ما الذي نريد أن نقدمه للقارئ في هذه الرواية؟، هل هي الحكاية المجردة؟ أم أسلوب سرد الحكاية؟ أم المحتوى الفكري والفلسفي الذي تنطوي عليه؟ وقبل الشروع في الإجابة عن تلك الأسئلة، لا بدَّ أن نمهّد لذلك بالحديث عن الأسباب التي دعت إلى ابتكار هذا النوع من الأدب، والذي شكل نقطة تحول كبيرة في الأدب العالمي...
ثمة سؤال يستلزم الإجابة عنه قبل البدء بكتابة الرواية؛ لكي نحدد الهدف الذي ننشده من ورائها، وقد ينفتح هذا السؤال على عدة أسئلة يمكن أن تقدم فكرة واضحة للكاتب وترسم له صورة عن نوعية المتلقي الذي سيوجه له خطابه والأثر الذي يمكن أن يتركه فيه. ما الذي نريد أن نقدمه للقارئ في هذه الرواية؟، هل هي الحكاية المجردة؟ أم أسلوب سرد الحكاية؟ أم المحتوى الفكري والفلسفي الذي تنطوي عليه؟
وقبل الشروع في الإجابة عن تلك الأسئلة، لا بدَّ أن نمهّد لذلك بالحديث عن الأسباب التي دعت إلى ابتكار هذا النوع من الأدب، والذي شكل نقطة تحول كبيرة في الأدب العالمي.
لا شكَّ أنَّ موضوعة القصّ من الموضوعات الشائكة التي لا يمكن التنبؤ، أو تحديد تاريخ نشوئها، وربما ولدت مع البذرة الأولى للمجتمعات؛ لأسباب تتعلق بالعديد من الموجبات، لعل من أهمها الموجبات النفسيّة والاجتماعيّة والدينيّة وغيرها.
ومن المؤكد أن تطور عملية القص مرّت بعدة تحولات أسهمت في تحويلها من فعل اعتباطي إلى فعل ممنهج خاضع لقوانين واشتراطات محددة، ومن فعل شفاهي إلى فعل كتابي، أسهمت العمليات المبكرة لاختراع الكتابة في تدوينه، بغض النظر عن الشكل الذي احتوى تلك الحكايات شعرا أو نثرا.
وإذا ما عدنا إلى بدايات نشوء فن الرواية في حاضنتها الأولى أوربا فسنجد جملة من الآراء التي تختلف في رؤيتها لأسباب ولادة هذا النوع الإبداعي، إذ ينطلق كل من رؤيته الفلسفيّة أو الاجتماعيّة أو الفكريّة. فالفيلسوف الألماني هيغل على سبيل المثال يربط أسباب نشوء الرواية بتطور الوعي في المجتمعات الحديثة إذ يرى أنّ الملحمة هي «الصورة التعبيرية عن الوعي في المجتمع القديم، بينما الرواية هي الصورة التعبيريّة الملائمة لحالة الوعي في المجتمع الحديث».
بينما يربط جورج لوكاش نشوء الرواية بالجانب الاجتماعي مستنداً إلى نظرية ماركس في تحليله للطبقات الاجتماعية، ولذلك فهو يرى أن الرواية هي: «ملحمة الطبقة البرجوازية» وربما شاركه في ذلك آخرون إذ يعتقد أن الطبقات البرجوزاية وخاصة النساء كانت تتخذ من الروايات وسيلة للتسلية وقضاء الأوقات. وبعكس ذلك يرى ميخائيل باختين: أن الرواية هي تعبير عن الثقافة الشعبيّة، ويشير إلى ذلك بقوله: إنَّ «لغة الرواية ليست رفيعة المستوى على غرار الملحمة، كما أنّها من ناحية أخرى ليست من صنع البرجوازية، بل نتيجة إسهام الطبقات والفئات التي تركن في قاع المجتمع».
في حين رأى آخرون أن نشوء الرواية يرتبط بظهور الواقعيّة وقد أشار إلى ذلك إيان واط في كتابه (نشوء الرواية) إذ يقول: «إنّ الواقعيّة هي الميزة المحدّدة التي تفرّق أعمال روائيي القرن الثامن عشر عن القص السابق».
إنَّ هذا الاختلاف في وجهات النظر ربما يعود في بعض مبرراته إلى الغاية والهدف الذي دعا إلى كتابة الرواية أو تطوير عملية القص من أسلوبها القديم إلى أسلوب حديث قادر على استيعاب الأفكار الجديدة ومواكبة التطورات الثقافيّة والاجتماعيّة.
ومن المؤكد أنَّ كل رواية لها هدف وغاية تسعى إليها وتحاول أن تحققها في بحثها عن المتلقي، ومن ثم فهي تنطوي على أسلوب قادر على جذب المتلقي الذي تريد أن توصل إليه رسالتها التي تحملها أيا كان محتواها، ولكي تصل الرسالة إلى المرسل إليه لا بدَّ من تحديد ومعرفة عنوانه الصحيح.
فمثلا.. هناك روايات لا تنشد سوى المتعة والتسلية ومثل هذه الروايات تستند غالباً على الحدث الإثاري الذي يجعل المتلقي مشدودا إليه ومتفاعلا معه عاطفيا من دون أن يجهد ذهنه بالتساؤلات الفكريّة والفلسفيّة، وتتمثل هذه الروايات غالباً في الروايات العاطفيّة وروايات الأكشن وقد كانت هذه الروايات في الماضي تشكل عامل جذب لجمهور واسع من المتلقين كما في روايات (أجاثا كريستي البوليسية، وسلسلة روايات روكامبول) على صعيد روايات الأكشن مثالا، ومن مثل روايات (عبد الحليم عبد الله وأحلام مستغانمي وبعض روايات إحسان عبد القدوس) على صعيد الروايات العاطفيّة قبل مجيء التكنولوجيا الحديثة.
وهناك روايات أخرى محمّلة بالفكر والتساؤلات الفلسفيّة، ومثل هذه الروايات لها جمهورها الذي يبحث عن المعنى العميق الذي يفتح لذهنه المتوقد آفاقاً من الرؤى السامية كما نجده في روايات البير كامو ودوستويفسكي وكافكا فلسفيَّاً على سبيل المثال. واجتماعيَّاً وسياسيَّاً كروايات مكسيم غوركي وعبد الرحمن منيف وبعض روايات نجيب محفوظ وغيرهم، ومثل هذه الروايات غالباً ما تخاطب مجموعة محددة؛ لأنها محمّلة برسائل تحريضيَّة أيَّا كان توجهها سياسيا أم اجتماعيا أم توعويا.
وهناك روايات تجمع بين المتعة والعمق الفكري، وغالباً ما يكون جمهورها متنوعاً وواسعاً، والأمثلة على ذلك كثيرة ومساحتها تشغل حيزاً واسعاً في الأدب العالمي.
ولا شكَّ أنَّ كلَّ نوع من الأنواع يمتلك مبرراته وضروراته وجمالياته؛ لارتباط ذلك بذائقة الجمهور وتنوع ثقافاتهم.
ولعل أهم ما يميز الرواية فضلا عن جانبها الحكائي هو الأسلوب السردي والمهارة في إدارة الأحداث والبناء الفني والتقني، فضلا عن اللغة وجمالياتها التعبيريَّة.
وما بلغته الرواية من تطور في تقنياتها وما تستوعبه من أفكار جعل الكثير يرى أنَّ العصر الحديث هو عصر الرواية رغم أن التقنيات الحديثة قد استولت على عدد كبير من جمهورها، لما في الصورة وما يرافقها من سحر وقدرة فائقة على الجذب والإدهاش.
اضف تعليق