قد لا نجازف إن قلنا: إن تحرر قصيدة النثر من سطوة القواعد الشكلية، قد ساهم بشكل ما في جعل اللغة نفسها فضاء للتجريب الايحائي. وربما ساهم هذا التحول الفني أيضاً، في جعل التكثيف اللغوي أنموذجا مثيرا لأبرز الآليات الجمالية، التي اعتمدها شعراء قصيدة النثر لصياغة نصوص متفردة في الاقتصاد التعبيري وكثرة المعطيات الدلالية...

قد لا نجازف إن قلنا: إن تحرر قصيدة النثر من سطوة القواعد الشكلية، قد ساهم بشكل ما في جعل اللغة نفسها فضاء للتجريب الايحائي. وربما ساهم هذا التحول الفني أيضاً، في جعل التكثيف اللغوي أنموذجا مثيرا لأبرز الآليات الجمالية، التي اعتمدها شعراء قصيدة النثر لصياغة نصوص متفردة في الاقتصاد التعبيري وكثرة المعطيات الدلالية.

ولم يكن هذا التكثيف مجرد تقليص للجمل أو الاقتصار على قصر العبارات، بل هو انضغاط للدلالة وتجريد للمشهد الشعري؛ لتصبح كل لفظة مشحونة بطاقات رمزية عالية وتعدد في الطبقات التأويلية. ومن ثم استطاع التكثيف أن يمنح هذه القصيدة ثراء وتجدداً، حيث تحمل الصورة المقتضبة أو الكلمة المفردة أبعاداً نفسية ووجودية وتاريخية تتجاوز معناها المحدود الظاهر، لينشأ بذلك نص مفتوح ينمو مع القارئ ويستدعيه للمشاركة في إنتاج المعنى.

إن اعتماد قصيدة النثر على الاقتصاد في اللغة وعلى المفاجأة والانزياح اللفظي والابتكار في بناء الصورة الشعرية، واختزال الصور والمعاني في جمل أو مفردات مقتضبة يجعلها تحتفظ بطاقة رمزية عالية، ولعل هذا ما جعل من التكثيف اللغوي يحتل مركزاً مميزاً فيها بوصفه أداة لتجاوز السطحي والتقليدي وإنتاج نصوص تتسم بعمق رمزي وتركيز شعوري قادر على ملامسة جوهر التجربة الإنسانية. 

وهو ما يمكن أن ينظر له كتقنية ميزت قصيدة النثر عن الشعر الموزون الذي يميل غالباً إلى التفصيل والتوسّع في الوصف. ونقول غالباً لأننا لا نجرد القصيدة الموزونة من قدرتها على التعامل مع التكثيف، وتوظيفه كتقنية جمالية ودلالية متى ما وجدت الذهنية القابلة على تطويع تلك القصيدة لاستغلاله بالشكل، الذي يخلق إضافة فاعلة تنفتح على الخطاب المحرض على التفاعل الذهني وتكاثر المعنى، أكثر من انفتاحها على التفاعل العاطفي والظواهر الصوتية المباشرة.

إن الجملة المكثفة أو الاستعارة المقتضبة غالبا ما تسهم في فتح أفق القراءة على احتمالات متعددة، إذ يصبح لكل قارئ دور في تأويل النص، واكتشاف الطبقات الدلالية التي تتوارى خلف اختزال اللغة، وهو ما أكد عليه هانز روبرت ياوس في نظريته “جمالية التلقي”. 

وربما منحت خاصية التكثيف الشاعر مساحة للتعبير الحرّ والمجرد عن أكثر التجارب الذاتية والوجودية عمقاً، وساهمت أيضا في تحويل النص إلى لوحة موحية تستفز خيال القارئ بدل أن تقدم له معنى جاهزاً.

ويمكن أن نقول إنّ التكثيف اللغوي يُعدّ واحدا من أبرز وأهم سمات الحداثة في الكتابة الشعرية، من خلال ابتعاد الشاعر عن الاستطراد والشرح المباشر، واعتماده على شفافية التعبير وكثافة الصورة؛ ليمنح النص قوة في التأثير وجاذبية في التلقي. وهو في ذلك لا يتورط في تقليص المعنى، بل هو تعميق له وتحميل كل مفردة بدلالات رمزية تكون في الغالب متعددة ومفتوحة على التأويل.

ويرتبط التكثيف بظاهرة الانزياح اللغوي، إذ تنتقل الكلمة من معناها القاموسي إلى أفق أرحب يلامس التجربة الفردية أو الجماعية، فتخلق الجملة الشعرية في قصيدة النثر وتراً خفياً بين الإيحاء والغموض، بين الحضور والغياب، وبين ما يُقال وما يُلمح إليه. وهذا ما يمكن أن يسهم في جعل النص النثري قابلاً للقراءة اللانهائية ويضفي عليه سِمة الديمومة في التلقي الإبداعي.

وقد تظهر أهمية التكثيف في قدرة الشاعر على استحضار حالات شعورية أو رؤى فلسفية بثوانٍ من اللغة، ويكفي أحياناً سطر واحد ليحمل تجربة وجودية كاملة، أو ينقل قلقاً أو دهشة لا تستطيع صفحة كاملة وصفها في الشعر التقليدي.

ورغم القيمة الإثرائية للتكثيف اللغوي في قصيدة النثر لكنه يبقى سلاحاً ذا حدين: إذ يمنح القصيدة عمقاً وجمالية خاصة من جهة، بينما قد يوقعها أحياناً في فخ الغموض أو الالتباس من جهة أخرى. وقد تخلق هذه المزاوجة توتراً بنّاءً بين جمالية الإيحاء وصعوبة التلقي، ما يجعله موضوعاً محورياً في النقد الحديث.

ولعل من أهم المخاطر التي تكمن في التكثيف هي: 

1 - الغموض المفرط: وهو ما يجعل النص منغلقاً على نخبة ضيقة من القراء المعتادين على الحداثة الشعرية، ويبعد المتلقي العادي عن التجربة الجمالية بسبب محدودية الإيحاء أو كثرة الإشارات غير المفسرة.

2 - الالتباس وصعوبة الإمساك بالخيط الدلالي: قد يؤدي ضغط المعاني وغياب الروابط الظاهرة إلى تحول القصيدة إلى لغز شعري يفتقر للتواصل الحي مع القارئ، فيتحول النص إلى فضاء لغوي مغلق أو لعبة شكلية بلا أثر عاطفي.

3 - فقدان التماسك: فحينما يبالغ الشاعر في التكثيف دون وعي جمالي أو صوغ متقن، قد تضيع وحدة النص الشعري ويصبح عبارة عن شذرات متنافرة أكثر من كونه بناءً عضوياً متماسكاً.

ومع ذلك، تظل إمكانات التكثيف الجمالية أكبر من مخاطره متى ما امتلك الشاعر حسّ الاتزان بين الاقتصاد اللغوي وثراء الدلالة، فالتكثيف المبدع هو الذي يحافظ على الخيط الخفي للتواصل الرمزي، ويجعل الغموض دافعاً لتعدد القراءات لا عائقاً للفهم التام. بهذا، يتجلى جمال قصيدة النثر في قدرتها على المجازفة، وفي اختبارها الدائم لحدود اللغة والشعور.

ورغم أن تلك المخاطر وغيرها شكلت وما زالت تشكل تحدياً كبيراً أمام قصيدة النثر في عملية ترسيخ حضورها التفاعلي مع الجمهور، الذي يجد صعوبة في تقبلها والتفاعل معها، والتحرر مما يهمين على ذائقته من سحر الإيقاع الخارجي المترسب في أعماقه؛ إلا أن رهانها الثابت يبقى يعول على ذكاء المتلقي ومهارته التأويلية؛ حيث لا يعود النص مجرد صورة شعرية، بل دعوة لحوار مفتوح مع اللغة والشعور والرمز.

وهكذا يتحول التكثيف من مجرد خاصية أسلوبية إلى فلسفة ونبض جديد للشعر. إنه تأسيس لحضور اللغة باعتبارها حدثاً في ذاتها، لا مجرد وسيلة لنقل المعنى، ويصبح النص الشعري النثري فضاءً للتعدد، والمجاز، ولبناء عالم شعري خاص لا يحده تفسير واحد أو قراءة قاطعة، بل هو فضاء من الاحتمالات التي تتكاثر مع كل قراءة.

اضف تعليق