مثل الشجرة التي تمتد جذورها في أرضها، وتنمو في أجوائها لتعطي الثمار المطلوبة، تكون الفكرة مضيئة ومؤثرة عندما تنبعث من مصدرها الأصيل، مما حدا بالانسان على مر الزمن لأن يبذل قصارى جهده، بل ويضحي من اجل المحافظة على جذوره الثقافية والحضارية...
مثل الشجرة التي تمتد جذورها في أرضها، وتنمو في أجوائها لتعطي الثمار المطلوبة، تكون الفكرة مضيئة ومؤثرة عندما تنبعث من مصدرها الأصيل، مما حدا بالانسان على مر الزمن لأن يبذل قصارى جهده، بل ويضحي من اجل المحافظة على جذوره الثقافية والحضارية.
عرفت هذه الحقيقة الأمم منذ فجر التاريخ المعرفي عندما كانت بلاد فارس والهند ومصر واليونان القديمة منبعاً للفكر والمعرفة، مع وجود عامل التلاقح في تطور الفكر البشري، بيد إن الهويات الخاصة تبلورت مع مرور الزمن لتتشكل لدينا الثقافة الغربية القائمة على جذور الفكر الاغريقي (اليوناني القديم)، كما تتشكل الثقافة الاسلامية، الى جانب الثقافات المتفرعة الاخرى في العالم التي صارت هوية لشعوبها في القارة الآسيوية والافريقية واللاتينية، وهذه الهوية تحولت الى مَعلَمٍ دالٍ على بلد بعينه، فدخلت أنماط الملابس والأطعمة، وطريقة العيش ضمن التسويق التجاري، والنتاجات السينمائية والتلفزيونية، ومختلف اشكال الفنون.
وجرت محاولة للتمييع والتذويب تحت شعار "العولمة" بدعوى الشراكات الاقتصادية والتبادل التجاري، ولكن عندما أميط اللثام عن حقيقة العولمة الثقافية، انفجرت شوارع آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية بالاعتراض الجماهيري لما وصفوه بنوع من "الغزو الثقافي الغربي" في ظل الحديث عن "القرية العالمية" والتقارب بين الشعوب والأمم، فقد قالت الشعوب كلمتها بعدم حاجتها للثقافة الغربية، واعتزازها بثقافتها وما تحمله من عادات وتقاليد وتاريخ ولغة، و إن لم تحقق لها ما حققته الثقافة الغربية لشعوبها من تقدم علمي وتطور اقتصادي وسياسي.
الفكرة الأصيلة محترمة
ساد اعتقاد لدى شريحة المثقفين خلال القرن الماضي بعدم جدوائية الاعتماد على الثقافة المحلية، لاتهامها بالتسبب بالتخلف والحرمان، فكان لابد من التطلّع الى ما لدى الآخرين من افكار وثقافات، ثم تصديرها الى بلدانهم على أمل ان تكون وسيلة للحاق بركب التقدم العلمي في الغرب، بل وحتى نمط العيش والحياة لديهم.
في بداية التجربة، سافر المصريون والايرانيون والعراقيون وغيرهم الى اوربا و اميركا بحثاً عن اسرار التقدم والحصول على كنوز المعرفة، بيد أن الزمن أثبت خطل التجربة هذه، وأن كل المحاولات، من أسفار، وأبحاث، ثم مؤلفات، وحتى محاولات سياسية لفرض النماذج المستوردة، لم تكن سوى سراب، ومحاولة تهجين فاشلة أسفرت عن تشوهات ثقافية مريعة، وخسارة فادحة لفرص و عوامل النهوض الحقيقية في بلاد نبعت منها العلوم والمعارف حضارياً، ثم اكتست بثوب الثقافة والفكر المتطابق مع الفطرة البشرية بفضل القيم ومنظومات الأحكام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي قدمها الإسلام لأهل هذه البلاد وللعالم أجمع.
وهذا يدعونا للقول؛ إن أكبر الفضل في تحقيق الغرب كل هذا التقدم في شتى الميادين، يعود الى اعتزازه بجذوره الفكرية والثقافية، فالفكر المادي الذي تقوم عليه الحياة في الغرب إنما هو انعكاس لافكار ارسطو؛ معلّم المادية الأول في المدرسة الفلسفية اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد.
فاذا عرفنا فوائد الأصالة هذه سنعرف حجم الخسارة الفادحة التي تكبدناها طيلة القرون الماضية بسبب محاولات الترقيع والتوليف بين الثقافة الاسلامية والثقافات الاخرى في العالم.
الفائدة الاول: داخلية
الانسان وليد التراب، لذا يعبر دائماً عن حنينه الى هذا العنصر الحيوي، ولعل هذا ساعده للتصالح مع الطبيعية رغم قساوتها وما تكبده بسببها في فترات مختلفة من التاريخ البشري، وعندما تحول التراب والوطن الى ثقافة، فان الفكرة الممزوجة بهذا التراب وذات الفضل في إحيائه وإحياء الانسان معاً، هي الاخرى تحولت الى ثقافة عزيزة على النفس، لاسيما اذا عرفنا إن أروع ما افرزته الحضارة الاسلامية؛ إحيائها للأرض والطبيعة، ودعوة الانسان للبناء والعمران والاستثمار دون حدود.
ولما يحصل عليه الانسان والمجتمع من فوائد ملموسة في حياته، فانه يعزز تمسكه بهذه الثقافة الأصيلة التي لم تسبب له مشاكل مع نفسه، من ازدواجية في المعايير والمفاهيم، ومع الآخرين من خلال العلاقات الاجتماعية.
والأكثر من هذا؛ يسمع بالمنجزات الحضارية الباهرة في صدر الاسلام، وكيف كان المسلمون يعيشون الرخاء والأمان والتنمية المستدامة، إنما كانت مشكلتهم الوحيدة مع السلطة والانظمة السياسية المتعاقبة.
وهذا يجعل انسان اليوم لا يحفل بالافكار المطروحة على الساحة، مهما كان جمال الأطر، وأسلوب الطرح الفني، ومغريات الوعود المستقبلية بتحسن الاوضاع، لأنها آمال فاقدة للجذور، لا يمكن ان تثمر عن شيء، وايضاً؛ لانها فاقدة لأهم عنصر حيوي فيها وهو أن تكون "وحدة متكاملة، يكمل كل جزء منها الآخر، وعدم العمل ببعض مفردات الثقافة الاسلامية قد يقود الى خلل في حياة الانسان، بل يؤدي الى ازوداجية الانسان أحياناً". (محاضرات ثقافية- السيد جعفر الشيرازي)
الفائدة الثانية: خارجية
من يقرأ او يسمع بالثقافة الاسلامية في أي مكان بالعالم يريد التعرّف على كامل المنظومة المعرفية والفكرية للإسلام، فاذا وجد المعروض امامه عبارة عن توليفات مما يحمله الكاتب مع اجزاء من افكار وثقافات الآخرين، فانه لن يتعب نفسه بمتابعة هذا النوع من النشر، فما حاجته الى أفكار الغرب عندما يجدها في كتابات الشرق –مثلاً- فمن السهولة وجودها ناصعة ومتكاملة من مصادرها الأصيلة، ويحصل عليها بسرعة البرق.
وفي خطوة متقدمة اخرى في تطوير العلاقات مع الآخر؛ تفعيل الحوار وتبادل الافكار والتجارب، فعندما تكون الأصول والجذور محترمة، يكتسب اصحابها الاحترام والتبجيل من الآخر خلال الحوارات واللقاءات في مناسبات مختلفة، بخلاف التصور السائد من أن الافضل إخفاء كل ما يمتّ الى التاريخ بصلة، والتشبّث بما هو حديث وعصري بظن البعض انه يسعى لكسب ودّ الطرف المقابل وإرضاءه من خلال تنازله او تطويعه لما لديه من نصوص من اجل الظهور بما يبعده عن وصمة "التطرّف"، بينما الحقيقة أكدت أن هذه اللفظة او ما اشبهها من العناوين السلبية صارت قريبة على واقعنا بسبب ابتعادنا عن الجذور والمنهج الذي كان عليه الرسول الأكرم، وأمير المؤمنين، والأئمة المعصومين، صلوات الله عليهم.
اضف تعليق