاعي (صاحب الارض)، فهم يعملون ليل نهار، وليس الأب – مثلاً- لوحده، وإنما جميع افراد الأسرة، بالمقابل كانت هذه الأسرة مؤمنة في حد الكفاف، في جميع شؤونها حياتها من مسكن ومأكل وغيرها. هذا النمط من الاستغلال البشع لقدرات الانسان، فرض نمطاً من العيش يكتفي فيه بلقمة عيشه فقط، أما حالياً فان العمال يعيشون في ظل إقطاعية بثوب جديد تجعلهم يعيشون حياة الكفاف ويواجهون تحديات الحياة ومتطلباتها الجديدة، فيقبلون بكل الخيارات لعدم وقوعهم في مستنقع البطالة أو الانزلاق في متاهات الانحرافات الاجتماعية والسلوكية.

شراء العمل وليس الجهد العضلي فقط

بالرغم من بعض الانتعاش الذي تشهده بعض قطاعات العمل في البلاد الغنية ذات الدخل الجيد للفرد، حيث يحصل العامل على أجور مجزية لاسيما في مجال البناء والمشاريع الانتاجية، بيد أن وجود أصل المشكلة في الرؤية الخاطئة، ما يزال أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة وتجعلها عرضة للظلم والاجحاف.

من هنا؛ فان الحل في طريق ثالث، غير النمط الرأسمالي الذي يفسح المجال لتكدّس الثروة والحصول على الارباح بكل الوسائل، ويجعل من الانسان العامل، مجرد أجير، يقبض من يسد رمقه من أعمال تدر بالملايين، وايضاً غير النمط الاشتراكي الذي "يؤمم وسائل الانتاج" ويلغي الملكية الخاصة، بيد أنه يحول الانسان الى مجرد آلة يعمل من اجل المجموع، فيما تحظى النخبة السياسية والحزبية برأس المال العام وممتلكات الدولة. إنه خيار "شراء العمل من العامل" وليس شراء جهده العضلي وحسب.

هذا الخيار له من الفوائد الاقتصادية كما الاجتماعية في وقت واحد. فهو يحفّز المواهب ويستخرج القدرات الكامنة، لاسيما لدى الشباب وإشراكهم في مشاريع العمل ليس كعمال عاديين، إنما شركاء في الانتاج ايضاً، وإشعارهم بالمسؤولية إزاء المشروع، من خلال المحفزات المادية والمعنوية، أو تحويل المصنع والمشروع الى أسهم وتوزيعها على العمال وغير ذلك، مما يُشعر العامل بأنه ذو شأن، فينطلق مبدعاً ومتفانياً لإنجاح العمل والانتاج الأوفر والاكثر مردوداً عليه وعلى صاحب المشروع.

وهذه تبدو مسألة منطقية بالكامل، فالمشروع الناجح الذي يدر على صاحبه الارباح الجيدة، يكون نتيجة أداء أمين وعمل وفق المواصفات دونما تلاعب او تخريب.

أما على الصعيد الاجتماعي فان الانسان العامل الذي يجد نفسه شريكاً في مشاريع ضخمة ولو بنسبة معينة، سيغمره شعوراً بالرضا والاطئمنان النفسي، ويبعد عنه مشاعر الضعة التي طالما نهى عنها الاسلام على لسان المعصومين، عليهم السلام، فيما يتعلق بحالة "الأجير" تحديداً، وأن "من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق".

اضف تعليق