تربط قصص هذه المجموعة التي أخذنا منها نماذج في هذه المقالة، حالة فنية لها صورة الإيحاء وفعله القوي، إذ على الرغم من أن المجر يقدم معظم أحداث قصصه من الواقع الحياتي و الوجودي الذي نعيشه، إلا أنه برع في مزج هذا الواقع بأجواء غرائبية حادة، مما يجعل القارئ متذبذبا بين قطبين متناقضين هما الواقعي و الغرائبي...
عبد الأمير المجر قاص ينتمي إلى جيل القصة التسعيني في العراق، وقد تابعت مسيرته السردية بحكم التقارب المكاني والزمني الذي جمع بيننا، بالإضافة إلى المجايلة الأدبية الثقافية، حيث عشنا معا في الوسط الأدبي سنوات الثمانينيات وحتى لحظة كتابة هذا المقال، ومنذ صدور مجموعته القصصية الأولى (تهجدات الصحاري.. صرخة الوحيد 1999 في بغداد)، تابعت تطوره في كتابة السرد على الرغم من انشغاله بجوانب عديدة ربما أخذت من جرف القصة التي تعلّق بها وفضّلها على الأنواع الكتابية الأخرى التي تعامل معها في حياته، مثل كتابة المقال السياسي، والانشغال في الصحافة الثقافية، فضلا عن العمل في الهيأة الإدارة لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق لدورات عديدة ومتعاقبة.
مجموعته هذه (كتاب الحياة وقصص أخرى) جاءت بعد عدة مجاميع قصصية سجلت للمجر حضورا واضحا في المشهد القصصي، وهي على التوالي: (تهجدات الصحارى/ ليلة العصفور الاخير/ غيلان نشيد المشاحيف/ مالا يتبقى للنسيان)، وقد ضمت مجموعة (كتاب الحياة) القصص التالية: (العراة، دعوة لحفل المجانين، مسبحة أبي، كتاب الحياة، المؤرّخ، الإرث، العظماء يرحلون بصمت.. أحيانا، عودة إنسان).
هذه الحصيلة القصصية التي كانت ولا تزال تجذب انتباه النقاد، شكلت ركيزة قوية للمجر كي ينطلق منها إلى كتابة قصص مشهود لها بالحرفية والفنية العالية حيث تناولها نقاد محترفون لهم مكانتهم المعروفة في المشهد النقدي العراقي والعربي.
تميّزت مجموعته هذه بنضجها الفني، وهو أمر متوقَّع بعد رحلة عقود طويلة للمجر مع السرد، والنضج الإبداعي الذي أعنيه وجدته في القوة الإيحائية العالية التي تتوفر عليها معظم قصص (كتاب الحياة)، وأعني بقوة الإيحاء تخلّص المجر من النبرة الواعظة التي تقتل القصة، وتمحو منها لمحاتها الفنية، وتجعلها جافة وغير قابلة للهضم وتفقد عنصر التشويق، فالقص أولا وآخرا فن، والفن لا يجب أن تقترب منه التقريرية الجافة، أو النصح المباشر، لأن القص ليس مقالا تاريخيا، أو علميا، أو اجتماعيا، ولا أخلاقيا.
السرد يجب أن يشي بفنية عالية يغرق فيها القارئ، ويحلّق في سماوات النص منفصلا عن واقعه، مندمجا بشكل شبه تام في واقع السرد، وينتشي ويشعر بأنه يعيش في عالم آخر، هو عالم الفن القصصي الذي يشبه عالم الأحلام، أو عالم الوهم، أو عالم الخيال، وإلا ما فائدة قصة لا تفصلك عن واقعك، ولا تسحبك كليّا إلى عالمها؟
وعلى الرغم من سلاسة الأسلوب الكتابي للمجر، وبساطة التركيب اللغوي في نسيجه السردي، وقربه من وعي معظم القراء بغض النظر عن مستوياتهم الثقافية، إلا أنه سعى إلى نوع من الموازنة بين الوضوح الصارخ من جهة، وبين فن السرد الذي يجب أن تتوفر عليه الجملة السردية والهيكل القصصي كله من بدايته حتى نهايته، وبذلك يبتعد المجر عن أسلوب المخاطبة السردية المباشرة الواعظة الجافة التي يفرّ منها أغلب القرّاء.
هذه الموازنة بين وضوح السرد والركون إلى الفن بجدارة نجدها في قصة (العراة)، فالمجر في هذه القصة يحكي لنا حادثة غريبة، قد لا تحدث في الواقع، لأنها غريبة عنه وتجافي العقل النمطي، حيث يصحو رجل في فندق على نفسه وهو مصاب (بالعري)، وهكذا يكون عاريا من كل شيء، ليس من ملابسه فحسب، وإنما كل ما يحيط به أصبح عاريا بما في ذلك جسده، ثم ينتشر وباء العري هذا ليصيب كل شيء في غرفته الخاصة بالفندق، وحين يتجرأ ليفتح باب الغرفة وينظر في ممر الفندق سيجده هو الآخر عاريا من كل أشيائه، من فراشه ولوحاته ومصابيحه ومن كل شيء، ثم ما يلبث وسط هذا الصمت الحاد، وحالة العري الغريبة التي أصابت كل شيء أن يطلق صرخة مدوية لينقذ نفسه من هذه الوحدة العارية والقاتلة في آن واحد. بعد ذلك يعرف أن سبب انتشار وباء العري حصل بسبب تسلل مجموعة من اللصوص الملثمين حيث بدأوا بسرقة كل شيء في المدينة.
مسلسل العري هذا سوف يستمر بعد أن تجرّأ النزلاء على الخروج من الفندق، فالناس في الشوارع كلها عراة، عالم غريب من العري يكتسح المدينة كلها بشوارعها وساحاتها وحدائقها ومتاجرها، وهناك موجة سرقات كبرى للمدينة كلها، إلى حد هذه اللحظة ومع توهج هذه الحالة الغريبة في بؤرة السرد، والتركيز الكبير على وضوح الصور والحوادث العارية، إلا أننا لم نلمس ذلك المسار الفنطازي المغالى به، الفنطازيا التي تدمر السرد، نحن لسنا في عالم فنطازي قط، إنه الواقع الذي أقنعني به أسلوب السرد، موحيا بذلك إلى واقع محايث يعيشه الناس في مدينة (العراة)، لدرجة أنني كقارئ أُصبتُ بهذا الوباء (وصرتُ عاريا):
(بعد دقائق فوجئت بمجيء رجل في منتصف العمر، كان يسير في الممر بطريقة مخاتلة وهو عار تماما ايضا ويرتجف.. حين اطلت الرؤوس، الحائرة المحجوزة في غرفها، عليه، من الابواب المواربة الموزعة على الجانبين، تحرر الجميع من خوفهم، وخرج بعضهم على استحياء وهم عراة ايضا، يسالونه عما حصل في الليلة الماضية، لكن الرجل ظل اسير الخوف الذي تملكه تماما وغير قادر على الكلام.. قلت له ان كل شيء في غرفتي قد سرق، وردد آخر كلامي نفسه، ثم ردد الجميع بعدنا، كل من باب غرفته، اننا سرقنا ولم نعد نملك أي شيء، اموالنا، ملابسنا واحذيتنا، وليس لدينا ما نستر به انفسنا، فكيف نخرج؟؟ وبصعوبة رد الرجل علينا وهو يسحل الكلمات من فمه بصعوبة واستحياء؛ ان كل شيء في الفندق اختفى وان المدير والموظفين وعمال النظافة جميعهم باتوا عراة ايضا..) مقطع مقتبس من قصة العراة.
غريبة هذه الحوادث عن الواقع، ولكنها تحوّلت إلى ما يقترب مما يعيشه شخوص القصة، عبر فاعلية الإيحاء التي تتبلور بشكل جلي للقارئ حين يصل إلى عتبة النهاية، وقد يقول قائل إن العتبات تتواجد عند البدايات، ونقول هناك عتبات تتجلى عند النهايات، حيث سيعرف القارئ من خلال الفاعلية القوية للإيحاء السردي، أن ما حدث في هذه القصة من أحداث غريبة ينطبق على واقع يعيشه اليوم أناس حقيقيون يعانون من حالة العري الإجباري، فالجميع عراة شاءوا أم رفضوا: (بعد لحظات، جاء شاب عارٍ، كان قد اطل على الشارع ليستطلع الامر بعد ان طلب منه المدير ذلك، وقف قبالة مدير الفندق وقال وهو يرتجف، استاذ، الناس كلهم عراة! نزل علينا الخبر كالبشرى، لأنه صار بإمكاننا ان نخرج، وفعلا قررنا ذلك).
توحي هذه القصة بما يجافي الواقع، لكن القارئ بالنتيجة سوف يقتنع بجميع أحداثها وشخوصها، كونها تنطبق بطريقة أو أخرى على ما يعيشه الناس في واقع المدينة العارية المسروقة من قبل المسؤولين عنها، وذلك عبر فن الإيحاء وفاعليته العالية في هذه القصة.
أما قصة دعوة لحفل المجانين، فهي تسحب القارئ إلى أجواء غرائبية لا تختلف كثيرا عن أجواء قصة العراة، حيث يمزج المجر بين الوقائع التي نعيشها وبين الخيال لتكون النتيجة موجات متتالية من الإيحاء الذي يفضح الواقع، ويعري الأخطاء التي تلفّه من أعلاه إلى أسفله، تبدأ هذه القصة بوصول دعوة لبطلها الذي يحمل أسم عادل الشبسي، والدعوة مقدَّمة من رابطة أسمها غريب (رابطة المجانين الأحرار) ويُقام هذا الحفل في فندق اسمه يحيل القارئ في إشارة ذكية من المجر إلى جملة يرددها كثيرون فيقبلها بعضهم ويرفضها آخرون، اسم الفندق (فندق الزمن الجميل)، لكن الأحداث الغريبة التي تحدث أثناء الحفل في داخل هذا الفندق، تفصل القارئ عن واقعه المعيش على الرغم من أنه ينطوي على لقطات وحالات واقعية يعيشها العراقيون فعلا، فالحاضرون إلى الحفل هم ممثلون عن مجموعة أحزاب، يتناوبون بعد بداية الحفل بقراءة كلماتهم التي تمثل أحزابهم ورؤيتها السياسية والإدارية، لكن الجو الغرائبي المسحور يعود ليهيمن على السرد، فيكون أول المتحدثين ممثل (حزب الحياة الجميلة) ثم يتبعه ممثل (حزب الأرض الثائرة)، وبعده يتولى ممثلو احزاب (الوفاء للوطن) و (الشمس القادمة) و (الارض الخضراء)، وغيرها.
ومما يثير الغرابة أيضا أن ما يقرأه ممثلو الأحزاب هو عبارة عن مقالات للكاتب (عادل الشبسي) ولرؤساء تحرير صحف معروفة، وهذا يوحي بتحول بعض المسؤولين إلى ببغاوات تردد ما يكتبه الكتاب، ولا يبتعد المجر كثيرا عن الواقع حين يجعل من الكتّاب يصبحون بطريقة أو أخرى تحت عباءة الأحزاب حتى مع عدم انتمائهم لها رسميا، وهي ظاهرة تتجلى في واقعنا السياسي، ومما يزيد المشهد السردي غرابة في هذه القصة أن ممثلي الأحزاب هم أنفسهم أعضاء الفرقة الموسيقية التي أنشدت أنشودة عبد الوهاب (طول ما أملي معاي وبإيديه سلاح)، في إشارة فنية إلى الاختلاف الحاصل بين الأزمنة السياسية التي تعاقبت على العراق وسواه من الدول العربية، لتنتهي هذه القصة بلقطة تنسجم تماما مع أحداثها، على الرغم من المسحة الغرائبية التي تجسدت فيها، حيث يوحي هذا المشهد إلى ما يحدث اليوم من وجود آلاف المقالات والكتابات التي لا طائل من ورائها في ظل أوضاع تحلم بما هو صحيح ومطلوب لكنها لا تعمل على تحقيق الحلم.
القصة الأخرى التي تثير انتباه القارئ حقا هي قصة (كتاب الحياة)، فهي تجمع بين الفلسفة، والفكر، والدين، والواقع، والمشاعر المتضاربة التي يعيشها بطل هذه القصة على الرغم من كونه يعمل معلّما، كما أنه من طراز العقول التي لا تكف عن القراءة، لأن بعض العقول تظن أن الخلاص الوجودي يكمن في القراءة وحدها ولا سبيل آخر للتخلص من هذا المجهول المصيري، حيث تبدأ قصة (كتاب الحياة) بمقتبس للفيلسوف الألماني غوتة يقول فيه: (أعمق موضوع في تاريخ الإنسان، هو صراع الشك واليقين)، ثم يصدمنا الحدث الأول حين تصل مكالمة للبطل تخبره بأن حكم الإعدام صدر بحقه، فيضيع بطل القصة (المعلم) بين حدّة الواقع و وضوحه وصحّة المكالمة والخبر الكارثي الذي حملته، وبين الأفكار المتضاربة و الوساوس التي هجمت على رأسه وعقله بسبب قراءته لـ كتاب الحياة، فيدخل القارئ في موجة من الشك الممزوج بيقين سرعان ما يتلاشى وشك سرعان ما يذوب في رؤية لا تقبل الشك، تقدم هذه القصة المتماسكة فنيا رؤية المجر للوجود والحياة والخلق وهذا التنازع الحاد بين الشك واليقين، وكل هذا مسبوك في قالب إيحائي شديد التأثير في القارئ..
(وصلت القرية بذات الطريق الذي يوصلني اليها يوميا، لكني فوجئت بانها ليست هي، وحين توجهت الى مدرستي، وجدت بناية مدرسية لكن ليست بناية مدرستي، ولم اجد تلاميذ او معلمين او اي احد من الفراشين ايضا. هممت بالخروج منها والذهاب الى القرية لأستطلع الامر عن قرب، وان تطلّب ذلك دق الابواب، الّا ان الصمت كان يخيم على البيوت التي بدت كما لو انها مهجورة منذ قرون)، مقتبس من قصة كتاب الحياة.
ختاما تربط قصص هذه المجموعة التي أخذنا منها نماذج في هذه المقالة، حالة فنية لها صورة الإيحاء وفعله القوي، إذ على الرغم من أن المجر يقدم معظم أحداث قصصه من الواقع الحياتي و الوجودي الذي نعيشه، إلا أنه برع في مزج هذا الواقع بأجواء غرائبية حادة، مما يجعل القارئ متذبذبا بين قطبين متناقضين هما الواقعي و الغرائبي، وبهذا تعد هذه المجموعة وفقا للنماذج المقروءة ووفقا لوجهة نظري الشخصية واحدة من الكتب القصصية المتفردة.
اضف تعليق