إسلاميات - القرآن الكريم

المنطق الضبابي وتفسير القرآن الكريم

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (10)

لكل قضية، بحسب المنطق الكلاسيكي احدى قيمتين. ولكن، وبحسب المنطق الضبابي المسمى بمنطق الغموض والمنطق الغيمي فان للكثير من القضايا قِيَماً متعددة فهي متعددة القيم. إدخال عامل (أو) يضيف بعداً آخر للقضايا ويمنحنا معرفة جديدة. إدخال عامل (نوعاً ما) (إلى حد ما) (بعض الشيء) يفتح آفاقاً معرفية...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية7).

(ملخص الرأي الهرمينوطيقي:

1- النص الديني صامت.

2- اننا نستعين دائماً في تفسير النصوص الدينية وفهمها بالتوقعات والافتراضات والتساؤلات أو المسبقات الفكرية والخلفيات النفسية.

3- انّ هذه الخلفيات والفرضيات تأتي من خارج الدين.

4- انّ ما هو خارج عن الدين متغير وسيّال لأن العلم والفلسفة.. إلخ في حالة تزايد مستمر.

5- فتفسيراتنا وأفهامنا للنصوص الدينية، لا مناص من أن تكون متنوعة ومتحولة)(1)

قواعد ثابتة تحكم المتغيرات السيالة

وقد تناولنا بنود هذه النظرية بالتحليل والنقد من وجوه متعددة، ونضيف: هَبْ أنّ هذه النقاط صحيحة كلها، وان ما هو خارج الدين متغير وسيّال وانه عنصر فاعل في عملية الفهم والتفسير.. ولكن رغم ذلك كله فان هنالك قواعد ثابتة تحكم هذه التغييرات وتهيمن عليها وتضبط إيقاعها، وهذه القواعد تمتلك صفة المرجعية في تحديد الصواب والخطأ من الأفهام، وبذلك فانه لا يمكن القول بان كل الأفهام للنصوص، صحيحة، أو أنها كلها باطلة، أو لا يُعلم هذا أو ذاك وليست هنالك مرجعية نحتكم إليها وان اللانظام والفوضوية هي التي تحكم الأفهام والحركة الفكرية، أو أن النصوص كلها، مادام الأمر كذلك متشابهة أي داخلة في دائرة المتشابهات..

والسبب في ذلك انّ للحركة قوانين محددة كما للسكون، وللديناميكيات ضوابط ومحددات كما للاستاتيكيات، وللمتغيرات أحكام دائمية وللثوابت أحكام مطلقة، غاية الأمر أن يخرج ما كان سابقاً ثابتاً فصار فيما بعد متحركاً، من دائرة سلسلة من القواعد والأحكام ليدخل ضمن دائرة سلسلة أخرى من الأحكام والقواعد، لكن القواعد هي، على كل حال، مرجعيات وضوابط وشواخص ومقاييس تفرز الصحيح عن الخطأ وتميّز الحق من الباطل ويصح أن يحتكم إليها مختلف الفرقاء.. ولنضرب لذلك أمثلة سريعة من علوم الأصول والفقه والاجتماع والسياسة:

فإن المقلد تحكمه قواعد كما أن المجتهد تحكمه قواعد فلو تحوّل المقلد إلى مجتهد طوال مسيرته العلمية، شملته قواعد المجتهد وأحكامه، كعدم جواز التقليد مثلاً، وخرج من دائرة أحكام المقلد، كحجية رأي المجتهد في حقه.

وفي مثال آخر، فان الأعزب إذا تحوّل إلى متزوج، خرج من دائرة قواعد العزاب ليدخل في دائرة قواعد المتزوجين.

والأجنبي إذا صار مواطِناً، بالزواج من مواطِنة أو بالإقامة لمدة خمس سنوات مثلاً في دولة ما على اختلاف قوانين الدول، فان هنالك سلسلة من القوانين تحيط به فوراً.

والشاهد هو: انّ القوانين قبل / بعد أي تحوّل هي في كل الصور قوانين ثابتة غير متغيرة وإذا تغيرت فإنها تتغير ضمن ضوابط إذا كان واضعوها حكماء غير سفهاء.

والجامع: انّ الموضوعات المختلفة لها أحكام مختلفة وانّ الشيء إذا خرج من موضوعٍ وحالةٍ إلى موضوعٍ آخر وحالةٍ أخرى، انسلخت عنه القواعد القديمة وأحاطت به القواعد الجديدة.

ومن الأمثلة على ذلك: انّ ظرف الانفتاح (انفتاح باب العلم) لو تغيّر إلى حالة الانسداد (انسداد باب العلم) كما لو ضاعت الكتب ففقد ما يورث العلم كالأخبار المتواترة وفقدنا ما نزّل منزلته، العلمي، كأخبار الثقات، فاننا سندخل حينئذٍ في باب الإنسداد، لكن باب الإنسداد أيضاً ليس بلا ضوابط ولا هو فوضى أو سيّال أو متغير، بل تحكمه قواعد جديدة مثل حجية الظن المطلق، أو الاحتياط إذا لم يستلزم العسر والحرج، لا البراءة ولا سائر الأصول ولا القرعة ولا رجوع الإنسدادي للانفتاحي.

وبكلمةٍ: فان النص الديني يستوعب كلتا الحالتين إذ انه يتنوع بين ما يمنحنا أحكاماً ثابتة وما يمنحنا أحكاماً متغيرة تخضع للعناوين الثانوية، ولكن، ومن دون ريب، فان هنالك قواعد عامة ثابتة للثوابت وقواعد عامة ثابتة أخرى للمتغيرات، وهنالك قوانين للمتحرك وقوانين للساكن، وبذلك فان أي فهم أو تفسير طابق القواعد فهو صائب وإلا فهو مخطئ.

المنطق الضبابي

إضافةً إلى ذلك كله فان المنطق الضبابي، وهو علم حديث مبتكر، يقدم لنا إجابة جديدة عن شبهة سيّالية المعرفة والأفهام والنصوص ويوضح لنا كيف ان المتغيرات تمتلك منطقاً خاصاً بها لا يصح تجاوزه فمن تجاوزه فقد أخطأ.

ويمكننا تلخيص أهم بنود المنطق الضبابي في نقاط، وسنستعرضها مقارنةً بنماذج من علم الفقه والأصول كما سنقارنها أيضاً بعدد من الروايات الشريفة في الحقل نفسه:

منطقٌ متعددُ القِيَم، وليس ثنائيَّ القِيَم

أولاً: ان المنطق الضبابي يختلف عن المنطق التقليدي الكلاسيكي، في ان المنطق الكلاسيكي يعتمد نظاماً ثُنائيّ القِيَم بينما يعتمد المنطق الضبابي نظاماً متعدد القِيم.

وبتعبير آخر: المنطق الكلاسيكي يعتمد في كل قضية على احدى قيمتين: (صح) أو (خطأ) (صدق) أو (كذب) (ناجح أو فاشل) (جميل أو ليس بالجميل) (قوي أو لا) (بارد أو لا) (طريق مزدحم أو لا) وهكذا..

أما المنطق الضبابي فانه يعتمد على مجموعة من القيم المتوسطة بين تينك القيمتين الأساسيتين المعتمدتين في المنطق التقليدي، فانه قد يعتمد عشر قِيم أو مائة قيمة أو أكثر أو أقل.

والسبب في ذلك ان الكلاسيكي يعتمد على معادلة صفر / واحد، أما الضبابي فيعتمد على معادلة صفر / عشرة أو صفر / مائة، فالصحيح بقول مطلق هو المائة والخطأ بقول مطلق هو الصفر، وما بينهما تسعة وتسعون درجةً تمثّل كل منها قيمة من القِيَم المتوسطة.. وسيتضح هذا أكثر ضمن النقطة الثالثة.

وبعبارة أخرى: يعتمد المنطق الكلاسيكي قاعدة السور الكلي فما افتقد السور الكلي فليس بمنتج في المنطق، فمثلاً الشكل الأول يعتمد قانون موجبة الصغرى مع كلّية الكبرى فلو لم تكن الكبرى كلّية لما كانت القضية منتجة عكس المنطق الضبابي الذي يعتمد القضية الجزئية ويستنج منها أيضاً، ويتضح ذلك عبر الأمثلة التالية:

إذ اننا نقول بحسب المنطق التقليدي: العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث، ولو لم تكن الكبرى كلية لما أمكن استنتاج النتيجة.

أما في المنطق الضبابي فانه يقول مثلاً: أ- هذا مما كان، ب- وأكثر ما كان، مما لم يقم الدليل على خلافه، باقٍ على ما كان، ج- فهذا باقٍ على ما كان.. فمثلاً: لو كان زيد مقيماً في هذا البيت عندما غادرتَ المنطقة، فانك عندما تعود إليها بعد أسبوع أو شهر أو سنة، تستصحب بقاءه فيه، ولذا تقصده في نفس المنزل مع انه يحتمل أن يكون قد باعه أو هاجر أو شبه ذلك.

المنطق الضبابي مكمل للمنطق الكلاسيكي

وبذلك نكتشف ان المنطق الضبابي مكمّل للمنطق التقليدي وليس معارضاً له لأنه يحاول اكتشاف القوانين الحاكمة على الجزئيات بعد ان اكتشف المنطقُ التقليدي قوانينَ الكليات، والاستصحاب الأصولي كما سبق مثاله نموذج لمساحات المنطق الضبابي إذ وجد العقلاء ان الغالب هو انّ ما ثبت دام لذا حكموا عند عدم قيام الدليل على الخلاف بالاستصحاب، فهي قاعدة من المنطق الضبابي وعليها جرت الروايات الشريفة أيضاً ففي صحيحة زرارة: (لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً)(2).

والحاصل: ان الكبرى إذا كانت كلية دخلت القضية في المنطق الكلاسيكي وإذا كانت غالبية دخلت القضية في دائرة المنطق الضبابي الذي اكتشف ضوابطها (أو كثيراً منها)، فعلى مستوى الفقه والأصول مثلاً نجد أنّ (قاعدة اليد) و(سوق المسلمين) و(أصالة الصحة) و(غَيبة المسلم) و(الاستصحاب) وأشباهها كلها مبنية على غالبية الكبرى، والتي هي جزئية بحسب اصطلاح المنطق التقليدي فليست منتجة لديهم، لكنها منتجة طبق قواعد علم الأصول والفقه والمنطق الضبابي وعلى حسب بناء العقلاء.

ويتميّز بإدخال (أو) في المعادلات

ثانياً: ان المنطق الضبابي يتميز بإدخال عالم (أو) في المعادلات بانه يعتبر القضية المركبة من قضيتين تربطهما أداة (أو) صحيحة، وإن كان أحد طرفيها خطأ، فان الصحة في معادلة (أو) تتبع أشرف الطرفين خلافاً للقاعدة المنطقية الكلاسيكية المعروفة التي تصرح بان النتيجة تتبع أخس المقدمتين، فعلى سبيل المثال: لو زارك زيد أول أمس لصح أن تقول زارني أول أمس وكان من الخطأ أن تقول زارني أمس (حسب قواعد المنطق التقليدي ثنائي القيم والحدي والصارم والدائر بين صح وخطأ والنفي والإثبات) ولكن يصح أن تقول: (زارني زيد إما أمس أو أول أمس) فانه إذا كان أحد الطرفين (ما قبل أو ما بعد) صحيحاً كانت القضية صحيحة، ومنه قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ في‏ ضَلالٍ مُبينٍ) (سورة سبأ: الآية 24) فالقضية صادقة مع ان أحد طرفيها فقط هو الذي على هدى، وكذلك قولك (النار إما حارة أو باردة) و(زيد إما عالم أو أسود) مع كونه عالماً أبيض أو كونه أسود غير عالم، وهذه القضية هي التي تسمى في المنطق بمانعة الخلو.

يتميز بإدخال عامل (نوعاً ما)

ثالثاً: ان المنطق الضبابي يتميز بإدخال عامل (نوعاً ما) (تقريباً) (إلى حدٍّ ما) وهذه هي نقطة تميّزه الأساسية بعد النقطة الأولى، وبذلك فان هذا المنطق يملأ مساحة فراغ كبيرة جداً لا يغطيها المنطق التقليدي؛ وذلك لأن الحقائق الكونية ومعادلات الحياة الدنيوية والقضايا المكتنفة بالإنسانية، ليست كلها مما تدور ضمن دوائر ثنائيات القيم كما لا تشكّل ثنائيات القيم الإجابة الكاملة عنها بل إن الكثير الكثير الكثير جداً منها مما يدور ضمن أطر متعددات القيم، فمثلاً تقول: زيد جميل أو ليس بجميل حسب المنطق التقليدي، لكن مثل هذه القضية كثيراً ما لا تعطي الصورة الدقيقة للواقع الخارجي إذ قد يكون (زيد جميلاً إلى حد ما) وفي أمثلة أخرى: قد يكون زيد طويلاً بدرجة ما وقد يكون الطقس بارداً بدرجة معتدلة، أو بشدة، أو قليلاً، وهكذا.. وقد يكون زيد صديقاً لعمرو إلى حد ما أو عدواً إلى حدٍّ ما، أو قوياً بعض الشيء أو سريعاً إلى حد ما وهكذا.. فهناك إذاً قِيَم متوسطة بين الحدين (حدّ نعم ولا أي حدّ صفر وحدّ واحد) إذا انتقلنا إلى حدّ صفر وعشرة أو حدّ صفر ومائة.

وفي نوع آخر من الأمثلة، نجد مثلاً: انّ (الرمل) هش فلا هو صلب كالحجر ولا هو رخو جداً كالماء، ولذلك، ولأنه يشكل حقيقة متوسطة بين الصلب جداً والرخو جداً، استخدم الخبراء أكياس الرمل كهدف يتدرب عليه الملاكمون ولو استخدموا أكياس الأحجار لكسرت قبضة الملاكم أو أكياس الماء لما أفادت في شدة بأس قبضته، ولأجل ذلك أيضاً، فرشت العناية الربانية سواحل البحار بالرمال كما مهدت الأرض بالتراب، ولو كان وجه الأرض كله حجراً لما أمكنت زراعته كما لو كان كله ماءً لما أمكن المشي عليه ولا البناء فوقه ولا زراعته.. فهي إذن حقائق وسيطة لها قِيَم متوسطة بين الحدين ومن ثَمَّ فان لها أحكاماً أخرى ولها قوانين أخرى، وهذا الأخير هو موطن الشاهد حيث انّ هذه القِيَم المتوسطة هي التي تحكمها قوانين منضبطة وليست بدون قوانين، إذ لم تترك عرضة للفوضى، فهي محكمات ضمن أطر أخرى، وليست متشابهات ثبوتاً وإن كانت قد تخفى قوانينها على كثير من الناس إثباتاً.

وبعبارة فلسفية: إن الحقائق إما متواطية وإما مشككة، والحقائق المشككة: كالنور ودرجاته وكالشجاعة ومراتبها، وكالصداقة ومنازلها.. وهكذا الجمال والحلاوة والمرارة والبرودة والحرارة والسرعة والبطؤ والقوة والضعف والبخل والكرم.. الخ.

والشاهد: ان الحقائق الخارجية مادامت الحقائق التشكيكية تشكّل نسبة كبيرة منها، فانها بحاجة إلى منطق خاص بها هو المسمى بالمنطق الضبابي الذي يتصدى لكشف القواعد التي تحكمها خاصة.

يقوم بتصنيف القِيَم المتوسطة إلى مجاميع

رابعاً: وبعد ذلك كله فان المنطق الضبابي يتعهد بتقسيم تلك القِيم المتوسطة – النسبية إلى مجالات وإلى خانات أو مجاميع تسمى المجاميع الضبابية.. فمثلاً تصنفها إلى مجموعة بارد جداً، مجموعة بارد إلى حد كبير، مجموعة بارد إلى حد ما مجموعة بارد معتدل.. وهكذا.. أو تدخلها في خانة مجموعة مصيب تماماً، مجموعة مصيب إلى حد كبير، مجموعة مصيب إلى حد ما، مجموعة مصيب قليلاً جداً.. وهكذا.

ثم بعد عملية التقسيم إلى المجاميع يقوم المنطق الضبابي بعملية (تكثيف) (تكثيف قيمة الانتماء) أو عملية (توسيع) كما سيأتي في الدرس القادم بإذن الله تعالى.

فقه (رَدَّ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ إِلَى مُحْكَمِهِ‏)

وفي هذا الحقل نستحضر الرواية الرائعة التالية:

حيث يقول الإمام الرضا (عليه السلام): (مَنْ رَدَّ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ إِلَى مُحْكَمِهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم‏)(3) والمحتملات في هذه الجملة النورانية ثلاثة:

1- ان المراد: مَنْ فسّره به، أي من فسر متشابه الكتاب بمحكمه، كما لو فسر (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ‏) (سورة الفتح: الآية 10) بان المراد من اليد (القوة) أي قوة الله وليس الجارحة استناداً إلى محكم الكتاب القائل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ) (سورة الشورى: الآية 11).

2- ان المراد: مَن أدخل المتشابه في دائرة المحكم عبر تفسيره به (أي تفسير المتشابه بالمحكم) مما يعني ان التشابه ليس ذاتياً للمتشابهات وإلا لما أمكن انفكاكه عنه بل هو عرضي يزول بالتفسير ممن يمتلك أهلية التفسير وهم الراسخون في العلم، بعبارة أخرى: ليس المتشابه متشابهاً على مَن يعلمه بل هو متشابه على من يجهله فهو ذاتاً محكم لكنه بالإضافة إلى زيد متشابه، بوجه آخر: لا يوجد في القرآن وغيره متشابه على الله تعالى (أو على من الهمهم تعالى علمه) بلا شك بل إنما هي متشابهات علينا.

3- ان المراد (من جَعَلَ المحكم هو الحَكَم) أي اتخذه المرجع لدى الخلاف في تفسير المتشابهات.

والظاهر: انّ هذه المعاني الثلاثة لا مانعة جمع بينها بل كلها صحيحة يُشكّل كل منها وجهاً من وجوه المطلب أو تعبيراً آخر عنه، فيكمل بعضها بعضاً..

وبيت القصيد: ان هذه الرواية تقوم بعملية إعادة تشكيل انتماءات المجموعات حيث تتيح المجال لتحريك القضايا وإدخال بعض عناصر هذه الدائرة في ضمن دائرة ومجموعة أخرى.

ويكتشف درجات الحقائق ومراتبها

خامساً: المنطق الضبابي يتعهد باكتشاف درجات الحقائق، (إضافة إلى تحويل الحقائق المشاهَدة إلى درجات افتراضية تعطى للأجهزة الذكية كي يمكنها التعاطي معها بلغة الأرقام الكمبيوترية (وسيأتي شرح هذه النقطة لاحقاً).

- نموذج من النص الديني: (الْإِيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ...)

والمهم في الأمر ان نتعرف على روعة النصوص الدينية ودقتها وعظمتها حيث انها نطقت بقواعد المنطق الضبابي دون ان تسميها بذلك، ومن أروع الأمثلة: ان الناس عادة يتصورون الإيمان والمؤمن وعكسهما، من ثنائيات القيم فالشخص عندهم إما مؤمن أو ليس بمؤمن والإجابة عن وصف زيد بـ(مؤمن) إما يعدونها صحيحة أو خاطئة، حسب رؤيتهم عن ذلك الشخص، لكنّ الرواية التالية ترشدنا بوضوح وصراحة إلى ان الإيمان من الحقائق متعددة القيم وان له درجات ومراتب فلا يصح أن يُصنف مَن حَمَلَ احدى القِيم المتوسطة للإيمان، بانه ليس بمؤمن.

ونص الرواية هو: عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ إِنَّ الْإِيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ، فَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الِاثْنَيْنِ لِصَاحِبِ الْوَاحِدِ لَسْتَ عَلَى شَيْ‏ءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَاشِرِ، فَلَا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إِلَيْكَ بِرِفْقٍ وَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ)(4).

والطريف في الرواية: أنها بدأت بالتصنيف بحسب ما سُمّي لاحقاً بالمنطق الضبابي، وذلك على مستوى العقل النظري: (إِنَّ الْإِيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ...) ثم بعد ذلك استثمرت هذه المعادلة النظرية، على المستوى السيكولوجي والسوسيولوجي: (فَلَا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ) ثم على مستوى العقل العملي: (وَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ فَارْفَعْهُ إِلَيْكَ بِرِفْقٍ وَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ).

إذاً: ليس هذا المنطق ترفاً فكرياً بل هو معادلات علمية تبتني عليها أسس عملية في الحياة الإنسانية.

ومن ذلك كله نعلم: بان الحقائق الخارجية وإن كانت متنوعة، متغيرة ومتحولة إلا انها لا تخرج عن دائرتي المنطق التقليدي والمنطق الضبابي، وانها في أية دائرة دخلت فان لها قواعد وأحكاماً واضحة دقيقة وان الصحة والسقم في كل شيء بحسبه، وان التناقض هو: ان يقال بثبوت درجةٍ ما، ورفع تلك الدرجة بعينها، لأن شرائط التناقض الثمانية يضاف إليها شرط تاسع وهو وحدة المرتبة (ولعله يأتي شرح هذه النقطة لاحقاً، حيث ألحقها بعضهم بوحدة الموضوع لدى الدقة).

(إِنَّ الْآيَةَ لَتَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَآخِرُهَا فِي شَيْ‏ءٍ)

ومن أروع الروايات الشريفة التي يمكن إلقاء بعض الأضواء عليها عبر استنطاق بعض قواعد المنطق الضبابي، ما ورد في تفسير العياشي عن جابر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يَا جَابِرُ إِنَّ لِلْقُرْآنِ بَطْناً وَلِلْبَطْنِ ظَهْراً، ثُمَّ قَالَ يَا جَابِرُ وَلَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَبْعَدَ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ مِنْهُ، إِنَّ الْآيَةَ لَتَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَآخِرُهَا فِي شَيْ‏ءٍ، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ مُتَصَرِّفٌ عَلَى وُجُوهٍ)(5).

قواعد المنطق الضبابي في الرواية

توضيحه: إن كلام البشر مبني على أن للجملة الواحدة قيمة واحدة وان الجملة الواحدة تنتمي إلى مجموعة واحدة، حسب قواعد المنطق الكلاسيكي، لكن كلام الله تعالى هو كما قال الإمام (عليه السلام): (إِنَّ الْآيَةَ لَتَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَآخِرُهَا فِي شَيْ‏ءٍ) فهي تعتمد على نظام متعدد القيم، فليس للمجموع من أول الآية ووسطها وآخرها مضمون واحد كما هو مألوف كلام البشر، بل أولها، وقد يكون كلمة، في شيء وحقلٍ وبُعدٍ وله مُفاد، ووسطها، وقد يكون كلمة أخرى، في شيء وحقل وبُعد، وآخرها، وقد يكون كلمة كذلك في شيء، وليس المقصود الآن ان المفردات لكل منها معنى فان ذلك واضح بل المقصود: ان المفردات التي تقع ضمن جملة واحدة تفيد كل منها شيئاً بما هي مفردةٌ منسوبةٌ إلى سائر الجملة. فتدبر، فلا هذا المعنى فقط ولا ذاك فقط ولا ذياك فقط.

الآيات تندرج في مجاميع المتصلات والمنفصلات

إضافة إلى ذلك، فان الآية الواحدة تندرج في مجموعتين في وقت واحد: مجموعة المنفصلات ومجموعة المتصلات، فالمنفصلات إذ (أَوَّلُهَا فِي شَيْ‏ءٍ... إلخ) والمتصلات إذ (وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ) ويمكن ان نتجسد ذلك باننا نضع نقطة رأس سطر عند انتهاء الفقرة الواحدة أو الجملة الواحدة كدالّةٍ على أن الجملة السابقة قد انتهت وقد ابتدأنا بجملة جديدة.. إلا أن الغريب في الآية القرآنية الكريمة انها تقوم بالدورين معاً في وقت واحد: دور وجود النقطة ودور انعدام النقطة فهي على طريقة اتصالٍ في انفصال وانفصال في اتصال! فإذا وضعت النقطة كنت محقاً وإذا رفعتها كنت محقاً وإذا وضعتها ورفعتها كنت محقاً أيضاً (من جهتين) إذ هي متصلة – منفصلة والسبب في ذلك انه كلامٌ (مُتَصَرِّفٌ عَلَى وُجُوهٍ).

فهكذا نجد ان الآية الكريمة لا تخضع للمنطق الكلاسيكي ولا يمكنه بوحده ان يفسرها أبداً وإلا لكانت الآية متصلة أو منفصلة ولكان لها هذا المعنى أو ذاك، ولكنّ المنطق الضبابي هو الذي يمكنه ان يلقي الضوء، إلى حد ما، على بعض السرِّ اللغزِ المضمرِ في الآيات القرآنية الكريمة فهي متصلة نوعاً ما وهي منفصلة نوعاً ما بل هي متصلة تماماً من وجه ومنفصلة تماماً من وجه. فتدبر

وبكلمة: فان لكل الآيات الكريمة منطق وقواعد، ولكن ذلك المنطق لا يعلمه، على تمامه وكماله، إلا الله تعالى والراسخون في العلم (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ).

حكومة قواعد المنطق التقليدي على أطر المنطق الضبابي

ومن المفيد ان نشير إلى أن قواعد المنطق الضبابي وإن كانت حاكمة على سلسلة أخرى من القضايا لا تنالها يد المنطق الكلاسيكي، كما سبق إيضاحه، حيث تعد قواعده مكملة لقواعده، كما انها تسبح في بحر آخر، إلا انه ومع ذلك فان قواعد المنطق الضبابي بنفسها خاضعة في أطرها الكلية لقواعد المنطق التقليدي، وذلك يستدعي مزيداً من الإبانة والشرح إلا اننا نكتفي الآن بمثال صارخ على ذلك، فان كافة قواعد المنطق الضبابي تخضع لا محالة لكليات أطر المنطق الكلاسيكي، فالتناقض مثلاً، على أي تقدير، محال، والعكس المستوي ينتج جزئيةً.. وهكذا.

وللكلام عن المنطق الضبابي وعلاقته بتفسير النصوص الدينية وكيفية استثماره في دفع الشبهات والإشكالات وتحليل المتشابهات ولو في الجملة على ضوء بعض قواعده، تتمة بل تتمات وصِلة بل صلات فانتظر حتى البحث القادم بإذن الله تعالى.

الملخص:

- لكل قضية، بحسب المنطق الكلاسيكي احدى قيمتين.

- ولكن، وبحسب المنطق الضبابي (المسمى بمنطق الغموض والمنطق الغيمي أو Fuzzy logic) فان للكثير من القضايا قِيَماً متعددة فهي متعددة القيم.

- إدخال عامل (أو) يضيف بعداً آخر للقضايا ويمنحنا معرفة جديدة.

- إدخال عامل (نوعاً ما) (إلى حد ما) (بعض الشيء) يفتح آفاقاً معرفية كبيرة ويخرج القضايا عن التصنيف الحدي الصارم الدائر بين الخطأ والصواب والصح والخطأ.

- ينبغي تصنيف المفردات الضبابية إلى مجموعات ضبابية والقيام بعملية تكثيف أو توسيع وصولاً إلى ذلك.

- وذلك يتوقف على دراسة الحقائق التشكيكية ومنح كل مرتبة منها درجةً ورقماً محدداً.

- الحديث الشريف (إِنَّ الْآيَةَ لَتَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْ‏ءٍ وَآخِرُهَا فِي شَيْ‏ءٍ، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ مُتَصَرِّفٌ عَلَى وُجُوهٍ) الوارد عن خصائص الآيات الكريمة يجسّد واحداً من أروع الأمثلة التي تعبّر عن عدد من أبعاد المنطق الضبابي وقواعده. (بَرهِن ذلك)

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

....................................
(1) الدرس (360).
(2) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص421.
(3) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، دار العالم للنشر، ج1 ص290، وأبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى ـ مشهد المقدسة، ج2 ص410.
(4) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص44.
(5) محمد بن مسعود العياشي، تفسير العيّاشي، المطبعة العلمية ـ طهران، ج1 ص11.

اضف تعليق