المثقف ليس رسولا جديدا إلى مجتمعه، ولكنه فاعل فكري-ثقافي لا يمكن إذا أراد الوفاء لثقافته ومعارفه التي يحملها أن يتخلى عن هذا الدور أو يهرب من مقتضيات هذه المسؤولية. وأي إخفاق قد يصيب المثقف في هذه الأمور ينبغي أن يدرس دراسة موضوعية بعيدة كل البعد...
ثمة توجه في الساحة الثقافية والفكرية العربية، برز في الآونة الأخيرة، يسعى نحو تقويض دور المثقف وتحميله مسؤوليات العديد من الإخفاقات والأزمات التي يعاني منها الواقع العربي العام. فالفضاء العربي وعلى كل المستويات، يعيش العديد من المشاكل والأزمات، بحيث لا يخلو حقل من الحقول وجانب من الجوانب من وجود الأزمات والمشاكل التي تعترض طريق الحياة العربية السليمة.
فالمثقف في نظر هؤلاء بأوهامه العريضة، ونخبويته الصافية وحرصه الزائد على قيم الأمة وثوابتها الحضارية كلها عوامل أرست دعائم الأزمة وشاركت في صنع الإخفاق الذي مازلنا نعيش آثاره ومتوالياته المتعددة.
ومن الطبيعي القول في هذا الإطار أن الاجتهاد في نقد المثقف وبيان أخطائه ونواقصه سواء على مستوى النظر أو الممارسة من القضايا المشروعة والتي تساهم بشكل أو بآخر في تطوير أداء المثقف وتجاوز الكثير من الأخطاء أو نقاط القصور التي عانى منها المثقف العربي في فترات سابقة.
فنقد المثقف وكشف نقاط الضعف في مسيرته وعطائه، من القضايا الهامة والحيوية، التي تساهم في تطوير الحركة الثقافية وتطوير أداء المثقف على مختلف المستويات.
ولكن هناك فرقا بين نقد المثقف وتقويم دوره وجعل النقاط على الحروف فيما يرتبط بدوره ومهماته، وبين تقويض دوره وتحميله مسؤولية الفشل ونعته بأقسى النعوت واتهامه بشتى وأقذع التهم.
فمن الأهمية بمكان إخضاع المثقف العربي للنقد عبر فحص مقولاته وإعادة النظر في ممارسته لدوره ووظيفته. والمثقف هنا ليس حارسا لحقيقة مطلقة أو وصيا على شؤون الوطن والأمة والهوية، وإنما هو يمارس وظيفته المعرفية ويسعى إلى إيصال وعيه وفهمه وإدراكه إلى الأشياء والعالم إلى الآخرين.
وهذا الوعي الذي ينتجه المثقف، ويتفاعل من خلاله مع فضائه الاجتماعي، ليس صوابا بالمطلق، أو متعاليا عن الفحص والنقد، وإنما هو عطاء ثقافي ومعرفي ينبغي أن يخضع للفحص والتفاعل، حتى يصل الفضاء الاجتماعي إلى قناعة نهائية تجاه هذا العطاء الثقافي والمعرفي.
فمن حق المثقف كإنسان أن يحلم بعالم أفضل ويسعى للدفاع عن الحقوق والحريات. فحلمه النبيل ودفاعه المتواصل عن قيم النهوض والتقدم والتغيير والتطور ليس مشجبا يعلق عليه إخفاقات الأمة المختلفة. فإخفاق مشروعات الأمة في الحقب السابقة ليس وليد حلم المثقف أو قيامه بدور متميز في الدفاع عن قيم الأمة ومرتكزاتها الحضارية. إن عملية الإخفاق عملية معقدة ومركبة وكل الشرائح والفئات والطبقات والمدارس والتيارات، تشترك في صنع الأزمة ولا يمكن الخروج من هذه المآزق والأزمات إلا بمشاركة الجميع كل من موقعه.
فمآزق الأمة ومحنها العديدة، ليست وليدة عامل واحد، وإنما هي نتيجة طبيعية لجملة من العوامل والأسباب. ولا يمكن التخلص من هذه المآزق، إلا بتظافر كل الجهود والطاقات والإمكانات. فكما أن المشكلة مركبة ومعقدة، كذلك الحل من الضروري أن يكون شاملاً لكل الفئات والقدرات في المجتمع والأمة.
إن المجتمعات والأمم لا تتطور وتتقدم بالنخب المثقفة وحدها، وإنما تسهم جميع القوى الفاعلة في التقدم على مختلف الصعد وفي جميع القطاعات بحيث يشارك كل الفاعلين الاجتماعيين في عملية البناء والتطور والخروج من مآزق الحاضر. وهكذا بالنسبة إلى جميع الأهداف والغايات التي تنشدها الأمم والشعوب.
فالتخلف لا يقضى عليه بجهود النخبة المثقفة فقط، وإنما يحتاج إلى جميع الجهود ومن مختلف المواقع.
والمثقف حينما يكون صوته عاليا، ويطالب بالتغيير والتطوير ومحاربة التخلف وكل أشكال الجهل والانحطاط، فهذا لا يعني أنه ادعى الوصاية على قيم التقدم والتنوير والتنمية، وإنما هو يسعى من موقعه إلى القيام بدوره وصنع حقيقته ومعطياتها المناقضة إلى الممقوت من الواقع السائد. وتراخي الفئات الاجتماعية الأخرى عن القيام بدورها في هذا المجال ليس مبررا لاتهام المثقف بدعوى وصايته على شؤون الأمة والوطن. صحيح أن المثقفين العرب اليوم يعانون من أزمة في دورهم ومسارهم التاريخي، ولكن هذا لا يعني أن أزمات الأمة وإخفاقات مشروعات النهوض والتقدم فيها سببه المثقف وإصراره على دوره التاريخي ونموذجه المعرفي.
أما مناقضة المثقف (على مستوى السلوك والممارسة) لثقافته والقيم التي ينادي بها فهي حالة ليست خاصة به، بل هي مرض عضال، قد يصيب مختلف الشرائح والفئات. وعلاج هذا المرض العضال ليس في هروب المثقف وانزوائه أو عدم التزامه بأدواره ووظائفه المختلفة، وإنما بالمزيد من الوعي والإخلاص والتربية والعلاقة المباشرة والصافية بالقيم وبالمبادئ. وبطبيعة الحال فإن دفاعنا عن المثقف ودوره وتجربته لا يعني خلو ساحته من النواقص والأخطاء.
ولكن هناك بونا شاسعا بين من يخضع دور المثقف للفحص والمساءلة والنقد، وبين من يحمله مسؤولية الإخفاقات والنكبات التي منيت بها أمتنا في عقودها الأخيرة. وحتى نبتعد عن النرجسية في النظر إلى المثقف ودوره ومهامه، من الضروري القول إنه ينبغي للمثقف أن يخرج من عزلته وقوقعته التي تزيده بعدا عن جمهوره ومحيطه الاجتماعي.
ولابد أن يبتعد أيضا عن الاشتغال على توافه الأمور والقضايا ويشتغل معرفيا وفكريا عبر الإنتاج والخلق المعرفي والجمالي بالأفكار والمعارف ذات الأولوية والتي تتجه إلى تجديد روح الأمة، وتزرع في محيطها كل أسباب التقدم والتنمية. بهذا فإننا لا نعتبر المثقف مخلصا وحيدا للأمة من نكباتها وأزماتها، وإنما نعتبر أن جهده الفكري وفعله المعرفي، له الدور الأساسي في صناعة الأمة القوية والمجتمع القادر على تجاوز محنه وأزماته.
فالمثقف ليس رسولا جديدا إلى مجتمعه، ولكنه فاعل فكري-ثقافي لا يمكن إذا أراد الوفاء لثقافته ومعارفه التي يحملها أن يتخلى عن هذا الدور أو يهرب من مقتضيات هذه المسؤولية. وأي إخفاق قد يصيب المثقف في هذه الأمور ينبغي أن يدرس دراسة موضوعية بعيدة كل البعد عن كل أشكال التهوين أو التهويل.
وعلى المثقف على حد تعبير (الدكتور علي حرب) في كتابه الموسوم بـ (الفكر والحدث حوارات ومحاور) أن يراجع أشكال معرفته وأنماطه في التفكير لكي يغير علاقته بذاته وبالغير وبالأحداث والأشياء، إنه محتاج إلى لغة مفهومية جديدة تتيح له قراءة العالم قراءة خلاقة، والتعاطي مع الواقع بصورة فعالة.
بهذا المعنى فنقد المثقف هو محاولة لتشخيص الأزمة والخروج من المأزق بامتلاك إمكانيات جديدة للحياة والوجود.
إن نقد المثقف وبالذات مع التحديات الجسيمة التي تواجه واقعنا العربي نقد يتجه إلى تقويم ممارسة المثقف ودوره ومساهمته في تعرية الواقع واقتراح الحلول وسبل المعالجة للأزمات والمشكلات التي يعاني منها هذا الواقع.
وينبغي لنا كمثقفين أو مهتمين بشؤون الثقافة أن نستبشر خيرا حينما تنمو ثقافة النقد البناء في الواقع العربي. لأن هذه الثقافة هي القادرة على دفع الواقع العربي إلى الأمام، وتحريك قوى الأمة، وتعبئة إمكاناتها في إطار العناية بالقضايا والمسائل الجوهرية لهذا الواقع. ونحن في الوقت الذي نرحب بإشاعة ثقافة النقد فيما يخص دور المثقف وأدائه المعرفي والفكري، في ذات الوقت نرفض تحت أي عنوان كان تقويض دور المثقف أو تحميله مسؤولية الإخفاقات أو تحقير الأدوار التي قام بها في الحقب التاريخية السابقة. وإشاعة ثقافة النقد والمساءلة تجاه المثقف وأدواره ووظائفه تعني:
1- المزيد من حيوية الحياة الثقافية العربية وفاعليتها واتجاهها إلى مناقشة الأمور والقضايا الجوهرية ذات الطابع المهم والاستراتيجي. فلا حياة حقيقية للثقافة إلا بالنقد والمساءلة والتقويم.
ومن يبحث عن الثقافة بعيدا عن النقد وضروراته، فإنه لن يحصل عليها. فالتضحية بفعل وضرورات النقد في الواقع الاجتماعي، تساوي التضحية بكل الثقافة ووسائطها المتعددة.
2- البناء الفكري والثقافي المتين، وذلك بفعل المتطلبات التي توفرها ثقافة النقد. وبهذا لا يكون لأدعياء الثقافة والمنتسبين زورا إليها أية فرصة لممارسة أي دور تضليلي أو تمويهي في هذا الإطار. وبهذا أيضا لا تبرز إلى الساحة الفكرية والثقافية إلا النتاجات الجادة التي تتوفر فيها المواصفات المطلوبة لأي عمل فكري وثقافي متقدم.
3- إضافة ومضاعفة إمكانات التطوير والإبداع في الحياة الثقافية العربية. وذلك لأن الثقافة النقدية تساهم في تفكيك القوالب الفكرية الجامدة والساكنة، وتتجاوز كل العناوين التي أصبحت معرفيا تنتمي إلى عصر مضى، وتجعل الآفاق مشرعة ومفتوحة أمام الفعاليات الفكرية الجادة لكي تمارس دورها، وتشارك في تكثيف البعد الإبداعي في الثقافة العربية المعاصرة.
اضف تعليق