من سنن الحياة أن عجلتها تدور نحو الأمام، ومن يريد الوصول آمناً عليه تحديد السبيل وتتبعه، وخلاف ذلك فإنه إما أن يبقى مراوحاً في مكانه فيسبقه الآخرون، أو لا يحسن التعامل مع الظروف فيعود القهقري، وهو خاسر في كلا الحالتين. ولولا هذا المشهد لما شهدت الإنسانية تقدمها، ولما بات لمعايير التقدم والتخلف من مصاديق.

ويبدو أن ذلك كان فطرة غريزية لدى الإنسان، سيما في رغبته لتطوير ظروفه المعيشية، أو نزعته للسيطرة على الطبيعة بغية التحكم فيها مستقبلاً لما يعود في منفعته، فكانت الملاحظة أولاً فالتجربة وتكرارها وتكررها، بوضع منهجيات لهذا الغرض، وصولاً إلى وضع قوانين ثابتة للتعامل مع المعطيات الخارجية والداخلية التي تواجه حياة الإنسان، فكان أن ولد العلم.

ويبدو أن الإنسان قد تجاوز متطلباته المادية نحو احتياجاته الروحية، وحلم بمستقبل أفضل يسوده العدل، فجاءت فكرة (المخلص المنتظر)، مثلما أدرك أن مستقبله المادي إلى فناء، فجاءت فكرة الحياة ما بعد الموت ومتلازماتها ومتطلباتها، وجاءت الأديان السماوية معززة لتلك الأفكار، فحددت معايير سلوك مادية ومعنوية للإنسان كعلامات طريق عند مفترقه أحدهما سلبي طالح والآخر إيجابي صالح، نهت عن الأول وحثت في السير على الثاني، ورسمت لكل طريق مآله المستقبلي في الدارين، (فَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَه). لكنها في الوقت ذاته لم ترتكز على البعد الغيبي دنيوياً، فحثت على العلم والأخذ بالأسباب.

ومع تقدم العلم، ومعلوم أن الغرض من العلم هو التنبؤ بالمستقبل بغية التحكم به لصالح الإنسان، تبلور اتجاه يشخص نحو المستقبل بات يطلق عليه (الدراسات المستقبلية) وفي مختلف صنوف المعرفة، وشاع أيضاً على مستوى دولي متجاوزاً شخص الإنسان، لكنه لم يتجاوز محور الإنسانية.

ومع أن الدراسات المستقبلية تبدو أكثر دقة في العلوم الطبيعية التي تتبع المناهج التجريبية والأساليب التطبيقية، إلا أنها تجاوزت ذلك نحو ما حيث باتت تعرف بالعلوم الإنسانية، ومنها علم السياسة، ومع أن التنبؤ في العلوم الإنسانية وعلم السياسة تحديداً يفتقر إلى الدقة مقارنة بالعلوم الطبيعية، إلا أن الباحثين تجاوزوا هذه العقبة إلى حد ما عندما أخذوا برسم عدة مشاهد مستقبلية (سيناريوهات محتملة) للحدث مع وضع افتراضات وحسابات وحلول لكل مشهد، وكذلك وضع خيارات عدة واختيار البديل الأنسب متى ما جاءت فرصته المستقبلية.

وضمن هذا السياق، بات تكييف المستقبل مرتبطاً بالتخطيط لما يجب أن يكون فيه، وفي مختلف المجالات، وعلى مستويات زمنية متباينة. فظهرت مصطلحات الخطة والإستراتيجية لتشير إلى ما هو مطلوب، فكانت الخطة الإستراتيجية، والإستراتيجية المتوسطة أو البعيدة المدى، والإستراتيجية العسكرية والاقتصادية، و... وغيرها.

وكما مر علينا، لم يكن الدين الإِسلامي ولا الفكر الإسلامي عن ذلك ببعيد، وكان ممن أسهموا في هذا المجال المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي في كتابه (فقه المستقبل) الذي وزعه بين بابين ضما فصولاً خمسة، فلنتابع معاً أبرز النقاط التي وقف عندها.

يرى السيد الشيرازي أن المستقبل:

- مرتبط بالأهداف الكبيرة للإنسان.

- معرفته أمر واجب، والتخطيط له واجب آخر، لأنهما مقدمة الواجب عقلاً.

- على الإنسان أن يكون على استعداد تام لاستقباله والتأثير فيه.

- لا يفترض أن ينقطع عن الماضي والحاضر.

- مواكبته تتم عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة وفي شتى المجالات العلمية.

- صناعة.

- هدف الإنسان والأمة امتلاك ناصيته.

- إن التنبؤ به لا يعني الحتمية، فإن الأمور كلها بيد الله عَزَّ وَجَل.

ضم الباب الأول فصلين عنوان أولهما هو (خطوات على الطريق)، بينما حمل الثاني عنوان (المنهجية في الدراسة).

تضمن الفصل الأول إطارين: فكري وعملي، يشكلان خطوات على طريق النهوض بمستقبل الإنسانية جمعاء، وقد حمل السيد الشيرازي المثقف مسؤولية الريادة المستقبلية، ووضع عدة تصورات لذلك النهوض منطلقاً من إزالة أهم العوائق التي تعترض سبيله، وعلى المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وقد ركز السيد الشيرازي على (محورية الإنسان)، ذاكراً أنه (يجب أن يُجعل الإنسان هو المحور)، (وفي المستقبل سيكون الإنسان هو المحور الرئيسي في الكون)، (وستصبح مسألة حقوق الإنسان من أهم القضايا في الكرة الأرضية).

كما ركز بشكل خاص على حقوق المرأة حين ذكر أنه (يلزم الاهتمام بشؤون المرأة، ومنحها حقها الواجب، وحريتها المشروعة)، (وسيكون المستقبل لصالح المرأة من جهة إعطاء حقوقها، ومساواتها مع الرجل فيما ساواها الله تعالى، من الأمور الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها). مؤكداً على أن المساواة بين الرجل والمرأة (هو الأصل في الشريعة). وبما أن المستقبل سيكون لصالحها، فعلى المرأة (أن تتحمل أعباء المسؤولية الاجتماعية جنباً إلى جنب الرجل). بيد (أن المطالبة بحقوق المرأة يجب أن لا يستغل استغلالاً سيئاً باطلاً، لإخراجها من كيانها كامرأة وجعلها كأنها رجل).

مؤكداً في هذا المجال أن: (المستقبل سيضمن حقوق الإنسان بالمعنى الكامل والشامل، للصغير والكبير، والرجل والمرأة، والضعيف والقوي، وذلك عند حصول الوعي والقضاء على بواعث الظلم والطغيان).

كما ركز السيد الشيرازي على نبذ العنف، مؤكداً أن العنف ليس (من صفة الإنسان، بل هو من صفات الوحوش الكاسرة)، وأنه عادة ما يأتي مرافقاً للظلم.

مشدداً في الوقت ذاته على التعايش السلمي، وأن (الناس إِمّا أَخٌ لَكَ في الدين، أَو نَظيرٌ لَكَ في الخَلق)، وعلى اختفاء النعرات حيث (لا مكان للنعرات القومية والعرقية وما أشبه في الإسلام). (وإننا سنرى عالم المستقبل قد ابتنى على أن التمايز فيه على أساس الكفاءة والفضيلة والتقوى، كما قالَ تَعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)، وسوف لا تكون للعرقية والقومية قيمة في المستقبل؛ لأنها لا تقوم على الفطرة السليمة ولا يقرها العقل)، مضيفاً أن: (عصر المستقبل هو عصر العلم والإيمان والواقعيات، التي تميز الإنسان على أساس علمه وكفاءته وأخلاقه).

أما الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان (المنهجية في الدراسة)، فقد تطرق فيه إلى مراكز أبحاث الدراسات المستقبلية في مختلف أرجاء العالم، وإلى كيفية التنبؤ بالمستقبل.

وجاء الباب الثاني موزعاً بين فصول ثلاثة لأزمنة مستقبلية ثلاثة، أولها هو (المستقبل المنظور) الذي خصصه المؤلف للمستقبل في ضوء الواقع المعاصر، ومنطلقاً من أسباب تخلف العالم الإسلامي، منتقداً ضمناً أولئك المتكئين على عصر الظهور كمستقبل وحيد، دون العمل على النهوض بحاضرهم تمهيداً لمستقبل أفضل يمهد لعصر الظهور، وهو ما يعرف بـ(الانتظار السلبي)، بينما جاء ثانيها بعنوان (المستقبل غير المنظور) الذي يتحدث عن مستقبل الإنسانية في عصر الظهور بمجمل سمات الحياة فيه، وثالثها بعنوان (المستقبل الأخروي) الذي يتناول مستقبل الإنسان بعد الموت صعوداً إلى يوم الحساب، وما يترتب عليه. ويبدو أنه انطلق في ذلك من ما ورد عن الإِمام الحَسَن المُجتَبى(ع) في قوله: (اعمَل لِدُنياكَ كَأَنَّكَ تَعيشُ أَبَدا، واعمَل لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَموتُ غَدا)..

ويمكن القول أن الرباط بين الأبعاد الزمنية الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) لا انفصام لها، فالماضي كجذور شجرة حاضر قوامها بانتظار قطاف ثمارها مستقبلاً، والمستقبل يبقى الأهم كون عجلة الزمان تسير إليه، وهو لا يأتي بدون حاضر سيغدو ماضيا.

إن العقلية المستقبلية هي تلك التي تنظر إلى الماضي للاستفادة من تجاربه، وتعزز الحاضر انطلاقاً لمستقبل أفضل، فمن تساوى يوماه فهو مغبون، ولا يمكن لمن يسير إلى الأمام أن يبقى ملتفتاً إلى الخلف ينظر وراءه والماضويين لا يصنعون المستقبل.

* الورقة المقدمة الى الحلقة النقاشية التي عقدها مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية تحت عنوان (فقه المستقبل... قراءة في رؤية المرجع الشيرازي الراحل)
http://mcsr.net

اضف تعليق