إننا بحاجة إلى التعريف بمعنى الاستطلاعات وما هي الاستطلاعات الأقرب للدقة والاستطلاعات البعيدة عنها؟ إننا بحاجة إلى تثقيف الناس ولفت انتباههم إلى القوة الكبيرة لاستطلاعات الرأي وأساليب توظيفها إعلامياً وسياسياً، حتى لا يقع فريسة لدعاية القطيع أو دعاية خلق الاجماع الزائف...
استطلاعات الرأي العام التي تجري قبيل الإنتخابات يفترض أنها تعطي مؤشرات عن مسار التصويت الجماهيري لصالح جهة سياسية معينة، ومدى حظوظها بالفوز على حساب الجهات المترشحة الأخرى، هذا هو المبدأ الأساسي لاستطلاع الرأي العام الانتخابي، لكن السياسة عملية توظيف لكل شيء من أجل تحشيد الرأي العام، ما يجعل من استطلاع الرأي العام في اغلب الأحيان وسيلة للتحشيد أكثر من كونه وسيلة لمعرفة مسارات التصويت.
في البداية نُعرف الرأي العام ببساطة بأنه مجموع آراء الجماهير في مدة زمنية معينة تجاه قضية ما وهذا الرأي يتشكل أما تلقائيا بدوافع ذاتية من الجماهير، أو من خلال محفز تقوم به جهة سياسية أو اجتماعية أو باستخدام سائل الإتصال الجماهيرية (صحافة، إذاعة، تلفزيون، إنترنت ومواقع التواصل).
وتركيزنا ينصب على دوروسائل الإتصال الجماهيرية في عملية صناعة دائرية للرأي العام... فالواقع أن وسائل الاعلام تكون المحرك للرأي العام، إلا أننا بدأنا نشاهد عملية تحريك الرأي العام، باستخدام أساليب التحشيد المعروفة والتي تمر بثلاث مرحل حتى تصل إلى المرحلة الثالثة التي يتم فيها توظيف قياسات الرأي العام بعملية التحشيد الجماهيري وسنقسم المراحل بالآتي:
المرحلة الأولى: قيام وسائل الاتصال الجماهيرية (صحافة، إذاعة، تلفزيون، إنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي) بحملات تحشيد إعلامي تقوم على مبدأ بسيط هو إنتقاء أحداث معينة ثم إبرازها، واستبعاد أحداث أخرى، وبتكرار العملية يزداد التحشيد.
المرحلة الثانية: دعم بعض المؤسسات المهتمة بقياس الرأي العام من أجل الحصول على نتيجة منحازة، عبر القيام باستطلاعات قائمة على انتقاء جمهور معين مؤيد للجهة السياسية التي تريد القياس، فتقوم وسائل الإتصال الجماهيرية بالتسويق للقياس المنحاز الذي تمت صناعته عبر وسائل الاتصال الجماهيرية مسبقا.
المرحلة الثالثة: بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة تعميم هذا القياس ونشره مرة أخرى لتغذية الرأي العام وزيادة حجم القضية التي يراد أن يقال بأنها تمثل الرأي العام، والهدف النهائي هو "خلق الإجماع الجماهيري".
ما يجري بهذه الطريقة من تسويق للرأي العام هو تسليع لهذا الرأي أي تحويله إلى سلعة حسب الطلب، وهو ما يتسق مع ما ذهبت اليه مدرسة فرانكفورت النقدية التي تطرقت منذ سنوات إلى دور وسائل الاتصال الجماهيري في تسليع المجتمع، والرأي العام قد يمثل العملة التي تحدد قيمة الجماعات والشخصيات العامة، بحسب زيادة العرض وهو التفاعل الأكبر، أي الرأي العام، أو هبوط الشعبية وعدم التأييد.
وكلما زاد عدد الجماهير التي تؤيد حزباً أو شخصية معينة تزداد قيمتها السياسية والإنتخابية، ما يوفر لها فرصة للفوز ولذلك تلجأ العديد من الأحزاب والتكتلات السياسية إلى التسويق لاستطلاعات الرأي العام التي تؤكد فوزها، من أجل إبراز التأييد الجماهيري لصالحها، وتأكيد نفسها كقوة لها قاعدة جماهيرية يمكنها تحقيق الأهداف العامة للدولة.
بهذه الطريقة الدائرية يستغل السياسيون أسلوباً دعائياً يسمح لهم بتوظيف استطلاعات الرأي العام بأفضل طريقة لصالحهم، والأسلوب يتمثل بـ"خلق الاجماع" أو "إدعاء الإجماع"، أي أن الاستطلاع يتم توظيفه ليزعم أن هناك إجماعاً شعبياً على مرشح انتخابي معين، والإجماع له خصائص سيكلوجية على الجماهير عبر خلق تيار جارف يسحب الأصوات الشعبية المترددة وغير المستقرة على قرار ثابث.
والتيار الجماعي يساعد الجماهير غير المستقرة أو المترددة على إتخاذ القرار، وكأن لسان حال الناخب المتردد يقول: بما أنني لم أتخذ قرار التصويت بعد، فمن المنطقي أن تكون الشعبية الطاغية للمرشح علامة على نجاحه ومن ثم يجب عليّ انتخابه.
وخلق الإجماع الجماهيري يرتكز على قاعدتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: مهارات إعلامية إحترافية لدى القائمين على حملة خلق الإجماع، بحيث تتجنب إثارة الناخبين غير النشطين لدى الخصوم، الذين لا يهمهم التصويت لانهم على يقين من فوز الحزب السياسي الذي يؤيدونه، أو على اقل تقدير لا يفوز الحزب الذي يرونه لا يستحق الفوز، إلا أنه ومع اشتداد حملة خلق الإجماع الجماهيري قد تحفز الحملة جميع المناوئين للذهاب للتصويت لكسر هذا التيار الجماعي الجارف.
القاعدة الثانية: ضعف المهارات النقدية لدى الجماهير، حتى تضلل الجمهور وتدفعه للتصويت بطريقه "خلق الإجماع" عليك تجنب كل الحواجز النقدية لدى الجماهير، أما إذا لم تكن موجودة أصلا فالحملة ستكون أسهل بكثير، وهو ما يحدث كثيراً في الإنتخابات العراقية حيث يتميز الجمهور بضعف أو غياب حواجزه النقدية.
وهنا بعد الإشارة الى طريقة خلق الاجماع عبر التسويق لاستطلاعات الرأي غير المهنية، ننتقل إلى المرحلة الأهم، وهي أدوات صنع الحواجز النقدية حتى لا نسقط في فخ الاستطلاعات غير الاحترافية، فبينما نتفهم دور المؤسسات المدعومة حزبياً في التسويق لاستطلاعات هي من قامت بصناعتها، فإن هذه الاستطلاعات المصنعة قد تبهر الصحفيين المستقليين وتدفعهم لتغطيتها ما يزيد من تأثيرها، فالصحفي قد يقع فريسة هذه الاستطلاعات الزائفة لذلك يجب على كل صحفي أن يتحقق من الاستطلاعات عبر مجموعة من المعايير والأسئلة التي تمثل مبادئ توجيهية لتغطية استطلاعات الرأي:
اولاً: أي مؤسسة تقف وراء الاستطلاع؟ هذا السؤال يختصر الكثير من الجهد والوقت، لأن معرفة المؤسسة يجب أن تتضمن انتماءها وأين يقع مقرها، وما هي أنشطتها السابقة، وما مدى مصداقيتها في الإستطلاعات السابقة، وأسئلة أخرى عن توجهها هل هو تجاري أم سياسي أم ديني، يميني أم يساري؟
ثانياً: من هم الأشخاص القائمون على المؤسسة؟ هل هناك كادر مهني؟ أم أن المؤسسة ضعيفة من حيث كوادرها؟ ولا يجيدون آليات إجراء استطلاعات رأي تعبر عن الواقع؟ ففي أي جهد استطلاعي يجب أن يوضح أسماء أعضاء فريق العمل، أو على الأقل توضيح الأشخاص الذين أشرفوا على العمل، وعرض خبراتهم المهنية السابقة.
ثالثاً: منهجية الاستطلاع، إذ توجد آليات منهجية صارمة في إجراء استطلاعات الرأي العلمية، ولا يمكن أن نطلق عليها صفة الاستطلاع إلا إذا تضمنت تسلسل الإجراءات بدقة، أبرزها مجتمع البحث، والعينة التي أخذت من المجتمع، على سبيل المثال: في بعض الأحيان يمكن أخذ عينة قوامها 3000 مفردة، من مجموع 50 مليون نسمة، هنا تكون العينة غير ممثلة لمجتمع البحث.
وفي بعض الأحيان تكون العينة كبيرة مقارنة بمجتمع البحث، إلا أن المجتمع نفسه غير متجانس، على سبيل المثال: لا يمكن إجراء استطلاع رأي حول العراق دون مراعاة العوامل الديموغرافية، بحيث يقتصر على مدينة البصرة أو تكريت أو أربيل، لا بد أن يراعي الفروقات الدينية والقومية ويأخذها بعين الإعتبار عند توزيع استمارات الإستطلاع على الجمهور.
رابعاً: العمليات الإحصائية في الاستطلاع، فهناك نوع من التلاعب يحدث في الإجراءات الإحصائية بحيث تبدو الأرقام كبيرة أو صغيرة، تأخذ النسب المئوية فقط، أو يتم استبعاد المفردات التي لا تتناسب وأهداف الاستطلاع.
الجانب الأبرز الذي يجب الحذر منه خلال تغطية أخبار الاستطلاعات، هو التخلي عن العصبيات والأحكام المسبقة، فانت كصحفي يمكن أن تقع ضحية للتضليل بينما ينتظر الناس منك توضيح القضايا المخفية عنهم، وإذا ما أصبح الصحفي باحثاً عما يدعم وجهات نظره فقط، يمكن القول أنه بدأ خطواته في منحدر السقوط وخرج من مهنة الصحافة إلى مهنة رجل الدعاية السياسية.
هذه المبادئ يجب أن يطرحها نشطاء مواقع التواصل الإجتماعي والمدونين والصحفيين على حد سواء، لأن عملية توظيف الاستطلاعات سياسياً باتت طاغية ومستخدمة لأغراض دعاية بحتة لا علاقة لها بالعلم وقياسات الرأي العام.
في الخلاصة: استطلاعات الرأي العام ليست نصوصاً مقدسة، بل ليست دقيقة في أغلب الأحيان لأن آراء الناس تتغير بين أسبوع وآخر وربما يوم وآخر وحسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. هذا عندما نتحدث عن استطلاعات الرأي التي تخضع إلى لجان وتدقيق وفحص مشدد، فكيف الحال مع استطلاعات تجرى عبر تطبيقات الاعلام الجديد؟ وهو ما نشاهده خلال كل انتخابات عراقية.
إننا بحاجة إلى التعريف بمعنى الاستطلاعات وما هي الاستطلاعات الأقرب للدقة والاستطلاعات البعيدة عنها؟ إننا بحاجة إلى تثقيف الناس ولفت انتباههم إلى القوة الكبيرة لاستطلاعات الرأي وأساليب توظيفها إعلامياً وسياسياً، حتى لا يقع فريسة لدعاية القطيع أو دعاية خلق "الاجماع الزائف".
اضف تعليق