إن الشعر لا يكون شعرًا إلا إذا امتلك قدرة على خلق واقع جديد في ذهن القارئ، وهذا لا يتحقق إلا عبر المزج بين الخيال الحرّ والتخييل المنظّم. ومن هنا، فإن كل شعر عظيم هو نتاج التقاء هاتين القوتين في وجدان الشاعر وعقله...
يعرف الجرجاني الخيال بأنّه: قوة تحفظ ما يدركه الحِسُّ المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة، بينما يعرفه الشاعر والفيلسوف الإنكليزي "صمويل جونسون" بأنّه "القدرة التي يستطيع بها أن يشكل صوراً للأشياء أو الأشخاص أو يشاهد الوجود- معجم المصطلحات العربية".
أما دانتي "فيُميز بين مجرد الخيال الذي هو مصدر الوهم وخداع النفس وبين ما أسماه بالخيال السامي الذي يرادف لديه فكرة الإبداع الفني أو الشعري- المعجم".
أما التخييل فيعرفه الجرجاني بأنّه ذلك "الذي لا يمكن أن يقال أنه صدقٌ، وإنَّ ما أثبته ثابت وما نفاه منفيّ. ثم يضيف أن "الذي أريده بالتخييل ها هنا، ما يثبت فيه الشاعر أمراً هو غير ثابت أصلاً، ويدّعي دعوَى لا طريقَ إلى تحصيلها، ويقول قولاً يخدع فيه نفسه ويُريها ما لا ترى- دلائل الإعجاز".
وبالاستناد على ما تقدم وبتعبير أشمل يمكن لنا أن نقول أن الخيال هو القدرة على تجاوز الواقع وتصويره بطريقة مغايرة، تنبع من رؤية الشاعر الذاتية، ومن تأملاته العميقة في الحياة. وهو القوة التي تمنح الشعر طابعًا سحريًا، بما يُمكّنُ الشاعر من استحضار الصور والأحاسيس التي لا يمكن إدراكها بالحواس وحدها، بل تحتاج إلى وعيٍ متجدد قادر على بناء عوالم شعرية فريدة.
وقد ارتبط الشعر بالخيال ارتباطًا وثيقًا، باعتباره الوسيلة التي تمكّنُ الشعراء من تكوين صور مبتكرة تعبّر عن رؤاهم وأفكارهم. وقد اختلفت أساليب المدارس الشعرية وطبيعة نظرتها وتعاملها مع الخيال بما يتناسب مع توجهاتها ورؤاها وأيديولوجياتها، من دون أن تقلل من قيمة الخيال وضرورته في التعبير الشعري، ولعل من أهم المدارس الأدبية التي أولت الخيال اهتماماً خاصاً وكبيراً هي المدرسة الرومانسية والتي أكدت اعتماد تكثيف الصورة الخيالية، من خلال تقديم مشاهد تتجاوز الواقع الملموس إلى عالم الأحلام والتأمل.
أما التخييل، فهو العملية التي يوظف من خلالها الشاعر الخيال لصياغة عالم شعري يُقنع المتلقي بواقعيته أو يحول الواقع إلى عالم خيالي. إنه تقنية فنية تجعل القارئ يعيش داخل النص وكأنّه جزء منه، متأثرًا بصوره ومعانيه، حتى وإن أدرك في قرارة نفسه أن ما يقرأه ليس بالضرورة واقعًا حقيقيًا.
ومن خلال التخييل يتم إشراك القارئ في تجربة مغايرة، من خلال ما يخلقه الشاعر من عوالم تتجاوز الإدراك الحسي. وقد اعتبره بعض النقاد، مثل ابن سينا وابن رشد، من أهم خصائص الشعر، إذ إن جوهره لا يكمن في الصدق الواقعي، بل في الصدق الفني.
ومن خلال النظر في العلاقة بين الخيال والتخييل، نجد أنهما ليسا متناقضين، بل إنهما متكاملان في عملية الإبداع الشعري. فالخيال هو المادة الخام التي يعتمد عليها الشاعر، بينما التخييل هو الصياغة التي تحوّل هذا الخيال أو هذه "المادة الخام" إلى تجربة فنية مقنعة.
إن الشعر لا يكون شعرًا إلا إذا امتلك قدرة على خلق واقع جديد في ذهن القارئ، وهذا لا يتحقق إلا عبر المزج بين الخيال الحرّ والتخييل المنظّم. ومن هنا، فإن كل شعر عظيم هو نتاج التقاء هاتين القوتين في وجدان الشاعر وعقله.
ويمكن لنا أن نقول إن الخيال مرتبط بذات الشاعر، بينما التخييل ينبني على علاقة تكاملية بين الشاعر والمتلقي، يحول من خلالها الشاعر الأشياء من الطبيعة الحسية المادية الماثلة أمامه إلى الطبيعة الفكرية التصورية التي تتمثل في داخل المتلقي، بمعنى آخر إن الشاعر ينقل الواقع عبر عملية تخييله من شكله المادي ليسكبه في ذهن المتلقي بشكل تجريدي أو مثالي أو معنوي.
وإذن، فإن الإجابة عن سؤال "هل الشعر خيالٌ أم تخييلٌ؟" تفضي إلى رؤية أنهما يمثلان جناحي الإبداع الشعري، حيث لا يمكن لشعر حقيقي أن يكون خيالًا جامحًا بلا ضبط، ولا يمكن له أن يكون تخييلًا فارغًا بلا جذور خيالية. ومن ثمَّ فإنّهما عنصران متلازمان، يكوّنان معًا عوالم الشعر الساحرة، التي تترك أثرها في وجدان الشاعر والمتلقي على حد سواء.
اضف تعليق