ان الحركات التحررية في العالم كله، ما كان لها ان تنهض من دون متصدّين تستوعب نشاطاتهم، احزاب ونقابات وحركات، وعليه فان المبالغة في تسفيه فكرة الأدلجة، يعني الوقوع في فخها، مع اننا نرفض مبدئيا التزمت العقائدي، ليس الحزبي فقط، بل لكل قناعة يتبناها الانسان. والعقائد الشمولية...

شاعت في العقود الاخيرة، لاسيما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، عبارة صارت تطلق بصيغة إتهام ... مؤدلج! يطلقها متحدث ما، للنيل من اديب او مثقف، وهذه (التهمة) تحيل الى ان المؤدلج انسان ضيّق الأفق، اسير فكرة واحدة وغير منفتح ويفكر بطريقة قديمة انتهت مع انتهاء زمن الاحزاب الشمولية!.

لا نريد هنا ان نعدد اسماء المبدعين الكبار في العالم ممن كانوا عقائديين (مؤدلجين)، لكننا نرى ان كثافة تداول هذه العبارة يعكس ضمنا الاعلان عن انتصار قوة منافسة، سوّقت مشروعها من خلال مقولات الانفتاح والديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها، وعملت على القول ان اليسار بشكل عام، كان مشروعا ايديولوجيا فاشلا وغير انساني، بل صار يوصف بغير الاخلاقي ويأتي مرادفا للدكتاتورية!

للموضوعية، لابد من الاعتراف ان اليسار، الذي هو مفهوم سياسي لا يختزل بحزب معين، تعرض لاختراقات عديدة من قبل انظمة استبدادية، تسببت بتذمر شعبي، مهد للانقضاض عليه من قبل خصومه. في المقابل، الليبرالية التي انتجت النظم الرأسمالية وحكمت قرونا، هي الاخرى اذاقت الشعوب مرارة الحرمان والتفاوت الطبقي الحاد والظلم الذي توزع بين بلدانها ومستعمراتها واستمر هذا الى ما بعد الحرب العالمية الثانية.

فالليبرالية التي هي ايديولوجية مراوغة، كما وصفتها الكاتبة العربية هبة رؤوف عزت في بحث قيم كتبته قبل سنين، لاتختلف عن أي ايديولوجيا صارمة، ولم تصبح الحياة في ظلها مقبولة لغالبية البلدان التي حكمتها، الاّ بعد ان اخذت من الطروحات اليسارية، الاشتراكية تحديدا، الكثير وسرّبتها داخل مؤسساتها لاستيعاب الاشتراكيين وقطع الطريق عليهم، مستفيدة ايضا من تكلس اغلب نماذج الحكم ذات التوجه اليساري بمختلف اشكالها، شيوعية - اشتراكية قومية - تقدمية، وامثالها، وعدم تجديدها الفكر من داخله بفعل غياب المرونة المؤسسية للنظم التي حكمت باسمه، خلافا لليبرالية التي وسّعت مساحة مركبها الثقافي والسياسي والاجتماعي، واحتفظت بقيادته لنفسها من خلال النقابات وحرية الصحافة، والاحزاب مختلفة التوجهات.. الخ، ما مكنها من تدارك نفسها بعد كل كارثة تدفع نفسها والعالم اليها.

لاينبغي النظر الى اليسار من زاوية حزبية، بل بوصفه نزعة انسانية الى العدالة وتكافؤ الفرص وضمان اسس الحياة الكريمة، التي يوفرها نبذ الاحتكار، وتأمين لقمة عيش الانسان وصحته وسكنه وتعليمه، لكن للأسف، اغلب الانظمة التي تبنت اليسار، ضيقت هامش المناورة على نفسها باحتكارها الفكر داخل مؤسسة الدولة والدوران في واحديته، وكان يفترض إغنائه بالتعدد داخل مشغل واسع يستجيب لمعطيات الحياة المتجددة، فخسر اليسار مشروعه وفقد العالم ليس فقط التوازن السياسي والاقتصادي، بل والاخلاقي، بعد ان بات في قبضة ايديولوجية جديدة، تتمثل بمقولات فضفاضة تؤطرها جدران حديدية.

في عودة لمقولة (المؤدلج) نقول ان الحركات التحررية في العالم كله، ما كان لها ان تنهض من دون متصدّين تستوعب نشاطاتهم، احزاب ونقابات وحركات، وعليه فان المبالغة في تسفيه فكرة الأدلجة، يعني الوقوع في فخها، مع اننا نرفض مبدئيا التزمت العقائدي، ليس الحزبي فقط، بل لكل قناعة يتبناها الانسان. والعقائد الشمولية وغيرها لم تكن يوما عارا، وانما تجربة كبيرة، بات من الضروري تطويرها ليس باعادة انتاجها حزبيا، بل برؤية انسانية اشمل، لتقف بوجه الغول الرأسمالي العولمي، وتنتصر للإنسان كقيمة عليا والتصدي لتسليعه، وهذه مهمة المثقفين قبل غيرهم بالتأكيد.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق