q
ثقافة وإعلام - ثقافية-اعلامية

مجلة النبأ.. ربع قرن من العطاء الفكري الثقافي المعتدل

قراءة في العدد الأول من مجلة النبأ الشهرية الثقافية العامة

أقل من ربع قرن بقليل مضى على انطلاق العدد الأول من مجلة النبأ الشهرية الثقافية العامة، حيث صدر العدد الأول منها بالتحديد في 26 جمادي الثانية 1414هـ ، 11/12/ 1993، وتصدر هذا كلمة افتتاحية مكثّفة، حملت في مضمونها الخطوط العريضة للمجلة، والأحلام العريضة للقائمين عليها، وهم عبارة عن الكادر القائم على التحرير والتنضيد والتصحيح اللغوي ومتابعة التصميم والطباعة ومشكلاتها هي والتوزيع الذي غالبا ما تصاحبه مشاكل كثيرة، ومن المفارقات الجميلة أن كادر التحرير كله أو معظمه يتشكل من المهجرين والمهاجرين والذين ضغطت عليهم الظروف بكل قسوة، لكن النتائج والثمار التي تم قطفها عوضّتهم عن ذلك.

فقد ورد في افتتاحية العدد الأول لهذه المجلة العريقة: (لا زلنا في بداية المسيرة ولا زالت الابواب أمامنا مشرعة، للدخول في حدائق السعادة والنصر، وتراكمت الافكار الجيدة والثرية في عقولنا، فالجوهرة لا تصبح جوهرة رائعة إلا بعد أن تُصقل وتُهذب)، ويقول كاتب الكلمة: (الهجرة والجهاد والضغوط والشدائد تعلمنا الحياة، وتعطينا التجارب وتغنينا بالرؤى والافكار التي قد لا نحصل عليها في الدراسة والمطالعة).

وتجدر الاشارة الى ان الظروف والأجواء التي كانت سائدة في زمن انطلاق العدد الاول للنبأ، لم تكن مناسبة للإبداع ولطرح الآراء الحرة، فهناك صراع شديد بين السلطة الغاشمة وبين الفكر، لذلك كانت جميع الأقلام المتحررة تحت الرصد والمراقبة، ومن ثم إنزال أقصى العقوبات بمن يمس الحكومة برأي أو كلمة أو مقال يضع النقاط فوق حروفها، وعلى الكاتب أن يكون في قمة الحذر، وإلا سوف يكون تحت طائلة العقوبات التي قد تصل الى درجة الاعدام أو النفي والتعذيب وما شابه من وسائل وأساليب ضغط للحكومات ضد المناوئين لها.

أما الموضوع الأول الذي تصدّر مقالات هذا العدد البِكْر، فقد حمل العنوان التالي (الأمل طاقة الحياة)، وهذه إشارة قد تكون مقصودة ورسالة واضحة لمن يعادي الفكر الحر، بأن أصحاب هذا المشروع الثقافي التنويري متمسكون بأهدافهم، وفكرهم الحر، وأن الأمل يحدوهم دائما للوصول الى ضالتهم.

ومما جاء في هذا المقال: (ان الامل طاقة الحياة وبها يمكن ان نعيش ونواجه المشكلات، ولو لا ذلك البصيص الخافت الذي ينبعث من تلك الفسحة الصغيرة التي تنشر خيوطها الرفيعة فنندفع للتعلق بذلك البصيص الخافت، لما أمكن أن تعيش الانسانية وتتقدم حضارتها ومعيشتها، لذلك بالأمل الحقيقي الهادف يمكن ان نحقق اهدافنا ونوجه أنفسنا لخدمة طريق الحق، وبالأمل بالله يمكن ان نوجه أنظارنا الى الآخرة ونخرج من الدنيا وقد حملنا المتاع الجيد).

مزايا مشاركة الآخرين

(مشاركة الآخرين)، هو عنوان المقال الثاني المنشور في هذا العدد الأول من مجلة النبأ، ومما تجدر الاشارة إليه، عدم وضع اسماء الكتاب على مقالاتهم، وهذا دليل دامغ على ضيق افق الحكومات التي تحكم العرب والمسلمين، فعندما يصل الامر بالفكر الى هذا النوع من الملاحقة والقمع، فهذا يعني ان الحكومات في حالة رعب دائمة من الكلمة!.

وقد جاء عن مزايا مشاركة الاخرين في هذا المقال، ارتفاع مستوى الاداء والفاعلية، أي كلما كان الاداء جماعيا كلما كان اكثر حضورا وتأثيرا وفائدة، كونه يسهم في خلق روح التعاون والتفاهم بين الجميع، كذلك يتم توفير الاستعداد النفسي لدى العاملين لتقبل اية فكرة او عمل او تغيير قد يحصل، ومن المزايا ايضا تقليل العبء الواقع على عاتق العامل والمشرف على المؤسسة، فضلا عن ان المشاركة تؤدي الى التخلص من الحواجز النفسية والفكرية المتراكمة بين العاملين وحينئذ يرتفع مستوى التفاعل بينهم.

ومن المقالات الجميلة التي قدمها هذا العدد مقال تحت عنوان ( كيف نواجه الإحباط؟)، ويعد هذا الموضوع من المضامين المهمة التي تضاعف من قوة الارادة وتحرير الفكر لدى اصحاب المشاريع بمختلف انواعها، ويدرس الكاتب حالة الاحباط من جميع جوانبها، فيبدأ بتوصيفها، ثم يتعمق في البحث عن أسبابها، والحالات النفسية والعملية والتربوية التي تقود الانسان اليها، ثم يذهب الكاتب بعيدا في طرح المعالجات التي تحد من حالة الاحباط لدى الانسان، وتغير مسارها من السلب الى طاقة فكرية عملية تصب في الاتجاه الصحيح.

ومن زوايا هذا العدد زاوية (اشراقات)، وقد تم تخصيصها لكلام الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي، ومنها كما ورد في (الشعائر الحسينية)، ان ثورة الامام الحسين (ع) أعظم امانة امتحنت بها الامة الاسلامية فحافظت عليها بالضحايا الكثار، حتى تناقلتها اجيال الأمس الى هذا الجيل الملغوم فيجب على هذا الجيل ان يحافظ عليها بجميع امكاناتها لتسليمها الى اجيال الغد. كذلك جاء في هذه الزواية ان البشرية أصيبت في قيادتها الروحية فخسرت القيادة التي تبشرها بحضارة الروح وتضمها الى حضارة المادة، وتوجد في ظل تفاعل هاتين الحضارتين مجتمعا انسانيا غنيا بمعطيات تلبي كل نداءات الانسان.

هناك زاوية مهمة اخرى تحت عنوان ( توصيات ضرورية)، تقدم للقارئ حزمة من الفوائد التي تصب في تيسير حياته، وجعلها اكثر وضوحا، حتى يتسنى للانسان حسن الحركة والسلوك والاختيار، وصولا الى الهدف المطلوب، جاء في هذه الزاوية ان الضغوط والظرؤوف الصعبة واختلاف الاذواق والافكار امور يومية وعادية يمر بها كل انسان مع نفسه ومع الاخرين، ولكن اسلوب المعالجة والقدرة على استيعابها يؤدي الى تحويلها لطاقة اندفاع ايجابية، ومن هذه المزايا المهمة، المحبة وجمع الكل والتماسك وحفظ مصلحة الدين والمجتمع وسعة الصدر ومداراة الناس والشورى والاستشارة وتحمل النقد والعمل في سبيل الله.

كذلك ورد في هذا العدد زاوية (قالوا في فاطمة) حيث بدأت بالآية الكريمة: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، وجاء عن رسول الله (ص): (ان الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها) وعنه (ص) أيضا: (من آذاها في حياتي كمن آذاها بعد موتي ومن آذاها بعد موتي كمن آذاها في حياتي ومن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله وهو قو الله (ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذابا مهينا).

وعن أم سلمة قالت: (كانت فاطمة بنت رسول الله (ص) أشبه الناس وجها وشبها برسول الله)، وسئل الامام الصادق (ع) معنى حي على خير العمل فقال: خير العمل برُّ فاطمة وولدها.

وعن عائشة قالت: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثا برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة كانت اذا دخلت على رسول الله قام اليها فقبّلها ورحّب بها، واخذ بيدها واجلسها في مجلسه.

لماذا تسقط الحكومات؟

وهناك أقوال مأثورة تزدان بها صفحات هذا العدد المؤسِّس لأعداد لاحقة منها: طول التجارب زيادة في العقل. واذا شاورت العاقل صار عقله لك. ومن طلب أخا بلا عيب بقي بلا أخ. و يلجأ الى الصمت من عرف فائدة الكلام. وبئس الشعار الحسد. وأن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام.

وهناك موضوع بعنوان (شيء من التاريخ)، جاء فيه، ينقل أن بوذا كان له تلميذ يسمى (برنا) فقال بوذا لبرنا ذات يوم: اذهب الى القرية الفلانية وادعو الناس الى الحق والهداية والرشاد، فلما اراد برنا ان يذهب ناداه بوذا وقال له: هِبْ أن اهل القرية لم يسمعوا كلامك فماذا تصنع؟. قال برنا: اقول في نفسي أنهم أناس طيبون حيث اكتفوا بعدم قبول كلامي ولم يؤذوني. قال بوذا هب انهم اخذوا يصفعونك فماذا تفعل؟. فقال برنا: اقول انهم أناس طيبون حيث انهم اقتنعوا بصفعي ولم يضربوني بالعصا والهراوة. قال بوذا: هب انهم اخذوا يضربونك بالعصا والهراوة فماذا تقابل صنيعهم؟. قال برنا: اقول انهم اناس طيبون حيث اقتنعوا بضربي بالعصا والهراوة ولم يضربوني بالسيوف والخناجر. قال بوذا: هب انهم شهروا السيوف في وجهك وارادوا قتلك فماذا كنت صانعا؟. قال برنا: اقوا انهم اناس طيبون حيث يريدون ان يأخذوا مني حياة فانية لأنتقل الى حياة باقية. فتوجّه بوذا الى برنا حينئذ وقال له: اذهب اليهم بارك الله فيك فإنك جدير بالنجاح في مهمتك.

والمسك ختام هذا العدد بـ (قبسات من فكر الإمام الشيرازي)، وقد جاء فيها، اذا اراد انسان ان يعرف سر سقوط حكومة مع قدراتها الكثيرة وبدء حكومة مع انه لا قدرة لها في البدء اطلاقا فلينظر الى (الغرور – التواضع) فقبل الوصول الى الحكم تواضع واخذ في الصعود ولما وصل الحكم أخذه الغرور، فأخذ بالهبوط وهكذا حتى يسقط ويأخذ غيره مكانه.

وهكذا انتهى العدد الأول من هذه المجلة الرصينة، التي استمرت قرابة الربع قرن، فاستقطبت عشرات الأقلام المهمة في العالمين الاسلامي والعربي، ومن البلدان الاخرى ايضا، حيث تميزت بالاعتدال ومضت في صناعة الابداع والتوازن الفكري المعتدل، وشجعت على التماسك الانساني والاسلامي، وباركت الخطوات الفكرية العملية التي ترتقي بواقع المسلمين والعالم أجمع.

ومع مرور الوقت اشتدّ عود هذه المجلة بكادرها (القليل) عددا، والكبير همةً وحماسا وتفاعلا وعطاءً، فساعد ذلك على نشر القيم الانسانية الفاعلة، وأسهمت المجلة في نشر فكر أهل البيت عليهم السلام، والشعائر الحسينية، فيما كانت المضامين والافكار التي طرحتها المجلة عبر مسيرتها الطويلة، تؤكد انتماءها لصالح الانسان أينما كان.

اضف تعليق