رأى بعض الباحثين وخاصة بعد أن أصبح قدم الشعر الحر يسير بثبات وبخطى واثقة، أن النزوع إلى التجديد في الشعر، وكسر (صنميَّة) العمود الشعري العربي ليست وليدة الفترة المتأخّرة، وإنما تمتد جذورها إلى فترات سابقة، ليس أولها الموشحات الأندلسيَّة ولا آخرها الدوبيت...

شهدت الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحولات عديدة فكريا وفلسفيا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا على الصعيدين العالمي والعربي. ولعل أحد مظاهر تلك التحولات في المنطقة العربية هو ظهور حركات التحرّر بشكل أكثر فاعلية ووضوحا، بمختلف أشكال ذلك التحرّر، وهذا لا يعني أن النزوع التحرّري بتمثلاته المختلفة السياسية والفكرية والثقافية وغيرها، لم يكن موجوداً، ولكنّه لم يكن بتلك السعة والفعالية التي ظهر عليها بعد الحرب العالمية الثانية. 

وكان لظهور المدارس والنظريات الأدبية والفلسفية في أوربا تأثير كبير وفاعل في عملية النزوع نحو "تجديد تقويضي"- إن جاز الوصف- للموروث الأدبي العربي، وهو ما أسهم ليس بظهور حركة الشعر الحر فحسب، بل بتعزيز وجودها وانتشارها واتساع رقعة التجريب فيها.

ورغم ذلك فإنّ من التعسّف قطع فكرة التجديد عن جذورها وتحديدها بفترة نهاية الأربعينات التي شهدت كتابة أولى تجاربها على يد السيّاب ونازك، بل إنها ومن دون شك نتيجة مخاض لنزوع امتدَّ لعدة سنوات سبقت تلك التجارب إن لم يكن لعقود وقرون من السنوات، ولكنّ رسوخ ما سُمِّيَ بـ "الشعر الحر" أو بقصيدة التفعيلة فيما بعد كان على يد السيّاب ونازك بصورة أخص وبلند والبياتي بصور أعم في العراق على وجه الدقة.

وبالرغم مما لاقته حركة التجديد تلك من رفض وانتقاد إلّا أنّها استطاعت أن تُثَبِّتَ وتُرَسِّخَ جذورها بفعل إصرار مبدعيها، وقدراتهم الإبداعيّة العالية، وما رافق ظهورها من توسّع في دائرة الوعي والتحولات الاجتماعية في العراق ومصر والشام على الأخص.

ولعل ما أسهم في تقوية نوازع التجديد في القصيدة، هو أنَّ عملية التجديد أو الحداثة لم تكن منحصرة بالقالب العروضي كما هو شائع؛ بل رافق ذلك - وهو الأهم- التجديد في الموضوعات والأساليب والخصائص الفنيَّة والقيم الفكريَّة والأيديولوجية.  

قلنا إنَّ الدعوة إلى التجديد في الشعر لم تكن محصورة بالفترة التي ظهرت فيها "قصيدة الشعر الحر" بل كانت هناك دعوات مستمرة، ولعل من الممكن أن نَعدَّ ما ورد في كتاب الغربال للأستاذ ميخائيل نعيمة الصادر عام 1923، دعوة للاهتمام بروح الشعر وليس بالوزن والقافية وهي دعوة - وإن لم تكن بذلك الوضوح- تتضمن التجديد من خلال الخروج عن إلزاميَّة الوزن والقافية, 

معتبراً إيّاهما ليسا من ضروريات الشعر إذ يقول:" فلا الوزن ولا القافية من ضرورة الشعر كما أن المعابد والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. فَرُبَّ عبارة منثورة، جميلة التنسيق، موسيقية الرنّة كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من مئة بيت بمئة قافية"، وكذلك ما كتبه الأستاذ رشيد الشعرباف في مقاله المنشور في مجلة "لغة العرب" في عددها الخامس الصادر في 1/5/ 1929 لا يبعد عمّا جاء في كتاب الغربال إذ يقول: "الشعر المنثور: ويسمّى الشعر الحر أو المطلق أيضا، وهذا النوع لا يشترط فيه أن يأتي من وزن وقافية واحدة، بل أن يأتي من مختلف الأوزان، [وقد شبه هذا الشعر بما جاء] في كتب الدين كسفر المزامير وسفر الجامعة ونشيد الإنشاد وسفر أشعيا وسفر أرميا وسفر مرائيه وغيرها من أسفار التوراة" وكانت محاولات الزهاوي في تجربة "الشعر المرسل" تمثل نوعاً ما فعلاً تطبيقياً للخروج على صرامة عمود الشعر العربي، ناهيك عن التجارب العديدة كتجربة علي أحمد باكثير وغيره، ورغم ذلك فإنّ تلك الدعوات بقيت في إطار محدود ولم تبلغ مرحلة الثورة الناضجة والمقوضة. 

وقد رأى بعض الباحثين وخاصة بعد أن أصبح قدم الشعر الحر يسير بثبات وبخطى واثقة، أن النزوع إلى التجديد في الشعر، وكسر (صنميَّة) العمود الشعري العربي ليست وليدة الفترة المتأخّرة، وإنما تمتد جذورها إلى فترات سابقة، ليس أولها الموشحات الأندلسيَّة ولا آخرها الدوبيت. 

ورغم أنّه في طيات هذا الرأي بعض المصداقيّة، ولكن النظرة الواقعيّة تفضي إلى نتيجة ربما هي أقرب للحقيقة، وهي أنّ الأساس الذي بنى عليه روّاد قصيدة الشعر الحر تجربتهم لم يكن تلك المحاولات، أو التجارب التي شهدتها مسيرة القصيدة العموديَّة، وإنما هو فعل تولّد نتيجة التأثر بالأدب الغربي، وما شهدته تلك الفترة من انفتاح وتلاقح معرفي وحضاري مع الثقافات الغربيّة، وقوة التأثير الذي امتلكته الحضارة الغربية بما انطوت عليه من تطورات، تركت في نفوس المطلعين عليها أثراً بارزاً من الإعجاب والدهشة، أسهمت في نزوعهم إلى تبني ليست الطروحات الأدبيَّة فحسب، وإنما الطروحات الفكرية والفلسفية والاقتصادية والأيدولوجية. 

وعملية التأثر بالأدب الغربي ونظرياته المختلفة والمستمرة ليست مثلبة أو سُبّة، وإن عدَّها بعض الرافضين للتجديد كذلك، أو حاول بعض المؤيدين نفيها، بل هي أمر طبيعي فرضته دينامية التطور الحضاري، وبروز نماذج لامعة في الأدب والفكر وغيرها، 

مثلما تركته قصص ألف ليلة وليلة على سبيل المثال من أثر على الأدب الغربي واللاتيني كما يصرح بذلك رواد روايات الواقعية السحرية اللامعين كبورخيس وماركيز.

اضف تعليق