مع تغير البيئة التربوية، ودخول وسائط الإعلام الحديثة بنماذجها المختلفة، وانحسار دور الكتاب، هذا الكتاب الرفيق الصالح، الصادق الصدوق، الذي يعطي ولا يأخذ، يمنح ولا يطلب، يفي ولا يخون، رغم يقيني التام أن هذا الرفيق هو أهم وأصلح، وأجود خِل يمكن مصاحبته والمضي معه، إلّا أن الجيل الحالي هجره وابتعد عنه بنسبة كبيرة...

تؤثر بيئة الإنسان في سلوكه وثقافته على نحو كبير وملحوظ، ويتخذ الفرد موروثاته الأولى من البيئة القريبة المتمثلة بالعائلة والمدرسة. بيد أن الأمر يتغير تدريجيًا مع تقدم السنين، ونمو التكوين البشري واتساع رقعة الاطلاع والاكتساب المعرفي عند الإنسان. ومع وجود المدرسة والتعليم الإلزامي، والبناء المنهجي المُعَد وفق رؤية ودراية هرمية مدروسة ومحكَمة، يزداد الإنسان في تطوره، وتنضج مدركاته، ويصبح يحدد جزءًا من اتجاهاته وميولاته في مجالات العلوم، ورؤى المستقبل وطموحاته.

هنا يبرز دور المعلم، ودور المربي، ودور المرشد والموجه، إذ بعد أن كان الأب هو القدوة الأولى لدى الإنسان الطفل، والبطل الخارق في نظره، يظهر منافس وبطل آخر في عين الطفل الثانية، والذي غالبًا ينتمي إلى المدرسة أو إلى المنشأ التعليمي بأشكاله المتعددة. 

في هذه المرحلة يتسع التأثر، ويولد التقليد، ويعلو ذكر القدوة الجديدة، ومعها يصبح الإنسان صغير العمر يتلفظ بكلمات يرددها القدوة، أو تصرفات يسلكها، أو حتى طقوس يفعلها، وهذا هو جوهر القصد والغرض من الطرح أعلاه؛ إذ كلما كان القدوة يحمل الصفات الإيجابية الحميدة؛ كلما كان المقتدي محظوظًا بهذه الأيقونية التي ستبقى شاخصة في صوره الذهنية أو النمطية منها.

لكن مع تغير البيئة التربوية، ودخول وسائط الإعلام الحديثة بنماذجها المختلفة، وانحسار دور الكتاب، هذا الكتاب الرفيق الصالح، الصادق الصدوق، الذي يعطي ولا يأخذ، يمنح ولا يطلب، يفي ولا يخون، رغم يقيني التام أن هذا الرفيق هو أهم وأصلح، وأجود خِل يمكن مصاحبته والمضي معه، إلّا أن الجيل الحالي هجره وابتعد عنه بنسبة كبيرة، وترك نعمة مصاحبته، بل حتى القدوة الذي كان يتخذه الصغار قنديلًا يضيئون دروب ثغورهم وأذهانهم به، قد هجر جزء كبير منهم صحبة الكتاب، والنهل من مشاربه العذبة. ولم يعد الصغار يقلدوهم في القراءة -لعدم مصاحبة القدوة للكتاب، بل في خصام شبه دائم-

وبذلك يجدر القول أننا إذا أردنا إعادة الوعي، والثقافة، وتأهيل جيل قادر على مجارات التغيرات المتسارعة، بمناحيها المختلفة، وبمضامينها الواسعة، علينا أن نعود إلى القراءة، وأن نقرأ في تخصصاتنا العلمية، وأن نبحث في بطون الكتب، ونعبّىء عقولنا بالمعلومات الحقيقية، والمعارف الأصيلة؛ لأن ذلك سيعيد بريق الثقافة إلينا (أفرادًا، وجماعات، ومجتمعات، وبلدان) وهذا هو المطلوب. لا أن نشغل أنفسنا ونهدر الوقت في أمور لا تجدي نفعًا، ولا تثري ذهنا، ولا تبني موقفًا، ولا تنمي وعيًا، وإلى ذلك أرجو أن يكون هذا المكتوب نقطة ضوء في ذهن قارئ يسعى لغد أفضل، ويلتحق بركب الجيل المثقف بالقراءة.

اضف تعليق