q

الدولة كيان حديدي يعتمد جميع أساليب القوة وأنواعها، لكي يسكن الجميع تحت هيمنتها، في المقال تسعى لتجعل من الجميع، أفراد، جماعات، منظمات، مؤسسات غير رسمية، تحت غطائها ومؤيدة لها، فهي ليست نظاما فرديا، ولا جمعيا، إنها هيكل عسكري سياسي إداري خليط من شخصيات ومؤسسات وأنظمة مختلفة، كلها تكون تحت أمرة الدولة، وتصبح طوع يديها.

ما هي أساليب الدولة لتركيز هذه الهيمنة؟، بالطبع تمتلك الدولة وسائل قد يصعب تحديدها في إطار معين، وهي بمثابة الاحتياطي القوي الذي تلجأ إليه عندما تشعر بخطر تفكيك النظام وتثبيط الرأي العام، ولعل من أهم تلك الأساليب القواعد الفكرية التي تنطلق منها الدولة، لتضمن إخضاع المجتمع لها ووضعه تحت مرمى هيمنتها، فتسعى كي يكون فكرها ماضيا نحو تفكيك الرأي الجمعي المضاد للدولة، وجعله مؤيدا لها وخاضعا لرؤيتها، وقد يقترب الحال من الاستعباد الفكري والمادي معاً.

السؤال الآخر.. لماذا تتناقض إرادة الدولة مع المجتمع أو الشعب، ولماذ تسعى إلى تثبيط كل ما يتضادّ معها، ما هي أسباب هذا التضادّ بين الراعي والمرعي؟ ثم أين يكمن مرتكّز التناقض بين الاثنين؟.

الدولة كونها كيان متجبّر، سوف تسعى على نحو مستدام كي يكون الجميع تحت مظلتها، وتجاهد كي لا ينفرط الجمع ليخرج عن طوعها، فهي نظام حديدي متناسق، همّه الأول أن لا يفوقها شيء في الهيمنة، فتنشئ الفكر الذي يساعدها على تفتيت الرأي العام المعارض لها، وتلتزم بنظام الجبرية، وتبدأ بمشروع التفتيت بالصيغ الفردية، صعودا إلى الجمعية.

لا يقتصر مسعاها في مضمار بعينه، إنها تبتغي إخضاع المضامير كلها لكلمتها، بما يروق لها، ويؤكد هيبتها ويبالغ بهيمنتها، فالسياسة يجب أن تكون في خدمة كيان الدولة قبل أن تكون في خدمة المجتمع، هكذا تفكر الدولة، والاقتصاد ينبغي أن يضع قدراته طوع بنان الدولة، والتعليم كذلك، ولعل حجر الزاوية في الخطر الذي يتهدّد المجتمع، يكمن في هذه الناحية بالضبط، أي عندما يكون التعليم في خدمة الدولة، فيُصبح الإنسان مستعبَدا من الدولة، مذ طفولته حتى شيخوخته، وهذا هو ما ترومه الدولة، فتصنع الإنسان الواقع تحت هيمنتها.

بالطبع نموذج الدولة المتجبّر يمكن أن نجده في العالم المتقدم ونقيضه، فالدولة كما هو متعارف ليست الحكومة، والأخيرة لا تمثل الدولة، لكن في التجارب الهشة فكريا وماديا، يتنمّر كيان الدولة، فيسحق الجميع، ويضع الكل تحت سطوته، لكن النموذج الأكثر رداءة سنراه في المجتمعات المتخلفة التي يتشكل فيها الرأي العام اعتباطيا ولا علاقة للوعي في تأليب الرأي العام ضد ظاهرة مسيئة، هنا يكون الرأي العام منساقا وراء القطيع لأنه يعاني من أساليب التثبيط وعدم التعزيز، فيسهل للدولة استعباده والتحكم به وكسب تأييده سواء أكانت دولة ظالمة أو عادلة.

في الاقتصاد مثلا، تمسك الدولة الفاشلة بمفاتيح العمل والوظائف والانتاج والتسويق والاستيراد والتصدير، حتى يكاد القطاع الخاص يلفظ أنفاسه بسبب هيمنة الدولة، يساند هذا التوجّه الأعرج توجّه مجتمعي شامل كشمولية الرأي العام، يتحرك بقوة وبتنافس وربما بصراع محتدم كي يكون تحت مظلة الدولة، من خلال البحث بشراهة عن الوظيفة، والتقاعس الشديد عن الولوج في خيارات بعيدة عن وظائف الدولة التي ستصاب في الدول الهشة بالأقنعة الكاذبة للشغل.

وكذا في التعليم كما أسلفنا، أما الأخطر في هذا المدار، فهو حين تضع الثقافة نفسها في خدمة الدولة ودعم هيمنتها وسطوتها، فهذا يعني أن الرأي الشامل يتبرع طوعيا برأب تصدعات الدولة، ويسندها، فتصير الثقافة مهماز الدولة وصولجانها، والبوق الذي يثقف لها، فيتبنى أفكارها وتوجهاتها وقراراتها، فيختلط في هذه الحالة، تأييد الدولة وهيمنتها، بتأييد النفس الحكومي وقبوله بأتعس حالاته وتوجهاته، هنا مكمن الخطورة في وضع الثقافة قدراتها وإمكاناتها تحت تصرف الدولة، فالحال هنا سوف يكون أكثر خطرا، لأن الثقافة قد تكون هي السدّ الأخير لمنع الدولة أو الحكومة من اللعب على المجتمع كما تشاء.

لهذا قيل كلما كانت الثقافة أكثر استقلالا، كانت الدولة أقل سطوة على ساكنيها، أما حين تصبح الثقافة طوع بنان الدولة، هنا سنقرأ السلام على الرأي العام بسبب محاولات الدولة تثبيطه وجعله مشلولا بلا تأثير أو قدرات، وعلى المجتمع بكل ما يزخر به من كفاءات وطاقات، هذا يجعلنا جميعا أكثر تشبثا بالثقافة المستقلة، والفكر الذي لا يمكن للدولة أن تستدرجه تحت جناحيها، الثقافة والفكر لا يصلحان كجناحين للدولة إلا إذا تم استمالتهما واستدراجهما بأساليب الدولة التي تتوزع بين الترهيب والترغيب، لكنهما (الفكر والثقافة) يصلحان بقوة كجناحين للمجتمع الذي يرفض الانضواء تحت هيمنة الدولة المتجبرة.

فالمفكرون والمثقفون هم أصلح الناس وأقدرهم على تقويض هيمنة الدولة، عندما تخرج بعيدا عن المقبول، والعلماء والدعاة الأخلاقيين لهم حصّتهم من هذا المنال الأساس، لهذا قيل إذا هزلت الثقافة ضعفت الأمة، وإذا اضمحلّ الفكر تداعت أواصرها، وإذا تم تحييد العلماء، يزداد جور الدولة، وانطلاقا من ذلك تبدأ مهمة الفكر والعلم والثقافة في تحجيم هيمنة الدولة، وتركيز دورها بما يطوّر المجتمع وليس بما يُخضع الفرد والمجتمع للدولة، وليس القصد هنا المحاربة أو الإضعاف، ولكن من حق المجتمع أن يرفض فكر الدولة إذا يروم الهيمنة.

أما في السياسة فإن أخطر الأدوار التي تنهض بها الدولة بقصد تكبيل المجتمع وإدخاله في زنازينها، هو سياستها التي يجري تخطيطها في السراديب الخفية بما يضاعف من هيمنتها على الجميع في مدارها، ولا يمكن أن تذهب الدولة في المسار المعاكس، فهي لا تعبأ بالرأي الذي يخرج عن (أبويتها)، وفي قبال ذلك تزجه فيما يلهيه عن مقاومة قوتها وهيمنتها.

يلجأ القادة الطغاة الذين يختصرون كيانات دولهم في شخوصهم، إلى اختلاق الأزمات، ومن أشدها وأكثرها مضاء وشدّة، الأزمات السياسية التي تفتح للحكام بوابات الحروب على مصراعيها بما تحمله من أعباء ترتكز على كاهل الناس، مع اعتماد الترويج الفكري والإعلامي وحتى الثقافي لتهيئة الرأي العام وإجباره بالخنوع للدولة وهي تخوض حروبها المختلّقة من أجل إلهاء المجتمع وتقويض الرأي العام، وهكذا سنجد الدولة ذات هيمنة مصنّعة بخبرات مدرّبة على إدامة سطوتها بصورة مستدامة على الفرد والجماعة، مع تقويض الرأي العام المضاد، مع سلب حرية الفرد باستخدام فتح الطرق التي تقود إلى فكر الدول وأحضانها فقط.

اضف تعليق