إطلاق حرية الكتابة على الجدران، وإمكانية تدوين كل شيء وعرضه بحرية في الأماكن العامة، ليس الكتابة وحدها، وإنما الصور والبوستات واللافتات والرسوم وما شابه، هذه الموجات المتلاحقة من الكتابات والرسوم والصور والألفاظ العجيبة الغريبة، كلها حدثت بعد 2003، بعد أن كان الشارع وجميع الأماكن العامة حكرا على صور رئيس النظام السابق، في ظاهرة تملق عجيبة دلّت في وقتها على تأليه شخص الرئيس وتعظيمه في إشارة الى المنهج القمعي المتزمت في التعامل مع الشعب أو مع الرأي الآخر.
اليوم اختلف الأمر، لم يعد أحد يخشى الحكومة أو سواها، فراحت الناس تنشر ما يحلو لها وما يعبر عنها ويروّج لها في الجدران والشوارع والبنايات والحدائق، أما عندما تقترب الانتخابات النيابية او مجالس المحافظات، فإن التلوث البصري يبلغ أقصى مداه مع الفوضى في النشر، فتصاب العين بالتشوه، وينعكس هذا على الذوق الفردي والعام، ويتم تشويه المدن وشوارعها وحدائقها وأماكنها العامة بما يسمى بالتلوث البصري، الذي يمكن وصفه بأنه إطلاق العنان للناس في كتابة كل ما يرغبون وفي أي مكان متاح، حتى لو كانت هذه الكتابات مخلفة للذوق العام او حتى التقاليد وما شابه، أما الحديث عن عرض الصور والملصقات فحدّث ولا حرج، فهنالك العجائب والغرائب في هذه الصور.
ممنوع الإساءة للذوق العام
والأمر اللافت في هذه الموجة من الإساءة للذوق العام، غياب التزام الناس بالعرف أو الذوق أو الضوابط، فضلا عن غياب التشريعات التي تنظم طريقة عرض الصور والكتابات في الأماكن العامة، وإذا تم وضع بعض القرارات والتشريعات والقوانين، فإن تطبيقها أما يكون معدوما أو ضعيفا كما هي الحال مع تطبيق القوانين بصورة عامة، حيث تواجه الحياة العامة للعراقيين ضعفا كبيرا في تطبيق القانون على حركة وأنشطة الناس المختلفة، وقد تكون هذه الظاهرة ردة فعل للناس للتعبير عن تطلعاتهم وأفكارهم وآرائهم بعد مراحل الكبت والقمع، بالإضافة الى أنها طريقة للترويج والتسويق وسوى ذلك من الأمور التجارية والربحية وغيرها.
في مدن العالم الكبرى أو المتوسطة وحتى الصغرى هنالك ما يشبه السباق فيما بينها لكي تصبح المدينة الأكثر جمالا وجذبا للسياحة وراحة للبصر، على عكس ما يدور في المدن العراقية حتى أن بغداد حصلت أكثر من سنة على مرتبة أسوأ المدن في النظافة والعيش، ويدخل التلوث البصري أحد أهم الأسباب التي جعلت من بغداد العاصمة الأسوأ، ولم يحرك أحد ساكنا، لا الشعب، ولا النخب، ولا الحكومة، الجميع يتلقى مثل هذه الأخبار وكأنها لا تعنيه من قريب أو بعيد.
حملنا هذه الهموم الى من يتعامل معها بحساسية وانزعاج، أو يفترَض أن يكون إحساسه هكذا، فالمواطن هو أول المسؤولين ويجب أن يكون أول الساعين الى البحث عن العلاج الحازم للقضاء على فوضى الكتابة العشوائية والصور والملصقات واللافتات الضوئية أو سواها، ولدينا المسؤول في البلدية أو الدوائر الخدمية والبحث عن العامل النفسي وإمكانية المعالجة في هذا المضمار، كان سؤالنا الأول لرجل (ختيار) كبير في السن، حسن المظهر، أنيق، وهو الحاج أبو حسن من مدينة الكاظمية المقدسة، سألناه عما تراه عيناه من صور وكتابات وهل يمكن مقارنة الأمس باليوم بين جماليات المدينة وأماكنها العامة فقال:
تطبيق نظام العقوبات
بين الأمس واليوم مسافة بحجم ما بين الأرض والسماء، ثم صمت الحاج متطلعا بعينيه الى الصور والكتابات العشوائية، وأضاف، الناس فقدوا الشعور بالجمال، ما عاد يهمهم المنظر الجميل، كل همومهم الفلوس وكيف يحصلون عليها، فينشرون كل ما يريدون بلا ذوق، ليس الباعة وأصحاب الأسواق والمتاجر ومحال الحلاقة والتجميل وحدهم، فالسياسيون أيضا دمروا المدن بمنشوراتهم، صورهم وأرقام تسلسلاتهم وبرامجهم وانتماءاتهم، والمشكلة أن عرض هذه الصور لا يتم حسب الضوابط التي تعلنها مفوضية الانتخابات كما أن تطبيق العقوبات معدوم، كما أن هنالك مشكلة أخرى أن هذه الملصقات تبقى في الشارع سنوات متتالية، الصحيح أن يتم توجيه الناس بأهمية جماليات المدن والشوارع والحدائق، وأن نتعلم من البلدان الأخرى التي تلجأ الى أحدث الوسائل والطرق لكي تقدم مدنها بأجمل الحلل.
من ناحيته يرى الطبيب سالم خيري خللا في تقديم الشوارع والاهتمام بها، ويقول أنها ثقافة شعب، فهو يتهم الجميع بالتقصير وليس الحكومة فقط او المسؤولين، فالشخص ينبغي أن يكون اكثر حرصا على مدينته مثل حرصه على نظافة بيته وغرفته الخاصة، ومتى ما وصل شعور الأشخاص الى أن نظافة المدن مثل نظافة الأماكن الخاصة عند ذاك تسود ثقافة النظافة والذوق العام بين الجميع، وشيئا فشيئا ترتقي المدن العراقية وخاصة العاصمة التي يجب أن تضاهي أفضل مدن العالم جمالا بسبب تاريخ هذه المدينة وانتمائها الى العلم والمدنية منذ مئات السنين.
الموظف في إحدى الدوائر الخدمي عبد الكريم الفتلاوي لا يتملص من المسؤولية، فهو يؤكد أننا نعاني من نقص في الخبرة والإدارة والإمكانات المالية خصوصا بعد موجة التقشف، ولكن لا تتحمل الدوائر الخدمية وحدها نتائج التلوث البصري الهائلة التي أصابت الأماكن العامة وخاصة الساحات والشوارع وحتى الحدائق العامة، فهناك نواقص كبيرة يرتكبها المواطن، فهو لا يعترف بالمسؤولية ولا يهتم بالذوق ولا تعنيه جماليات المدينة من أي نوع كان، وبعضهم عندما تعاتبه على رمي الأوساخ في الشوارع يسخر منك، ولا يرى مشكلة في الألفاظ الغريبة التي تشوه الجدران، وبعضهم يقول (خلو العالم تتنفس الحرية بعد القمع)، وهو يعني عدم الاعتراض على عرض الصور الشخصية وما شابه.
وهكذا يبدو الأمر من وجهة نظر علم النفس، أن هذه الظاهرة تأتي كتعبير عن التوق للحرية بعد الحرمان منها، ولكن هناك من يقول أن الحرية لا تعني تدمير الجمال وإشاعة الفوضى في المدن، فأنت حر ولكن بالحدود التي لا تسيء الى الذوق العام، ولا تلحق الضرر بأبصار الآخرين وأذواقهم، فالحدائق والشوارع العامة ملك عام وليس ملك خاص حتى تفعل بها ما تشاء، فتكون عنصر يضاعف من ظاهرة التلوث البصري التي يجب أن نتعاون جميعا من أجل القضاء عليها من حيث التنظيم والعمل الجماعي الرسمي والمدني.
اضف تعليق