لاتزال عصابات تنظيم داعش الإرهابي، تواصل عملياتها الإجرامية والتخريبية المختلفة التي طالت كل شيء دون استثناء، فقد عمدت هذه العصابات وبعد الهزائم الكبيرة التي منيت بها في المعارك الأخيرة وكما يقول بعض الخبراء، ، الى صب جام غضبها على التاريخ والحضارة العراقية التي تعد من أقدم الحضارات البشرية، حيث يتعرض العراق اليوم لعمليات نهب وسلب وتدمير واسعة للآثار التاريخية المهمة، وهو ما أثار قلق العديد من الجهات والمنظمات العالمية التي سارعت الى إدانة مثل هكذا جرائم خطيرة، حيث أظهرت بعض الوثائق أعضاء التنظيم وهم يدمرون منحوتات وتماثيل قديمة بعد السيطرة على مدينة الموصل.
وبحسب بعض الخبراء فان تنظيم داعش قد تمكن من الحصول على كنز ثمين بعد السيطرة على أغنى منطقة أثرية في العالم، فالجماعات الإرهابية تحصل اليوم على ملايين الدولارات من بيع القطع الأثرية المنهوبة في الأسواق العالمية التي ساعدت في بقاء واستمرار عمل التنظيم. وقد طالبت العديد من الجهات التي استغربت أيضا الصمت الدولي والاستنكارات الخجولة ضد هذه الجرائم الوحشية، بضرورة إصدار قوانين مشددة لأجل تجفيف منابع تمويل هذا التنظيم والعمل على فرض حصار كامل عليه.
تدمير مدينة نمرود
وفي هذا الشأن نشر تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية شريطا مصورا لعناصره وهم يدمرون مدينة نمرود الآشورية الاثرية في شمال العراق التي تعود الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، قبل ان يعمد الى تفخيخها وتفجيرها بالكامل. واظهر الشريط الذي تداولته حسابات الكترونية مؤيدة للتنظيم، عناصر التنظيم وهم يستخدمون مطرقات وآلات ثقيلة لتدمير ألواح حجرية ضخمة، واختتم بمشهد انفجار كبير تليه لقطات للمدينة وقد سويت بالأرض.
وكانت السلطات العراقية اعلنت في الخامس من آذار/مارس، ان التنظيم الذي يسيطر على مساحات واسعة في شمال البلاد وغربها، جرف المدينة الاثرية الواقعة عند ضفاف نهر دجلة على مسافة نحو 30 كلم جنوب الموصل (شمال)، اولى المناطق التي سيطر عليها الجهاديون في هجومهم الكاسح في حزيران/يونيو. واظهرت مشاهد من الشريط البالغة مدته نحو سبع دقائق، عناصر من التنظيم يستخدمون مطرقات يدوية وآلات ثقب كهربائية وآلات لقص الحديد وجرافات، لتدمير ألواح اثرية ضخمة وجدران حجرية.
كما اظهرت لقطات عناصر آخرين وهم يقومون بملء براميل من الحديد، بمسحوق رمادي اللون يرجح انه مادة متفجرة، وذلك في غرفة تملأ جدرانها لوحات تمثل الآلهة الاشوريين. وتبدو لاحقا براميل عدة مرصوفة جنبا الى جنب وقد وصلت ببعضها البعض، قبل ان يظهر الشريط انفجارا ضخما ادى الى قذف كميات هائلة من التراب عاليا، تبعه مشاهد لدمار كامل. وقال احد العناصر في نهاية الشريط "كلما تمكنا من بقعة ارض ازلنا معالم الشرك منها".
وسبق للتنظيم تدمير آثار عدة في شمال العراق. وبحسب خبراء الآثار، فان التنظيم الذي يسيطر على مساحات في سوريا والعراق، يعتمد على تهريب الآثار وبيعها كإحدى مصادر تمويله، ويقوم بتدمير الآثار الكبيرة والثقيلة التي لا قدرة له على نقلها. وتعد مدينة نمرود درة الحضارة الآشورية وموطنا لكنز يعد من اهم الاكتشافات الاثرية في القرن العشرين. وتعتبر المدينة من أبرز المواقع الاثرية في العراق، وهي ضمن المواقع المرشحة للإدراج على لائحة منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "يونيسكو" للتراث العالمي.
وبدأ ذكر المدينة من قبل علماء الآثار في العام 1820، وجرت عمليات استكشافها والتنقيب عنها في العقود اللاحقة، من قبل علماء أجانب. وتعرضت المدينة للنهب ابان الاجتياح الاميركي للعراق في العام 2003. واتى الاعلان عن تجريف المدينة مطلع آذار/مارس، بعد ايام على نشر التنظيم شريطا يظهر تدمير آثار وتماثيل في مدينة الموصل. كما نشر التنظيم شريطا آخر يظهر قيام عناصره بتدمير مدينة الحضر الاثرية في شمال العراق، المدرجة على لائحة التراث العالمي.
واثارت عمليات التدمير هذه هلع علماء الآثار الذين قارنوها بتدمير حركة طالبان تمثالين عملاقين لبوذا في منطقة باميان الافغانية في العام 2001، ما اثار في حينه موجة من السخط في العالم. وفي الشريط تطرق احد عناصر التنظيم الى التغطية الاعلامية والانتقادات التي طاولت عمليات تدمير الآثار، واصفا ذلك ب "الهيجان". وكانت منظمات عدة ابرزها اليونيسكو دعت الى تعبئة عالمية وتحرك لانقاذ ما يمكن انقاذه من آثار شمال العراق، الا ان وقوع غالبية هذه المواقع في مناطق سيطرة التنظيم يجعل من شبه المستحيل حماية ما تبقى منها. بحسب فرانس برس.
وكانت مديرة المنظمة ايرينا بوكوفا اعتبرت تجريف آثار نمرود بمثابة "جريمة حرب" تدخل ضمن "التدمير المتعمد للتراث الثقافي". وزارت بوكوفا بغداد في 28 آذار/مارس للدفع نحو اتخاذ اجراءات لحماية المواقع الاثرية كاجراء مسح لموجوداتها والاعتماد على صور الاقمار الاصطناعية. وتوعد احد عناصر التنظيم في الشريط الجديد بمواصلة عمليات التدمير وازالة ما اسماه "معالم الشرك". وسبق للتنظيم ان نشر صورا واشرطة مصورة تظهر تدميره العديد من المزارات والاضرحة في العراق، اضافة الى نزع صلبان وتحطيم ايقونات في عدد من كنائس شمال البلاد.
مدينة الحضر
الى جانب ذلك نشر تنظيم "داعش" تسجيل فيديو يظهر فيه مسلحون وهم يستخدمون البنادق والمطارق لتدمير آثار في مدينة الحضر الأثرية جنوب مدينة الموصل شمال العراق. وأكدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) قبل شهر عمليات التدمير في الموقع المدرج على لائحة المنظمة للتراث العالمي.
وتم بث الشريط بعد يوم من خروج تنظيم "الدولة الإسلامية" من مدينة تكريت بعد استيلاء القوات الحكومية والمسلحين الموالين لها على المدينة. ويشاهد في الشريط مسلحان تحدث أحدهما إلى الكاميرا قائلا إن التنظيم المتشدد أرسلهما لتحطيم "الأوثان". ويظهر في الشريط مسلحون يحطمون تماثيل معلقة على جدران مبنى ويطلقون نيران البنادق عليها. بحسب فرانس برس.
ومدينة الحضر هي مدينة تضم مبان معمارية شرقية وغربية وتقع في صحراء على بعد نحو 100 كلم جنوب غرب مدينة الموصل. وبدأت عملية تدمير الآثار في المدينة بعد تدمير التنظيم المتطرف مدينة نمرود الآشورية الأثرية وعشرات القطع الأثرية في متحف الموصل. ودانت اليونسكو حملة تنظيم "الدولة الإسلامية" المنهجي لتدمير الآثار العراقية ووصفت ذلك بأنه جريمة حرب. وقالت اليونسكو في تغريدة على تويتر عقب نشر الفيديو "يجب أن نقف ضد القوى التي تسعى إلى تقسيم العراق. فهم يهاجمون الإنسانية التي نشترك فيها جميعا".
أثار للبيع
من جهة اخرى حول سعي تنظيم "الدولة الإسلامية" لجمع المال من خلال بيع آثار، استولى عليها مسلحوه، عبر موقع "إي باي". قالت الصحيفة التايمز إن حلي وقطعا معدنية وخزفية استولى عليها مسلحو تنظيم داعش وجدت طريقها إلى مشترين في الخليج عبر عصابات إجرامية، موضحة أن عملية البيع تتم غالبا من خلال مواقع إليكترونية.
وأشارت إلى أن التجارة في الآثار أضحت تدر أرباحا كبيرة لتنظيم "الدولة الإسلامية"، إذ يعتقد أنه جنى منها ملايين الدولارات. وقالت التايمز إن خمسة من ستة مواقع أثرية على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو" للتراث في سوريا نهبها مسلحو التنظيم. وبحسب التقرير، فإن كمية الآثار التي باتت مطروحة للبيع بعد الاستيلاء عليها في سوريا والعراق قد تسببت في انخفاض أسعار بعض قطاعات سوق الآثار.
وأضاف أن بيانات من هيئة الجمارك الأمريكية تظهر أن الآثار التي تصل إلى الولايات المتحدة من العراق وسوريا تضاعفت في الفترة بين عامي 2011 و2013. ونقلت الصحيفة عن متحدث باسم موقع "إي باي" قوله إنهم "رفعوا بعض المواد المعروضة للبيع على الموقع بناء على توصية من السلطات الأمريكية."
من جانبها قالت وزارة الأمن الداخلي إنها أعادت إلى العراق أكثر من 60 قطعة أثرية كان قد تم تهريبها إلى الولايات المتحدة منها تمثال من الحجر الجيري لأحد الملوك القدماء. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب تحقيقات أشرف عليها ضباط من إدارة الهجرة والجمارك الأمريكية في نيويورك وبالتيمور وأوستين بولاية تكساس ونيو هيفين بولاية كونيتيكت. ومن أهم القطع التي تم اعادتها تمثال من الحجر الجيري لرأس الملك الأشوري سرجون الثاني أحد حكام القرن الثامن قبل الميلاد. بحسب رويترز.
وتمكن ضباط الهجرة والجمارك من ضبط القطع المنهوبة في أغسطس آب 2008 بعد أن شحنها تاجر اثار مقيم في دبي إلى نيويورك. وجاء في بيان وزارة الأمن الداخلي إن التحقيقات قادت إلى تحديد شبكة دولية تتاجر في التحف الأثرية. وتضم التحف الأخرى التي أعيدت للعراق قطعا مطلية بالذهب نهبت من المطار الخاص وقصر الرئيس السابق صدام حسين. وأضاف البيان أن إدارة الهجرة والجمارك أعادت أكثر من 1200 قطعة اثرية إلى العراق على أربع دفعات منذ عام 2008.
القوة الجوية لحماية المناطق الأثرية
في السياق ذاته حث العراق التحالف العسكري الذي تقوده الولايات على استخدام القوة الجوية لحماية الآثار في البلاد من مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية الذين قاموا بنهب وتدمير بعض من أعظم الكنوز الأثرية في العالم. وقال وزير عراقي إن التحالف الذي نفذ 2800 غارة جوية ضد مواقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا منذ أغسطس آب لا يفعل ما يكفي لانقاذ التراث الحضاري العراقي الذي لا يقدر بثمن.
وأثارت مثل هذه الأعمال إدانة عالمية حيث وصفت الأمم المتحدة تدمير الإرث التاريخي العراقي الثري بأنه جريمة حرب. لكن الاحتجاجات لم توقف عمليات التخريب. وقال وزير السياحة والآثار العراقي عادل الشرشاب إن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة يمكنه وضع حد لعمليات النهب. واضاف الشرشاب أن العراقيين لا يملكون مجالهم الجوي بل التحالف هو الذي يسيطر عليه داعيا المجتمع الدولي والتحالف إلى زيادة الضربات الجوية واستهداف "الارهابيين" اينما وجدوا.
وقال الشرشاب ورئيس الهيئة العامة للآثار والتراث قيس حسين رشيد إن السلطات العراقية مازالت تحاول تقييم مدى الضرر الذي لحق بآثار الحضر ونينوى. وقال رشيد إن الهيئة تاكدت من أن المتشددين استخدموا الجرافات لتخريب مواقع في نمرود والحضر لكنها لاتعلم حجم المنطقة التي تعرضت للدمار.
وقال الشرشاب ورشيد إن طائرات التحالف كان يمكنها مراقبة الاستعدادات لمثل هذه الهجمات على المناطق الأثرية ومنعها خاصة في مدينة الحضر وهي موقع صحراوي ناء على بعد نحو 110 كيلومترات جنوبي الموصل. وتساءل الشرشاب عن سبب عدم القيام بعمليات مراقبة واستطلاع رغم امكانية تنفيذ تلك العمليات. بحسب رويترز.
وقال الشرشاب في مؤتمر لاعلان خطط إدراج مدينة بابل على قائمة التراث العالمي إن معركة المتشددين هي معركة على الهوية بهدف تفريغ المنطقة وخاصة العراق من التراث الانساني. وسوف تنضم المدينة إلى أربعة مواقع عراقية أخرى وهي الحضر وسامراء وقلعة اربيل وآشور أول عاصمة للامبراطورية الآشورية. وتعود الحضر إلى الإمبراطورية السلوقية قبل ألفي عام والتي سيطرت على جزء كبير من العالم القديم الذي غزاه الاسكندر الأكبر. وتشتهر بمعبد الأعمدة الذي يمزج فن العمارة اليونانية والرومانية بالعمارة الشرقية.
المساعدة في حفظ الآثار
من جانب اخر قال متحدث باسم متحف كولونيال وليامزبوج المكرس للحفاظ على التاريخ الأمريكي البكر إن المتحف عرض على خبراء الثقافة العراقيين المساعدة في تخزين القطع الأثرية المهددة بالدمار على يد متشددي تنظيم الدولة الإسلامية. وقال المتحدث جو ستراو إن المتحف القائم في وليامزبورج بولاية فرجينيا صاغ عرضا للعمل مع هيئة الآثار والتراث العراقية ومنظمات تاريخية وأثرية عراقية أخرى للمساعدة في حماية والحفاظ على التحف ذات الأهمية التاريخية والثقافية المعرضة للخطر. بحسب رويترز.
وقالت الدبلوماسية الأمريكية البارزة سابقا ورئيسة المتحف ميتشيل ريس إن المتحف سيقبل مختلف التحف العراقية التي يستطيع التعامل معها. وقالت ريس في بيان "في كولونيال وليامزبورج نعلم جيدا ان ماضي أي أمة هو أساس مستقبلها." ولم توجه تهديدات مباشرة إلى كولونيال وليامزبورج لكن موقعه على الإنترنت كان من بين عدة مواقع أمريكية تعرضت مؤخرا لهجمات الكترونية نسبت إلى تنظيم الدولة الإسلامية. كانت وليامزبورج -التي تقع على مسافة 150 ميلا جنوبي واشنطن- عاصمة مستعمرة فرجينيا معظم فترة القرن الثامن عشر وهي الآن مقصد سياحي شهير.
اضف تعليق