جودت هوشيار
القاريء العادي لا يتفاعل أو لا يستوعب غالباً الأعمال الأدبية الجادة، ويفضّل قراءة أدب التسلية العابرة، أو أدب اللذة، الذي قد لا ينطوي على أي قيمة فكرية أو فنية، وقد وصفه الزيات بأنه "كل أدب يلذ ولا يفيد ويسوغ ولا يغذي ويشغل ولا ينبه". في حين لا يأخذ الكاتب المبدع، مثل هذا الأدب مأخذ الجد، ويفضل قراءة الأعمال الأدبية المتميزة. ولكن ثمة أعمال أدبية رائعة لكتاب مجيدين تحظى بمقروئية عالية لدى القاريء العادي والكاتب الجاد في آن واحد، وهي الروائع الأدبية الكلاسيكية، التي اجتازت إمتحان الزمن، ومنها نتاجات اسحاق بابل (1894 – 1940)،.
بابل عرف الشهرة المدوية اثر نشر مجموعته القصصية الأولى الرائدة "الفرسان الحمر" في منتصف العشرينات من القرن العشرين. وقد ايقن الجميع كتابا ونقاداً بأن أدبا جديداً قد ولد، ولا يشبه الأدب الروسي الكلاسيكي (أدب بوشكين وغوغول وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف). وسرعان ما ترجمت المجموعة الى أكثر من عشرين لغة أجنبية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وقال أحد النقاد الأمريكيين: "ما كان يكتبه تولستوي في 24 ساعة، يكتبه بابل في ساعتين فقط " وكان ذلك خير وصف لأسلوب بابل الكثيف والجميل، الذي سحر كبار الكتّاب الأميركيين.
في عام 1930 وجهت مجلة "نوفي مير" الروسية -التي كانت وما تزال أشهر وأرقى مجلة أدبية روسية- سؤالا واحدا ومحددا الى عدد من الكتاب الغربيين: "من هو في رأيكم أهم كاتب روسي معاصر؟. ولم تكن اجاباتهم مفاجأة لأحد: فقد تصدر اسم " إسحاق بابل "عن جدارة قائمة الكتاب المفضلين لدى تلك النخبة المختارة من خيرة كتاب ذلك العصر.
قال ارنست همنجواي في رسالة مؤرخة 12 كانون الثاني 1936 الى مترجم أعماله الى اللغة الروسية ايفان كاشكين (1899 – 1963): "عرفت بابل منذ ان قرأت الترجمة الفرنسية لمجموعته القصصية " الفرسان الحمر". تعجبني أعماله جدا. عنده مادة قصصية مدهشة، ويصوغها على نحو ممتاز ". قصص بابل مضغوطة اكثر من قصصي ومضامينها ثرية. وهذا دليل على قدراته الفنية. "
وعندما إلتقى إرنست همنجواي مع ايليا اهرنبورغ في مدينة مدريد المحاصرة عام 1937 قال همنجواي معبراً عن إعجابه بفن بابل: "يلومونني لأنني أكتب بإيجاز، ولكنني وجدت أن بابل يكتب بشكل جيد وعلى نحو أكثر كثافة من كتاباتي. ولم اكن اعرف ان للسرد القصصي علاقة بعلم الحساب. أي أنه من الممكن أن يكتب المرء بكثافة أكثر، مثل الجبن الذي تم عصره بشدة ليخرج منه الماء تماما".
أما الكاتب الأميركي ريموند كارفر (1925 – 2015)، والذي يعد من أشهر كتاب القصة القصيرة في النصف الثاني من القرن العشرين – فإنه كان مبهوراً بفن بابل القصصي واسلوبه الى درجة انه يحفظ بعض قصص هذا الكاتب الروسي عن ظهر قلب. وقال أنه تأثر ببابل وتشيخوف أكثر من غيرهما.
واعترف كاتب أميركي بارز آخر وهو جيمس سولتر (ولد عام 1959) بأنه تأثر بأدب بابل، وذلك خلال محاضرة له في احدى الجامعات الأميركية ونصح تلاميذه بدراسة قصص بابل واسلوبه الساحر، لأنهم سيتعلمون منه الشيء الكثير. وقال ان بابل اكثر الكتاب الروس تفردا وغنى، وأكثرهم إثارة وجدة.
المكانة الرفيعة التي احتلها بابل لدى الكتّاب الغربيين تجلت بأوضح صورة عند إنعقاد مؤتمر باريس للدفاع عن الثقافة سنة 1935، وذلك عندما اكتشف منظمو المؤتمر أن الوفد السوفييتي لا يضم إسحاق بابل مؤلف "الفرسان الحمر"، ولا الشاعر الكبير بوريس باسترناك، وقرروا على الفور مطالبة السفارة السوفيتية في باريس بضم هذين الأديبين الى الوفد السوفييتي. أبرقت السفارة الى القيادة السوفيتية حول ضرورة ايفاد بابل وباسترناك الى باريس على وجه السرعة. كان باسترناك مريضا في ذلك الوقت. كما ان كلاهما (بابل وباسترناك) لم يكونا يملكان بدلات مناسبة للظهور امام مثل هذا الحشد الثقافي العالمي، فتم على الفور خياطة بدلتين جديدتين لهما لدى أشهر خياطي موسكو، واصدار جواز سفر باسميهما. ونقلوهما الى باريس بطائرة خاصة. كان باسترناك يشكو لبابل ولطاقم الطائرة طوال الرحلة بأنه مريض ودرجة حرارته مرتفعة، ولكن لا أحد كان يصغي اليه، فأوامر ستالين كانت تنفذ دون نقاش. وصلا باريس في اليوم الثالث للمؤتمر.
ألقى بابل كلمة باللغة الفرنسية – التي كان يتقنها وكتب بها اولى قصصه في بداية حياته الأدبية - استغرقت 15 دقيقة، وكما يذكر ايليا أهرنبورغ في مذكراته الشهيرة "الناس، والأعوام، والحياة"، فان كلمة بابل تضمنت عبارات ساخرة أثارت موجات من التصفيق والضحك. سحر بابل الحضور بلغته الفرنسية الجميلة، واسلوبه المرح، وأفكاره المعمقة حول دور الكاتب في الدفاع عن القيم الإنسانية..
في عام 1954 كتب الناقد الأميركي الكبير ليونيل تريلينغ (1905 – 1975) مقدمة لمجموعة قصص بابل "الفرسان الحمر" يقول فيها أنه دهش لأسلوب بابل الكثيف والتهكمي الساخر، المشحون بما يمكن تأويله على أكثر من وجه.
ولعل أبلغ دليل على استمرار تأثير بابل في الكتاب الأميركيين هو المقال الذي نشره الكاتب الأميركي المعاصر (بين نادلير) تحت عنوان: (قصص نحبها "مكافأتي الأولى" لإسحاق بابل) في احد الاعداد الاخيرة لمجلة " فيكشن رايترز ريفيو".
يقول نادلير: في اغسطس الماضي قررت السفر الى تبليسي عاصمة جمهورية جورجيا مع صديقتي (أوكسانا). سألني أصدقائي: لماذا نحن- أنا و صديقتي – نريد قضاء عطلتنا السنوية الوحيدة في غرفة علوية ضيقة في درجة حرارة تبلغ مائة فهرنهايت في مدينة صغيرة من مدن الاتحاد السوفييتي السابق. قلت لهم اشياء كثيرة:
رحلة لا تكلف كثيرا، واريد أن أشرب النبيذ الجورجي الحلو زجاجة تلو زجاجة، وأن جورجيا هي أجمل بلد في العالم، وأن (أوكسانا) تريد زيارة المدينة التي عاش فيها جدها، بطل الحرب العالمية الثانية، وزيارة ضريحه في المقبرة الروسية المهملة. كانت كل هذه الأسباب الثانوية صحيحة، ولكن السبب الحقيقي لسفري الى تبليسي يكمن في الفقرة الأولى من قصة اسحاق بابل "مكافأتي الأولى":
"إن كنت تعيش في تبليسي في فصل الربيع، وأنت في العشرين من عمرك، ولم تكن محبوبا، فتلك مصيبة.. مثل هذه المصيبة حدثت معي".
ويضيف نادلير:
" كانت لهذه القصة أعمق الأثر في كتاباتي السردية، وأردت أن اعيش في اجواءها، ولو لأيام معدودة. لقد استفدت من هذه القصة أكثر من ورش الإبداع العديدة التي حضرتها في بداية حياتي الأدبية".
القصة التي أشار اليها نادلير كتبها بابل عام 1822 ورفضت الرقابة السوفيتية المتزمتة نشرها بدعوى أنها ايروتيكية، ولا تمت الى الواقع السوفيتي بصلة، وان الأدب يجب أن يخدم الأهداف التربوية للنظام البلشفي. اعاد بابل صياغة هذه القصة من جديد سنة 1928، وحذف منها ما اعترضت عليه الرقابة، ومع ذلك لم تقبل اي مجلة روسية نشرها داخل الإتحاد السوفيتي باللغة التي كتبت بها وهي الروسية، وبعد أكثر من اربعة عشر عاما أي في عام 1936، نشرت الصيغة المعدلة للقصة في مجلة "الأدب السوفيتي" الصادرة باللغة الإنجليزية والموجهة للخارج لأغراض دعائية.
وعندما القي القبض على بابل في 15 أيار 1939 صادرت المخابرات السوفيتية كل أعماله الأدبية المخطوطة. ومن حسن الحظ أن قصة "مكافأتي الأولى" نجت بإعجوبة من المصادرة، فقد كان من عادة بابل أن يقرأ أي نتاج جديد له، على مسامع أصدقائه المقربين، قبل نشره، قائلاً أنه يريد معرفة رأيهم فيه. ولكن الحقيقة هي أنه كان مهدداً بالإعتقال في أي لحظة. لذا كان يتعمد قبل أن يغادر المكان أن يترك نسخة من القصة هناك. وبعد اعتقاله احرق معظم أصدقائه والمقربون منه أعمال بابل التي بحوزتهم، بإستثناء البعض منهم. فقد منع النظام البلشفي منعا باتا الإحتفاظ بالأعمال الأدبية أو الفكرية لـ(أعداء الشعب)، وكان المخالف يعرض نفسه لعقوبات صارمة عند اكتشاف (فعلته). وكان الوشاة في كل مكان، ولم يكن أحد يثق بأحد ولو كان من أقرب المقربين اليه. لذا فإن الإحتفاظ بعمل أدبي لكاتب من (أعداء الشعب) يمكن إعتباره بطولة حقيقية في ذلك العهد المرعب.
تعرض بابل في السجن الى تعذيب وحشي، وحكم عليه بالإعدام بعد محاكمة صورية جرت يوم 26 كانون الثاني 1940 واستغرقت أقل من عشرين دقيقة، واعدم رميا بالرصاص في فجر اليوم التالي. ولقد تبين لاحقاً من خلال الوثائق التي نشرت في فترة (البريسترويكا) زيف وبطلان كل التهم المفبركة الموجهة اليه. وكانت آخر كلماته قبل اعدامه: "دعوني اكمل عملي". وتشير تلك الوثائق الى أن ستالين قد وقع على أمر اعدام بابل قبل عدة اسابيع من انعقاد المحكمة.
نشرت الترجمة الإنجليزية الكاملة للصيغة الأولى (1922) لقصة "مكافأتي الأولى" في الولايات المتحدة عام 1963، والنص الروسي في الإتحاد السوفيتي عام 1967 بعد 13 عاماً من رد الإعتبار الى بابل عام 1954. وكان بذلك أول كاتب يعاد اليه الإعتبار بعد موت الطاغية ستالين بفضل متابعة أرملته المهندسة العبقرية "انطونينا بيريزكوفا"، مصممة العديد من أجمل محطات المترو في موسكو، ومنها محطة "ماياكوفسكايا" التي تعد تحفة هندسية في غاية الفخامة والجمال.
قصة "مكافأتي الأولى"
راوي القصة شاب غرير، في مقتبل العمر، يمارس عملاً بيروقراطيا مملاً كمدقق لغوي في مطبعة عسكرية محلية. ويسكن في غرفة علوية اسـتأجرها من زوجين شابين تزوجا حديثاً. الزوج يعمل جزاراً في السوق الشرقية في مدينة تبليسي. ومن خلال الحاجز الفاصل بينهما كانت تصل اليه آهات الحب، كما لو كانت أصوات اسماك كبيرة محصورة في حوض زجاجي. ذيول هذه الأسماك التي فقدت ذاكرتها كانت تصطدم بالحاجز. وفي الليل كانت الاصوات تختفي ويحل صمت مطبق يخترق قلبه. لم يبق أمام الشاب سوى البحث عن الحب، والذي وجده سريعا، ولكن لسوء أو لحسن حظه كانت بائعة هوى اسمها (فيرا). إمرأة مديدة القامة، بيضاء الوجه، في الثلاثين من عمرها. وفي مساء كل يوم كان الشاب يتبعها في الشارع الذي تمر به دون ان يجرؤعلى مكالمتها.. لأنه لم يكن يملك المال ولا يعرف كلمات الحب الرخيصة.
ومنذ يفاعته كانت كل طاقته مكرسة لتأليف القصص والمسرحيات في الخيال دون ان يدونها على الورق. نسج ألف قصة كانت تقبع على قلبه مثل سلحفاة على حجارة. لم يكن يريد ان يكتبها على الورق لأنه كان يعتقد إن من العبث أن يكتب المرء على نحو أقل جودة من ليف تولستوي. كان يختلق القصص الخيالية لتكون سلواه وتنسيه ما يعانيه من حزن. كان يخجل أن يبكي، ولا يتقن فن السعادة. وذات مساء استجمع شجاعته وكلّم (فيرا) واضطر ان يدفع لـها مقدماً عشرة روبلات ذهبية من راتبه الشحيح.
. وقبل أن ينام معها، اضطر الى مرافقتها في جولة وسط تبليسي، فقد كانت فيرا امرأة عملية، ولديها مشاغل لا تنتهي، ومعروفة لدى كثير من رواد الملاهي والمطاعم. ولم يصلا الى الفندق الذي تعيش وتعمل فيه الا في منتصف الليل. وتركته ينتظرها في الغرفة، وذهبت الى بهو الفندق لتودع زميلة عجوز مسافرة الى البلدة التي يعيش فيها ابنها. كانت الغرفة كئيبة يحوم فيها الذباب، ثم يسقط في اناء الحليب ويموت.
.. ويقول الراوي: " لقد تعبت من الجولة الطويلة في المدينة الى درجة بدا لي حبي عدوا لدودا لصق بي. ومن الممر كانت تأتيني ضحكات صاخبة لحياة أخرى غريبة. وأخيرا جاءت فيرا وقالت: " هل تعبت من الإنتظار؟ لا بأس، انتظر قليلا."
كانت تحضيراتها أشبه بتحضيرات طبيب يتهيأ لأجراء عملية جراحية. أشعلت موقد الكيروسين ووضعت عليه وعاءاً مملوء بالماء. وعلقت منشفة على ظهر الفراش.
قالت:
- تعال جنبي الى ان يغلي الماء.
ولكن الشاب لم يتحرك من مكانه. واضافت:
- لعلك تتحسر على نقودك!
- أنا لا أتحسر على نقودي
- ولم لا تتحسّر، لا بد انك لص أو تخالط اللصوص؟
- لست لصاً. أنا ولد
- ارى انك ولد وليس بقرة!
استلقت على الفراش وسحبته الى جانبها. وأخذت تعبث به
إشمئز الشاب مما يراه وأصابه اليأس والإحباط وقال لنفسه: "لم استبدلت وحدتي بهذه الغرفة البائسة الكئيبة. ما اعظم الفرق بين هذا الحب المصطنع المزعج وبين آهات الحب اللاهب الصادرة من غرفة مضيفي. "
ومن اجل التخلص من الموقف الحرج الذي وضع نفسه فيه، اخترع الشاب قصة ملفقة عن حياته وشذوذه يزعم فيها أنه كان حبيب رجل ارمني في باكو، وتنظر فيرا اليه كأنه زميل مهنة. وعندما كان الشاب يلاحظ فتور اهتمام فيرا بما يسرده، كان يعدّل مسار القصة لإثارة اهتمامها. ويقول الراوي "لو كنت كاتبا كسولاً، وأقل اهتماما بالمستوى الفني لقصتي لسردت عليها حكاية مبتذلة عن طرد رجل ثري مستبد لابنه من البيت وعن ام مسكينة معذبة، ولكنني لم أرتكب هذا الخطأ."
ويقول الراوي: "خمس سنوات من عمري – من الخامسة عشر الى العشرين – قضيتها في اختلاق القصص الخيالية.. وحدتي حركت واحدة منها ووقعت على الأرض. ويبدو أن القدر جعلت من مومس تبليسية أول قارئة لي. قضينا الليل وهي تعلمني اسرار مهنتها التي لن تعرفوها، وجربت فنون الحب التي لن تجربوها ابدا".
وفي الصباح تقوم (فيرا) بإرجاع القطع الذهبية العشر اليه، لأنها لا تعتبره زبونا، وتخاطبه بصيغة (اختي). ويعتبر الشاب هذه الروبلات العشرة أول مكافأة له عن القصة التي اخترعها وكانت (فيرا) اول قارئة لها.
وفي صباح اليوم التالي يجلسان في مقهى تركي قريب ويحتسيان الشاي (القرمزي) الحار الشبيه بالدم المسفوك توّاً.
ويختم الراوي قصته بالقول: "لقد مرت سنوات عديدة منذ ذلك الحين. وخلال هذه المدة تلقيت مرات عديدة مكافئات من رؤساء التحرير، ومن دور النشر. لقاء انتصارات كانت هزائم، ولقاء هزائم اصبحت انتصارات، من اجل الحياة، ومن اجل الموت. دفعوا لي مبالغ تافهة، أقل بكثير مما استلمته في شبابي من قارئتي الأولى ولكنني لا أشعر بالغضب وأعرف أنني لن أموت قبل أن انتزع من أيدي الحب مكافأة ذهبية أخرى، وستكون المكافأة الأخيرة. "
درس بليغ لكتّاب القصة القصيرة
استخدم بابل في سرد هذه القصة، كما العديد من قصصه القصيرة الأخرى ضمير المتكلم. وقد يظن القاريء انها قصة تستند الى تجربة الكاتب الحياتية، ولكن الحقيقة هي انها قصة خيالية، ولا صلة مباشرة لها بوقائع حياته. وقد سئل بابل عن سبب استخدامه الضمير الاول، فقال ان السرد بهذه الصيغة يعفيه من وصف البطل وكل ما يتعلق به، من اجل تكثيف النص. فالقصة في رأي بابل يجب ان تكون مكثفة ومقتضبة مثل أمر عسكري أو شيك مصرفي.
يقول الراوي في مطلع الصيغة الأولى لهذه القصة: "ان الحب هو الذي جعل منه كاتبا. وهذه مفارقة غريبة، لأن محبوبته كانت بائعة هوى غير جميلة وتكبره بعشر سنوات، وإمرأة غير رومانسية على الإطلاق، بل عملية جدا. وتبدو القصة وكأنها استفزاز للذائقة الأدبية السائدة، وتتعارض تماما مع كل صور بائعات الهوى في الأدب الكلاسيكي الروسي. ومنها قصص "شارع نيفسكي" لغوغول، و "رسائل من تحت الأرض" للدوستويفسكي "والبعث " لتولستوي، و"النوبة" لتشيخوف، وغيرها كثير. في كل هذه القصص ثمة مثقف عاطفي يلتقي ببائعة هوى، ويحاول انقاذها من الحضيض الذي وصلت اليه، حتى انه على استعداد أحياناً للإقتران بها. وهو يرى فيها ليس بائعة هوى بل ضحية. وكل بطل من أبطال هذه القصص يحاول حل المأزق النفسي الذي يواجهه بطريقته الخاصة.
بطل قصة غوغول بيسكاريوف - المرفوض من بائعة هوى، لا تريد تغيير نمط حياتها، يقتله الإدمان على المخدرات. بطل دوستويفسكي يتصور نفسه رجلا شهما، ولكنه في الواقع يهين المومس (ليزا) حين يجعل منها متنفسا لأزمته الروحية. ولكن ليزا تنتمي الى نمط قوي من النساء الروسيات، وهي التي تترك البطل، وترفض أخذ النقود.
اما فيرا في قصة بابل "مكافأتي الأولى" فإنها ليست بحاجة الى انقاذ، وليست متلهفة للقاء عميل جديد " وهي التي تبادر الى سؤال الشاب عن حياته – وفي العادة فأن العميل المثقف هو الذي يهتم ويسأل المومس كيف وصلت الى هذه الحالة. بطل قصة بابل يصاب بخيبة أمل، ويشعر بالتقزز، ولا يحس قط أنه مستعد للقيام بما جاء من اجله. " وردا على استفسارات فيرا يبدأ البطل بإختلاق قصة مثيرة عن حياته، ويضفي عليها تفاصيل مثيرة. وعندما يلاحظ فتور اهتمام (فيرا) بقصته يبدأ بتعديلها. فيرا تقتنع تماما بالقصة وتعتقد بانها حقيقية. القصة كانت متقنة الى درجة ان الشاب نفسه أخذ يصدّقها وكأنها قصة حياته، ويشعر بالشفقة على نفسه ويعتصر قلبه ألماً. وبذلك ينتزع اعترافها به ككاتب.
في هذه القصة النجاح اللفظي يفضي الى الجنس. وتجري مقايضة متكافئة بين فن الكلمة والجنس. القصة بأسرها – تمجيد لفن الكلمة، وقدرته على التأثير في الحياة. البطل يحول أمرأة مترهلة في الثلاثين من عمرها الى حبيبة عاطفية، ويشحن نفسه بالحماس للجنس. العلاقة بين العميل والمومس، تأخذ شكل العلاقة بين عاشقين متكافئين.
وليست هذه هي القصة الوحيدة لبابل التي تتم فيها مثل هذه المقايضة. ففي قصته المشهورة "جي دي موباسان" التي كتبت عام 1937، وتعد من أفضل وأجمل قصص بابل، وإحدى روائع الأدب العالمي، نجد البطل يقوم بمساعدة سيدة ارستقراطية في ترجمة قصص موباسان الى اللغة الروسية. كانت السيدة قد ترجمت نصوص موباسان ترجمة أمينة من دون أي أخطاء لغوية، ولكن البطل وجد أن هذه الترجمة ميتة، وليس فيها روح موباسان واسلوبه الأنيق المتميز، فيقوم بإعادة صياغة تلك القصص على نحو لا تقل روعة عن الأصل الفرنسي. وتصاب السيدة بالدهشة، وتنبهر بموهبة البطل في الصياغة الأدبية الرفيعة. الإعجاب المتبادل يفضي الى علاقة حميمة بينهما. أي إننا مرة أخرى أمام مقايضة من النوع نفسه: فن الكلمة مقابل الجنس.
قال بابل عام 1915، في بداية حياته الأدبية، في مقال له بعنوان "أوديسا"، أنه يحلم بالكتابة على نحو مختلف عن الكلاسيكيين الروس (غوغول، تولستوي، دوستويفسكي، تشيخوف). وهذا ما فعله في " مكافأتي الأولى " وفي " جي دي موباسان " حيث قلب راساً على عقب كل ما كتب عن العلاقة بين المثقف والمومس.. البطلة ليست بحاجة الى انقاذ، ولكنها بحاجة الى الغزو الأدبي مثل قارئة ساذجة. وشرب الشاي بدلا من النبيذ وصفة تقليدية لمنقذي المومسات في الأدب الروسي. ولكن الشاي في هذه القصة قرمزي وحار كالدم المسكوب. فيرا على غير العادة لا تأخذ النقود، ليس بسبب التعالي، بل بسبب الحب.
اضف تعليق