يجسد الإِمام عَلي(ع) رسالة الإسلام الذي جاء معززاً لكرامة الإنسان، أرقى مخلوقات الله، وإليه، ومن جنسه، بعث الله أنبِيائَهُ ورُسَلَه، وأَنزَلَ تَعالى كُتَبَهُ المُقَدَّسة. وليكون الرَّسول الأَكرَم مُحَمَّد (ص) خاتم الأَنبِياء والمُرسَلين، ومعه كلامُ الله العزيز (القُرآن الكَريم).
ومن إيمان مطلق بالله سُبحانَه، وعلى نهج القُرآنِ الكَريم، وعلى سُنَّةِ سَيِّد الأَنبِياءِ والمُرسَلين، سار سَيِّد الوَصيين، حاملاً معه الإنسان على وفق ما أراده الله تَعالى.
لقد كَرَّمَ اللهُ الإنسان، ((وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنيْ آدَم))، وخَلَقَهُ في أحسن تقويم، ((إِنّا خَلَقْنا الإِنسانَ في أَحسَن تَقويم))، ثم مَنَحَهُ المكانة الأسمى بأن جَعَلَهُ خليفة لهُ على أرضه.
ولكن أي إنسان هو ذاك الذي يحظى بمقام الخلافة الإلهية؟
إنه الإنسان الحر، الإنسان الذي يكون عبداً للهِ تَعالى، ويتحرر من عبادة ما سواه، فلا يكون عبد غيره، ولا حتى عبد نفسه.
وكي يكون هذا الإنسان النموذج حياً، بَعَثَ اللهُ أنبِياءهُ ورُسُلَهُ من بني الإنسان وإليهم، كي تكون مصاديق حية، فكان الرَّسولُ الأَعظَمُ ذو الخُلُقِ العَظيم، ((وِإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيم))، أسوة حسنة للمسلمين بأجيالهم المتتالية، وأزمانهم المتعاقبة، ((لَقَد كانَ لَكُم في رَسولِ الله أُسوَة حَسَنة)). وعلى نهج الأَنبِياء، سار الأَوصِياء، فكانت سيرة عَليٍّ(ع) امتداداً لسيرة الرَّسول(ص).
وتشهد سيرة علي(ع) على أنه كان جنباً إلى جنب مع رَسولِ الله(ص) في معركة تحرير الإنسان. تحريره من الرجس والأوثان، والأنا وعبادة الهوى، ونقله إلى رحاب عبادة الله الواحد الأحد. فكان عليٌّ(ع) رمزاً للإنسان الحر في دنياه، والعبد المطيع لمولاه، والمجاهد والمقاوم في سبيل الله.
وإذا كان الإسلامُ قد قضى على عبادة الإنسان للأوثان، فإن المشوار ما زال طويلاً ليقضي على عبادة الإنسان للإنسان، على مدى الأزمان. فجاءت سيرة علي (ع) لتحث على طاعة الرحمن، أياً كان السلطان.
وانطلاقاً من رؤيته للإنسان، وحقه في الحرية، أجاز الإِمامُ عَلي(ع) معارضة السلطة السياسية إذا ما تجاوزت حدها في تعاملها مع الإنسان وكرامته، أو قيدت حرياته بغير ضوابط شرعية. ذلك أن السيرة العملية للإمام خلال تجربته السياسية، تظهر أنه قد أقر بالمعارضة السياسية، ولكن وفق ضوابط. وأقر لمعارضيه بحقوقهم. فلم يقسر(ع) أحداً على بيعته إن لم يكن ذا قناعة بها، ((بايَعني الناسُ غَيرَ مُستَكرَهين ولا مُجبَرين بَل طائِعينَ مُخَيَّرين)). بل أَنَّهُ (ع) اشترط الرضا الناس على الحكام المحليين الذين يعينهم.
مثلما فعَّلَ لغة الحوار مع معارضيه أياً كانت درجة مجانبتهم له. وضمن لهم حقهم في الحياة، إذ نهى عن الاغتيال السياسي، وحقهم في التعبير عن الرأي، فضلاً عن حقوقهم المالية والمعنوية. كل ذلك، طالما لم يشهروا السلاح في مواجهة الدولة أو المجتمع. وحتى الذين شهروا السلاح، وسعوا إلى تمزيق وحدة الدولة والمجتمع، لم يتخذ(ع) (التكفير) غطاءً لمحاربتهم.
كما حثَّ(ع) الناس على مقارعة الحكام الظالمين الذين يستعبدون الإنسان ويسلبون حريته، ((... كي ما يَكونوا في الأَرضِ جَبّارينَ مُلوكَاً يَتَّخِذهُم المُؤمِنونَ أَربابا ويَتَّخِذونَ عِبادَ الله خِوَلا)).
ونظرة الإمام عَلي(ع) للإنسان وحريته لا تقف عند حد معين. فهي تمتد لتشمل كل ما يخص ذلك الإنسان في جميع مرافق حياته وشؤونها، ومراحلها. لترتبط حرية الإنسان بكرامته. ولا أضمن من ذلك سوى إقامة الحكم العادل. فمحاور العدالة التي سار بها (ع) لم تقتصر على جانب دون آخر، ولم تقف دون السياسية والقضاء، بل امتدت لتشمل حياة الإنسان بنواحيها كلها. فعلى سبيل المثال: لم يُطق(ع) وجود محتاج في دولته، كي تدفع الحاجة هذا الإنسان الحر ليكون عبداً ذليلاً لحاجته. وهو إذ يرفع تلك الحاجة، لا يطيق حتى وجود الذل في وجه ملامح ذلك الإنسان المحتاج، ((أُكتُبْ حاجَتَكَ عَلى الأَرض، إِنّي أَكْرَهُ أَنْ أَرى السُؤالِ في وَجهِك))، فـ ((السُؤالُ يُضعِفُ لِسانَ المُتَكَلِّم، وَيَكْسِرُ قَلْبَ الشُجاع، وَيوقِفُ الحُرَّ العَزيز مَوقِفَ العَبدِ الذَليل، وَيَذهَبُ بِماءِ الوَجه))، وهو ما لا يريده عَلِيٌّ(ع) للإنسان.
و((الإِنسانُ كِيانُ الله، مَلعونٌ مَنْ هَدَمَه))، والإنسانُ إنسان، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو اللون أو اللسان. ومن هنا نجد عَلِيّاً (ع) يرفضُ كل شكل من أشكالِ التمييز بين بني الإنسان، وهو ما رفضته جاهلية زمانه، وما أقرته المواثيق والمعايير المعاصرة، لتثبت خلود عَليٍّ(ع) ورسالته.
اضف تعليق