أنا وأنت صديقي القارئ نريد من وسائل الإعلام أن لا تكذب، لكننا لم نسأل أنفسنا يوماً هل يمكننا نحن أن نعيش بدون الكذب؟ قد يكون السؤال قاسياً، لنوسع دائرته، هل يمكن لغالبية الناس أن يعيشوا بدون الكذب في تعاملاتهم مع بعضهم البعض؟...
أنا وأنت صديقي القارئ نريد من وسائل الإعلام أن لا تكذب، لكننا لم نسأل أنفسنا يوماً هل يمكننا نحن أن نعيش بدون الكذب؟
قد يكون السؤال قاسياً، لنوسع دائرته، هل يمكن لغالبية الناس أن يعيشوا بدون الكذب في تعاملاتهم مع بعضهم البعض؟
طرحت هذا السؤال على أصدقائي في موقع الفيس بوك فكانت الإجابات في اتجاهين:
الاتجاه الأول أكد عدم قدرة الناس على العيش بدون اللجوء إلى الكذب.
الاتجاه الثاني أخذ السؤال إلى العالم المثالي وقال بأن الحياة بدون كذب هي أفضل لعيش البشر، ودعا الناس لترك الكذب.
وفي هذا الاتجاه (أي الاتجاه الثاني) تأكيد على حضور الكذب في عالم الإنسان وبكونه جزء من سلوكه اليومي بدلالة الدعوة إلى ترك هذا الفعل الذي يؤثر سلبياً على طبيعة العلاقات الإنسانية.
مشكلة إنسانية
الأديب الروسي فيدور دوستويفسكي الذي غاص في النفس الإنسانية يقول أن الحقيقة الصادقة دائماً تكون غير قابلة أن تصدق، فإن شئت أن تجعل الحقيقة قابلة للتصديق، عليك أن تضيف إليها شيئاً من الكذب.
لنضع هذه المقولة على قارعة الحياة، سوف نجد لها تطبيقات واسعة، فالواقع معقد وغير قابل للتحمل، ونحن "نتحمل بعضنا البعض لأننا جميعاً دجالون والإنسان الذي يرفض الكذب سيرى الأرض تنكمش تحت قدميه.. نحنُ مدفوعين بايولوجياً لأن نكون مخادعين". هذا ما يقوله الفيلسوف إميل سيوران.
كلنا نعرف أن الكذب تحريف للحقيقة، ونعتبر هذا الفعل خرق للنظام الأخلاقي والإقدام عليه يقلل من شأن الإنسان وفق المثالية المطروحة فلسفياً ودينياً واجتماعياً.
لكننا نمارس الكذب في حياتنا العامة وقد نتفاعل مع أشخاص في مواقع التواصل الاجتماعي ليس لأننا معجبون بالمحتوى الذي يقدمونه، إنما لأن مصلحتها تكون عندهم. نضع علامات الإعجاب والمحبة على المنشورات، ثم نتحدث عنها وعن كاتبها بالسوء خلال فترات الخلوة مع الأصدقاء، والإعجاب الذي وضعناها إنما جاء من أجل تجنب هذا الشخص في الحياة الواقعية، فقد يكون مديرنا في العمل ويتخذ موقفاً سلبياً في حال أنه لاحظ عدم تفاعلنا مع ما يكتب.
وحتى من يكتب بالمثالية الإنسانية، ودعوة وسائل الإعلام لتبتعد عن الكذب فيها نسبة عالية من الكذب، لو طالبنا بوسائل إعلام لا تكذب؛ لتوقفنا نحن عن تصديق الأكاذيب التي تنشرها المواقع التي تلعب على هذا التناقض الإنساني، التناقض بين ما نقول وما نفعل.
نحن نريد من وسائل الإعلام أن تتوقف عن الكذب، لكننا نتخلى عن متابعة المؤسسات الإعلامية التي تتبع معايير المصداقية وطرح الحقيقة كما هي، لأن الحقيقة بالنسبة لنا كمشاهدين تعني الرتابة والجمود، والكذب يعني التلوين والتلاعب بالصوت والصورة والنص بما يجعلها أكثر جاذبية وإثارة.
أليست العناوين التي تتحدث عن الفضائح هي الأكثر مشاهدة؟ أليست الأخبار الكاذبة هي الأكثر مشاركة والمواقع الكاذبة كذلك؟ والكذبة يتم تداولها في أقصى سرعة ممكنة وتبقى على قيد التداول حتى بعد نشر ما ينفي وجودها.
نحن نفعل كل هذه الممارسات الكاذبة ونطلب من وسائل الإعلام أن تتبع معايير المصداقية في نشر الأخبار والمعلومات.
لا أريد إلقاء اللوم بشأن كذب وسائل الإعلام على الجمهور وحده، لكنني أريد التنبيه إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي مسألة رغبة الناس في تداول الأكاذيب والتشجيع عليها، وإغفال الحقائق وعدم الاهتمام بها.
وهذا كله لا ينفي قيام وسائل الإعلام بنشر الأخبار غير الدقيقة والتي قد تبتعد عن الحقيقة، فالصحفي نفسه وجميع العاملين في المؤسسات الإعلامية هم بشر، يكسبون عاداتهم وتقاليدهم من مجتمعاتهم.
لم يأتي الصحفي من كوكب آخر، إنه يعيش ويتفاعل مع المحيطين به، قد ينزلق إلى أساليب الكذب والتضليل في حال وجد سوقاً رائجة للكذب، إلا ما ندر من الصحفيين الذين يلتزمون بدورهم الأساسي المتمثل في البحث عن الحقيقة وحمايتها من التشويه.
أزمة الإعلام الموجه
قد يكون المجتمع هو المحفز لقيام وسائل الإعلام بالكذب، إلا أن هناك مشكلة جوهرية في هيكل المؤسسات الإعلامية نفسها.
فالإعلام كما يعرف هو نشر الأخبار والمعلومات الدقيقة بهدف إطلاع الرأي العام على ما يجري حوله.
هذا لا يحدث في أغلب الأحيان، الإعلام بالنسبة للممول الذي يدفع أجور افتتاح المؤسسة الإعلامية يعني استخدام وتوظيف المعلومات من أجل التسويق لرؤيته الخاصة.
وهذا يجعله ينتقي من المعلومات ما يخدم سياسته فقط، الأخبار التي تكون إيجابية وتتوفق مع سياسته ينشرها، وما يخالف سياسته ويعد سلبياً يستبعده، ولحد هذه الخطوة لا يبدو الأمر سيئاً إلى حد بعيد.
السيء في القضية عندما يصعب على الممول إيجاد خبر إيجابي يدعم سياسته عندها يبدأ بحياكة أخبار غير دقيقة، أو تقطيع الأجزاء الإيجابية من الخبر فقط، ما يجعلنا أمام حقيقة مبتورة، ونفس الفعل قد يقوم به، يقتص الجزء السلبي من الخبر والذي يستطيع فيه ضرب خصومه السياسيين.
ولا يهم هذا الممول (يكون حزباً سياسياً في أغلب الأحيان) إن كانت ممارساته تتسبب في جروح عميقة للحقيقة، لأن هدفه من تأسيس القناة الفضائية أو المؤسسة الإعلامية لم يكن من أجل رفع صوت الحقيقة.
خلاصة القول أن الكذب ممارسة إنسانية قديمة قدم الإنسان نفسه، ولحد هذه اللحظة لا يمكن للمجتمعات العيش بدون ممارسة الكذب، ووسائل الإعلام تولد من رحم هذه المجتمعات، وما يؤخذ على وسائل الإعلام فقط أنها تدعي حراسة الحقيقة بينما تقوم هي بالهجوم عليها بما يسبب لها (الحقيقة) جراح عميقة، فيصير شعار "حماية الحقيقة" شعاراً كاذباً.
اضف تعليق