بحسب رؤيتي أن ثمة فارقاً دقيقاً بين مفردتي الساخر والسخرية رغم أن جذرهما اللغوي واحد وهو (سَخِرَ)، وسواء كان هذا الفارق اصطلاحياً أم مصداقياً، فما يهمنا منه هو أن نعي كيف نفرق بين المعنيين، إذ يبدو أن هناك نوعاً من الضبابية في تحديد المقصد الأساسي لكل منهما...

ما أثار رغبتي في الكتابة في هذا الموضوع، أنني استمعت مصادفة إلى تسجيل لجلسة أقيمت على هامش معرض بغداد الدولي للكتاب الذي عقد في هذا الشهر، حيث جرى فيها طرح هذا الموضوع. وقد لاحظت من خلال ما استمعت إليه ومما قرأته في بعض البحوث استكمالاً للمعلومة، فوجدت أن هناك نوعاً من المغالطة أو الخلط – حسب ما أراه - في التحديد المفهومي والمصداقي لمصطلحي (الأدب الساخر وأدب السخرية)، وبحسب رؤيتي أن ثمة فارقاً دقيقاً بين مفردتي الساخر والسخرية رغم أن جذرهما اللغوي واحد وهو (سَخِرَ)، وسواء كان هذا الفارق اصطلاحياً أم مصداقياً، فما يهمنا منه هو أن نعي كيف نفرق بين المعنيين، إذ يبدو أن هناك نوعاً من الضبابية في تحديد المقصد الأساسي لكل منهما، رغم أن أدبنا العربي قد ميز بين النوعين فأطلق على الأدب الساخر لفظة (المِلَح) وأطلق على السخرية لفظة (الهجاء).

وأدب المِلَح (الساخر): ينبني على طرافة الموقف وفكاهته، سواء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المبالغة والتضخيم، أما أدب السخرية (الهجاء) فهو ينبني على إبراز عيوب الآخر الخلقية (بفتح الخاء وتسكين القاف) أو الخُلقية (بضم الخاء وكسر القاف)، والأول مرغوب مستظرف، أما الثاني فهو مكروه مستقبح، وقد ذم القرآن الكريم السخرية بقوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ أن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود : 38].

وقال جلَّ وعلا أيضاً: {وَإِذَا رَأَوْا آيةً يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات : 14]

وجاء في النهي عن السخرية قوله تعالى: {يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أن يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات : 11]

ولعل هذا الفارق الدقيق في المعنى وجذر الكلمتين، هو ما أوقع اللبس عند العديد من الباحثين، فلم يفصلوا بين الهجاء والسخرية من الأشخاص، وبين الممالحة الساخرة، وقد يكون السبب في ذلك أيضاً، هو التداخل الذي يحصل بين النوعين في بعض الأحيان، من خلال تضمين الهجاء شيئاً من الطرافة، وهذا ما يجعل من الهجاء أكثر وقعاً وأبلغ أثراً، وقد يتضمن الأدب الساخر أيضاً نوعاً من الهجاء، ولكن هذا الهجاء يكون موجهاً لظواهر اجتماعية أو سياسية أو دينية؛ لبيان سلبياتها، وقد شاع مثل هذا النوع في العصور المتأخرة على الأخص كواحد من الأسلحة التي استخدمتها الأيديولوجيات السياسية في صراعها، سواء كان في إطار السرد بنوعيه، أم في إطار الشعر، أم في المسرح والسينما، أم في مضامين المقالات الصحفية، والنماذج على ذلك أكثر من أن تحصى، سواء في الأدب العربي أم في الأدب العالمي بشكل أعم.

وتأسيساً على ما سبق لا بد من الفصل بين النوعين، وتمييز أدب السخرية الذي يختص بالهجاء باعتباره مصداقاً لها، وبين الأدب الساخر الذي يهدف أما إلى نقد الظواهر بمختلف أشكالها بأسلوب ما يسمى بـ (الكوميديا السوداء) أو ذلك الذي يهدف إلى صناعة الملحة والطرافة بين الأصدقاء.

ومن أمثلة الهجاء الذي يمزج بين السخرية والطرافة، قول الحطيئة في زوجته: (إذا عاينَ الشيطانُ صورةَ وجهِها/ تعوَّذَ منها حينَ يُمْسي ويُصْبِحُ/ لها جسمُ برغوثٍ وساقُ بعوضةٍ ووجهٌ كوجهِ القِرْدِ بلْ هوَ أقْبَحُ).

وكان الأدب الساخر وخاصة الشعر منه رائجاً في الساحة الأدبية، يتعامل به الشعراء في جلسات سمرهم أو في ممازحاتهم. وقد رُوِيَ منه الكثير وخاصة في الأدب العباسي، والأدب الأندلسي، وأدب العصور المتأخرة، ويبدو أن (الأدب الساخر) والشعر منه على الأخص بات شحيحاً في السنوات الأخيرة على الأخص، إن لم يكن معدوماً. وإن وجد فهو مما لا يَعتدُّ به صاحبه، ولا يضمنه في دواوينه.

ومن الأمثلة على الأدب الساخر من الأدب الأندلسي قول ابن زيدون إلى أبي عبد الله البطليوسي: (أَصِغ لِمَقالَتي وَاِسمَعْ / وَخُذ فيما تَرى أو دَعْ / وَأَقصِرْ بَعدَها أو زِدْ/ وَطِرْ في إِثرِها أو قَعْ/ وَلا تَكُ مِنكَ تِلكَ الدارُ بِالمَرأى وَلا المَسمَعْ / فَإِنَّ قُصارَكَ الدِهليزُ حينَ سِواكَ في المَضجَعْ).

ومن الأدب الساخر في العصر العباسي، قول أحد الشعراء لطبيب في بغداد اسمه النعمان، كان لا ينجح في علاج مريض: (أبا منذرٍ أفنيتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا/ حنانيكَ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ). وقيل لحمدون بن إسماعيل بن داود، وهو شاعر يتظاهر بالحمق، لماذا تتحامق وأنت عاقل، فقال: (عذلوني على الحَماقةِ جهلا/ وهي منْ أعْقَلِهم ألَذُّ وأحلى/ حَمَقي اليومَ قائمٌ بعيالي، ويموتونَ –إنْ تَعاقَلْتُ- ذًلّا).

وفي أدبنا المعاصر نماذج عديدة من الأدب الساخر الذي وظف لأغراض سياسية، كما نجده عند مظفر النواب، إذ يقول منتقداً اجتماعات القمة العربية: (قممْ، قممْ، قممْ... معزى على غنمْ/ جلالة الكبشِ/على سمو نعجةٍ/على حمارٍ بالقِدم/ وتبدأ الجلسة/لا، ولن، ولم).

ويسخر نزار قباني من النظام في بلده قائلاً: (في حارتِنا ديكٌ ساديٌّ سَفّاحْ/ ينتفُ ريشَ دجاجِ الحارةِ، كلَّ صباحْ/ ينقرُهُنَّ/ يطاردُهُنَّ/ يضاجعُهُنَّ/ ويهجرُهُنَّ/ ولا يتذكرُ أسماءَ الصيصانْ).

أما الشاعر العراقي أحمد مطر فقد جعل أغلب شعره ساخراً، ويقول في قصيدة:(إنَّني المشنوقُ أعلاهُ/على حبلِ القوافي/ خنتُ خوفي وارتجافي/ وتعرَّيْتُ من الزيفِ/ وأعلنتُ عن العهرِ انحرافي/ وارتكبتُ الصدقَ كي أكتبَ شعراً/ واقترفتُ الشعرَ كي أكتبَ فجراً/ وتمردتُ على أنظمةٍ خَرفى وحكامٍ خرافِ/ وعلى ذلك وقعتُ اعترافي).

وللشاعر محمد مهدي الجواهري. قصيدة في ممالحة صديقه الشاعر صالح مهدي عماش وكان وزيراً للداخلية. وقد أصدر أمراً بمنع ارتداء الملابس القصيرة من قبل الفتيات. يقول في قصيدته: (نُبِّئتُ أنكَ تُوسِعُ*** الأزْياءَ عَتّاً واعْتِسافا/ تَقْفو خُطى المُتَأنْقاتِ *** كَسالِكِ الأثَرَ اقتِيَافا/ وتَقِيسُ بالأفْتارِ أَرْ دِيَةً بِحُجَّةِ أن تَنافا/ ماذا تُنافي بَلْ ومَا *** ذا ثَمَّ مِنْ خُلُقٍ يُنافا/ أتَرَى العَفافَ مَقاسَ أَقْـمِشَةٍ، ظَلَمْتَ إذَنْ عَفافا).

ونماذج الأدب الساخر كثيرة ومتشعبة بتشعب أنواع الأدب، وهي كما هو واضح تختلف عن أدب السخرية الذي ينصرف المعنى المترسخ في نفس المتلقي إليه.

اضف تعليق