q

كان جون لوك احد الفلاسفة الاكثر شهرة في انجلترا، وهو اذ كتب في اعقاب الحروب الاهلية الانجليزية في القرن السابع عشر، كان همه التأسيس المناسب لحكومة مدنية، وبدلاً من التنظير البسيط، شكلت كتابات لوك الدعاية الاساسية لطبقات التجار الناشئة التي كانت تنتزع السلطة شيئاً فشيئاً من النخب الارستقراطية البريطانية، وكان لوك جزءاً من الحركة التي بلغت ذروتها في "الثورة المجيدة" للعام 1688، التي نزعت السلطة من الملك وعززت سلطة اشخاص مثل لوك.

وبغض النظر عن التفلسف حول حقوق المواطنين في كيان سياسي وحدود لسلطة الملوك الذين يسعون الى حكمهم، كان لوك من الثوار الاقتصاديين، واسس فكرته التي تشكل القاعدة الشرعية لحقوق الملكية الفردية، والتي من دونها لايمكن ان توجد الليبرالية الاقتصادية، ولافصل بين الدولة والسوق، ولا الرأسمالية كما نعرفها اليوم، وترد رؤية لوك في كتابه الرسالة الثانية للادارة الحكومية، ولخلق الفصل بين الدولة والسوق الذي اراده، كان على لوك القيام بخطوات كثيرة منها: تطبيع المدخول والتفاوت في الثروة، وتشريع الملكية الخاصة للارض، وشرح ظهور اسواق العمل، ونزع الصفة السياسية عن اختراع الجهاز المسمى "المال" الذي يجعل هذه الامور كلها ممكنة، واساساً، ان ليبرالية لوك هي الليبرالية الاقتصادية التي تضع الفرد ضد الدولة "الدولة لايمكن التعايش معها، ولايمكن العيش من دونها، ولايراد دفع تكلفتها"، ويبدأ التاريخ الفكري للتقشف من هنا.

جون لوك يتخيل السوق

يبدأ لوك بالتساؤل: كيف يمكن لـــــ"الله الذي اعطى العالم للناس في شكل مشترك"، ان يسمح بالتراكم غير المكافئ، ان لم يكم غير المحدود، للثروة؟ تكمن الاجابة في تصور لوك للملكية، بالنسبة الى لوك، تكمن الملكية فينا جميعاً، في اشخاصنا، لكنها مهمة فقط لقابلية التحويل بينها وبين عملنا، وهذا يعني اننا عندما نعمل على شيء، مثل الارض، يجعله عملنا ملكاً لنا.

ويقول لوك "اي شيء يزيله شخص من حالة طبيعية ويمزجه بعمله يجعله بذلك من ممتلكاته" الآن، قد تعتقد انت بأن الناس الاخرين في ذلك الوقت سيتعرضون على استيلاء شخص على ارض عامة بهذه الطريقة، لكن لوك يصر على ان "اخذ هذا الجزء او ذاك (من الارض) لايعتمد على موافقة صريحة من العوام جميعا" اذ "لايزال ثمة مايكفي (الجميع) وبالجودة نفسها"، كان المشروع السياسي للغاية الذي انهمك فيه اهل طبقته في تلك المرحلة، وكانت الخطوة المقبلة للوك حماية هذه المؤسسات الجديدة للسوق من ذلك العدو الناشئ للرأسمالية: الدولة.

انتاج التقشف غيابياً

نلاحظ ان ايا من لوك وهيوم وسميث المنظرين لايقدم حجة مباشرة لمصلحة التقشف، وبالتالي ينصب تركيزنا على غياب التقشف، وينهمك لوك وهيوم وسميث في بناء الدولة وكبحها، الدولة التي لم تنفق بعد بما يكفي لتبرير سياسات تخفيض الانفاق، لكن التي تثير ديونها قلقاً عميقاً مع ذلك، نجد نشأة التقشف هنا، في الخوف المرضي من الديون الحكومية التي تقع في قلب الليبرالية الاقتصادية، فالدين الحكومي يحرف المدخرين، ويصرف التجار، ويدمر تراكم الثروة، يبني لوك الليبرالية للحد من الدولة مهما كلف الامر. ولايرى هيوم منفعة حقيقية للدولة فطبقة التجار هي الطبقة المنتجة التي ينبغي ان تتدفق الاموال اليها، ويرى سميث دوراً للدولة لكنه يناضل بعد ذلك في سبيل تمويلها، يريد ان يدفع اقل مايمكن من الضرائب لدعم الدولة، لكنه يدرك انه من دون هذا الدعم لايمكن ان تستمر سياسيا الرأسمالية التي بفضلها، يقود تقتير سميث (الادخار)، وليس اسرافه (الاستهلاك) كل شيء، ثم تأتي الديون الحكومية، الديون التي ستصدر لاحقاً، مايهدد مخطط سميث بأكمله، وربما قدم هيوم الينا المبررات الاقتصادية للحد من الديون، غير ان سميث هو الذي يحول الدين الى مسرحية معنوية، هو يعطينا الحجج المعنوية ضد الدين، التي لايزال يتردد صداها اليوم.

للانصاف، ليس الامر كأن سميث وهيوم اختلقا هذا كله لمجرد الرغبة في تفادي الضرائب، قبل فترة طويلة من زمن لوك، راكمت الدول ديواناً وافلست بأنتظام رتيب، فأفقرت مقرضيها بهذه العملية، وفي زمنيهما الخاصين بهما، رأى هيوم وسميث معاً امثلة عن انحراف تمويل الديون، وعاش سميث صدمة انهيار "مصرف اير" وهو مصرف اسكتلدني ممول بديون هددة الملاءة المالية للمتبرع الرئيسي لسميث وهو ايرل بوكليوش، وفي كتاباته فكر هيوم في المحاولة السابقة لجون لو، وهو اسكتلندي آخر، لتسديد الديون الوطنية لفرنسا من طريق اصدار اسهم في شركة تجارية عملاقة استخدمت مصرف فرنسا وكيلاً ماليا لها.

التقشف اليوم

غير انه فيما يتعلق بالطريقة التي ننظر بها الى التقشف اليوم، يبدو النقد المعنوي الذي كاله سميث الى الدين مألوفاً كالنقد الاقتصادي لهيوم، ان الادخار فضيلة والانفاق رذيلة، ولابد من ان الدولة التي تدخر تفعل الشيء الصحيح، في حين ان المنفقين يحضرون لمتاعب، في ازمة اليورو، نرى المدخرين الاوربيين الشماليين الى جانب المبذرين الاوربيين الجنوبيين، على الرغم من ان الاستدانة المفرطة مستحيلة من دون الاقراض المفرط كذلك، لاحظ كيف ان مزاعم الدول الغربية، ان مشاكل ديونها تكمن مع الدول الاسيوية التي تدخر كثيراً، لا تلقى تعاطفاً، المعنويات لاتقف الى جانب المبذر.

في منطقة اليورو، لا تواجه البلدان ذات الفائض مشكلة في ادارة فائض تجاري دائم لكنها تنتقد الاخرين لأدارتهم عجزاً، كما لو ان احدهما ممكن من دون الاخر. واخيراً، تجد مخاوف سميث عن الادخار في مقابل الديون والتقتير في مقابل الاستهلاك صدى جاهزاً في توسل المستشارة انجيلا ميركل قيم ربة المنزل علاجاً لمتاعب منطقة اليورو: الادخار والتقتير وتجنب الديون هي مفتاح النجاح، وبعد 300 سنة لاتزال الازمة هي نفسها، قد لايكون التقشف كما نعرفه اليوم، بأعتباره سياسات نشطة لتخفيض الموازنة والانكماش، بادياً للعيان في تأريخ الفكر الاقتصادي المبكر، غير ان ظروف مظهره- التقتير والتدبير، والمعنويات والخوف المرضي من مغبة الدين الحكومي- تقبع في اعماق السجل الاحفوري لليبرالية الاقتصادية منذ بدايته.

وقال العالم الاقتصادي جون ماينارد كينيز مرة: ان افكار علماء الاقتصاد والسياسة، سواء حين يخطئون ويصيبون، اكثر قوة من المفهوم السائد، وفي الواقع، لايحكم العالم غيرهم سوى قلائل، فالرجال العمليون، الذين يعتقدون انهم معفون تماماً من اي مؤثرات فكرية، يكونون عادة عبيداً لأقتصاد بائد، ليست افكار اليوم حول التقشف استثناء لهذه القاعدة، لايزال ورثة الليبرالية الاجتماعية والمدرسة النمساوية الذين برزوا في منتصف القرن العشرين، يحددون الشروط الاساسية لمناقشة التقشف بعد ثمانين سنة، ونحن الان نتبع هذه الافكار من خلال فترة الكساد العظيم وفترة مابين الحربين بأستخدام اعمال كينز وشومبيتر كنماذج لنا.

نجا التقشف في جزء واحد من العالم كان في مأمن من اللورد كينز: العالم الناطقة بالالمانية، وواصلت المدرسة الاقتصادية النمساوية اعطاء التقشف منزلاً فكرياً معولماً، في حين اعطى الاوردوليبراليون الالمان التقشف قاعدة وطنية للعمليات.

اضف تعليق