q

من الجليّ أن نعرف إن الاقتصاد بطبيعته هو ذو اتجاهات اجتماعية أكثر مما هو ذو اتجاهات اخلاقية، ومن هنا نفهم أنه قد ولا يتناسب مع توجه الجميع في اشباعه للرغبات الفردية من السلع والخدمات، بمعنى أخر فأن الاقتصاد ينتج في اطاره كل شيء ممكن انتاجه، الا ما يمكن أن يُعد غير قانوني، الذي يعد جريمة اقتصادية يحاسب عليها القانون كالغش الصناعي والتجاري والسرقات وتجارة الاعضاء البشرية وغسيل الاموال ...الخ. والمغزى من ذلك هو لما لذلك من ضرر اقتصادي واجتماعي.

اذن كيف يكون الاقتصاد علم اجتماعي وليس اخلاقي بينما هو يجّرم ويحاسب كل هؤلاء؟ الاجابة عن هذا السؤال، تكمن في أن الاقتصاد هو نسبي التعامل مع هذه الحالات بما يخدم مصلحة الاقوى في تحقيق غاياته. فعلى سبيل المثال على الرغم من أن تجارة المخدرات تعد من الجرائم الاقتصادية والاجتماعية، الا أن ممارسة القمار وتجارة الكحول والمراهنات والمضاربات والدعارة لا تعد جريمة اقتصادية!!.

اذن ما هذا التناقض فيما يعد قانونياً وفيما يعد غير ذلك، ببساطة يكمن التباين والتناقض في هذه المسألة في قوة الضغط الشعبي الذي يدفع نحو تجريم هكذا افعال عن سواها، فالاقتصاد يستجيب لحاجة الافراد من جهة ولضغوطاتهم من جهة اخرى في تقديم الافضل عبر الرأي العام والمطالبات السياسية والاعلامية، وبالتالي استثنى الدين كقوة منظمة تحرم الممارسات غير الشرعية كالكحول والدعارة والقمار وما شابه. ان حجة الاقتصاد في عدم تجريم هكذا نشاطات يعود الى اتساع حجم هذا النشاط والرغبة الشعبية في ممارستها فضلاً عن الاستفادة منها من خلال فرض الضرائب وبالتالي زيادة الايرادات الضريبية.

وسعي القائمون على الاقتصاد في تنحية الدين عن أن يكون مقوم لمسار الاقتصاد، هو بسبب قداسته والتزام الافراد به، كونه احكام صادرة من الله للأنسان من أجل سموه ورفعته، وبالتالي فإن التزام الافراد بالدين سيكون أمرا حتميا لايمكن للاقتصاد أن يقف أمامه أو أن يمنع تعاليمه او يغيرها كيفما يريد، ومن هنا بدأت المساعي بفصل الدين عن الاقتصاد كبداية ومن ثم عن السياسة كنهاية. وبالتالي أصبح الطريق معبداً أمام الاقتصاد في أن ينتج ما يشاء.

ويبقى السؤال؟ هو لماذا يحرم الدين المال او الكسب الحرام غير المشروع، كالكحول والربا والتربح من القمار والمراهنات؟ مادامت تدر دخلاً وارباحاً وتشكل تجارة رائجة وموطن عمل للكثير؟

والاجابة على هكذا نوع من التساؤلات، يقبع في أن الدين ينظر لأبعد مما ينظر اليه الاقتصاد، في كونه يطغى عليه الجانب الربحي او المادي أكثر من الانساني والاجتماعي، فالاقتصاد يعمل وفق فكرة الغاية تبرر الوسيلة، في حين الدين لا يعمل بموجب هذه الطريقة وانما ينظر الى المفاسد والمخاطر التي تصيب الفرد والمجتمع من ممارسة أي نشاط قبل أن ينظر الى كم سيوفر هذا النشاط من مال او ربح. ووجهة نظر الدين في ذلك في أن هكذا نشاطات ستعمل الى اشاعة ظاهرة التكسب والحصول على اموال من مصادر غير موثوقة وغير شرعية وغير انتاجية، وبالتالي اشاعة التكسب والربح السريع الذي يكون على حساب الغير جراء استغلالهم كالربا والمراهنة.

فضلاً عن ذلك هذه الممارسات وكما أثبتت التجارب والمشاهدات، انها هي السبب في انتشار حالات الفساد الاداري والمالي والاجتماعي والجريمة المنظمة والسرقة والقتل والانتحار. بل وتشجع الاخرين الى الولولج فيها بسبب الارباح السريعة التي يمكن الحصول عليها مقارنة بمن يكد ويعمل وبإجور قد تكون متدنية.اي ظهور ما يعرف بالمجتمع الطفيلي الذي يقوم على اقتناص الفرص السهلة وغير المشروعة في التربح والتي لاتقدم اي سلع وخدمات في المقابل للمجتمع للاستفادة منها، واذا ما حصل ونتج سلع وخدمات عن هكذا نشاطات فهي في العادة ضارة وسلبية ومدمرة للمجتمع.

وهناك أمر خطير فات على الاقتصاد أن يأخذه في الاعتبار، وهو أن الدين محرك للضمير عكس القوانين أيً كان شكلها، لأنه الدين يمثل تناغم وارتباط روحي ويولد قناعات ذاتية في إيجابية العمل والتكسب والحلال بغض عن وجود قوانين تحث على ذلك، بمعنى أخر أن تنحية الدين او ابعاده عن تقويم مسار الاقتصاد والسياسة لن يمنع الافراد من القيام بالجرائم والتكسب الحرام وغير المشروع، والدليل على ذلك أنه حتى في ظل وجود قوانين رادعة وصارمة بحق التجارة غير المشروعة وغيرها، الا ما زال الافراد يمارس هكذا نشاطات واحياناً بدعم سياسي ومن القائمين على الاقتصاد. ففي لو فُسح المجال للدين للتعامل مع هؤلاء وبالصورة الصحيحة، فانهم سيتولد لهم ايمان حقيقي وذاتي بسلبية وعدمية جدوى ما كانوا يقومون به في السابق. وعليه فإن القوانين الدينية ذات طبيعية دايناميكية وأثر فاعل أكثر من القوانين الوضعية في معالجة الاتجاهات الخاطئة والخلل في أي نظام. ويكفي قول المؤرخ البريطاني توينبي في الاسلام بأن الإسلام يشكل حاجة إنسانية، ويمكن أن يؤدي دورا في جوانب شتى، منها تخليص الجنس البشري من مرض الكحول، الذي يجب القضاء عليه.

اضف تعليق