يقولون ان اسمي "سفيان"، من أب داعشي وأم ايزيدية، أعيش في مُخيمات العليل، أمّا أخي الأكبر البالغ من العمر ١٠ سنوات، والذي هو ابن زوج أمي فقد تم تجنيده بصورة اجبارية في احدى قواعد داعش الإرهابية، هربت أمي من الموصل بعدما فجر أبي الداعشي نفسه في احدى العمليات الارهابية، واستقرت بعدها في مخيمات العليل، كي لا تقع ضحية الزواج الإجباري أو ما يدعوه بجهاد النكاح مرة أخرى، حملت في جوفها عاراً أُدعى أنا، هل ستُسموني لقيطاً؟ أم يتيماً؟ أو مخلفات حرب بائسة!
هذا السيناريو هو واقع حال الكثير من الايزيديات وباقي النساء اللاتي هتك حُرمتهن ارهابيِّ داعش، وحملنّ في أجوافهن ذرية هؤلاء الظلمة الارهابيون.
بعدما لفظ داعش أنفاسه الأخيرة على يد الجيش العراقي الباسل والحشد الشعبي المقدس، وسجلوا أبطالنا على أثره انتصارات عظيمة لن تُنسى، نستطيع أن نقول بأننا تحررنا تحريراً عسكرياً كاملاً، ولكن ماذا عن الاحتلال الفكري؟، هل لازالت الأفكار الداعشية تستوطن بعض العقول؟ وإذا كانت كذلك اذن ما هي الطرق والاستراتيجيات التي من الممكن أن نتبعها لنتحرر فكرياً من دنس أفكار داعش التكفيرية؟، والسؤال الأكبر هنا: ماهو مصير المتضررين نفسياً وفكرياً من قبل داعش وخصوصاً شريحة الأطفال؟، ماالذي ستؤول إليه حياتهم في المستقبل؟ ماهو شعور أمهاتهم اللواتي حملنَّ أطفالاً بالإكراه خلافاً للدين والأعراف المعتادة، ماهو مصير ذلك الطفل الذي بدلت مناهجه المدرسية على أساس إن قنبلة زائد قنبلة تساوي اثنان؟، كيف يا ترى سيكون مستقبل هذا الطفل المتشرد في المخيمات بهوية ابن داعشي!.
الأطفال الذين يمثلون الجيل القادم لبناء المستقبل، والذين من المفروض أن يخضعوا للدراسة والعلم، تجدهم الآن مشردين، وقد تقطعت بهم السبل في المخيمات على طول الحدود، أو نزحوا إلى البلدان المجاورة، او انتهى المطاف بهم في حمل السلاح والمشاركة في الحروب... فتراهم يفعلون كل شيء ماعدا الاستعداد لبناء مستقبل أوطانهم.
وهنالك تقارير وحكايات قاتمة عن وضع الأطفال في العراق، وقد صدرت أخبار كثيرة عن معسكرات التدريب العسكري للأطفال الذين تم احتجازهم من قبل ارهابيِّ داعش. بالإضافة إلى عصابات الإتجار الذين باتوا يتحينون الفرص الخبيثة لخطف الأطفال. وقد صدر مؤخراً تقرير مروع يتوقع بأن 200 طفل عراقي تم قتلهم فقط لأنهم رفضوا حمل السلاح. ولم يتم نشر أي فيديو حول هذه الحادثة، ولكن هنالك شهود عيان، وتقارير مروعة نقلت أحداث هذه المذبحة التي حصلت في محافظة نينوى.
وقال المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة: بأن داعش خلقت ما لا يقل عن أربع قواعد عسكرية ضخمة في الموصل لتعليم الأطفال، و1200 طفل عراقي تم خطفهم من جميع أنحاء البلاد لتعليمهم وتدريبهم في قواعد الإرهاب هذه.
وهنالك الكثير من الأمهات تخلّين عن أطفالهنَّ، لأسباب اقتصادية، تعود إلى ضعف الحالة المادية والفقر الذي تعيشه العوائل النازحة والهاربة من قبضة داعش، أو اسباب اجتماعية تتمثل بعدم القدرة على تقبل طفل وُلد من صلب رجل ارهابي كافر!، وبطريقة غير شرعية!
وغير ان هذه المعارك التي حصلت في العراق كلفت أرواحاً واموالاً كبيرة، فوق كل هذا خلفت حصيلة كبيرة في عدد الأيتام والاطفال اللقطاء الذين باتت تغص بهم الملاجئ ودور الرعاية في أفضل الحالات، أما في أسوأ الحالات فبات مصيرهم في التجنيد الإرهابي او بين المخيمات وتقاطعات الطرق، ليرسم لهم الواقع على أثره مستقبلاً مجهولاً.
وكيف سيكون مستقبل البلد الذي يحوي هذا الكم الهائل من الأيتام والمُشردين، مع العلم ان عدم التصدي لهذه المشكلة ومعالجتها سيُكلف المجتمع الكثير حالياً ومستقبلاً، بالإضافة إلى تأثير هذه المشكلة على الاستقرار السياسي والأمني الذي تتطلع إليه البلاد، فالأعداد المتزايدة من الايتام والمشردين الذين يفتقدون إلى الرعاية أو التوجيه الصحيح أو الانتماء تؤدي الى تراجع وضع البلد وتأخر المجتمع والهبوط به نحو الهاوية.
خصوصاً وان هذه الشريحة تفتقد إلى التعليم الصحيح، فمع بداية السنة الدراسية الجديدة في سوريا، صرّح صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، بأن هنالك 1.7 مليون طفل محروم من الدراسة، إضافةً الى 1.3 مليون طفل يواجه خطر الرفض.
وذكرت "هيومن رايتس ووتش" بأن 400 ألف طفل لاجئ سوري لا يذهب إلى المدرسة في تركيا، ولا يعرف اللغة التركية، وهنالك مشاكل ومُعوقات كثيرة تواجه المهاجرين وطالبي اللجوء، وتُعتبر المشاكل المادية من أبرزها.
وفي صدد هذا الموضوع طلبت هيومن رايتس ووتش من المجتمع الدولي تمويلاً جديداً، للتعامل مع هؤلاء الأطفال المحرومين من الدراسة، لأن هذا الوضع لو بقي على حاله سيشكل خطراً على الشعب السوري وعلى مستقبل جيل كامل.
وفي كل الأحوال لا تحمل الحروب سوى الدمار والألم للناس وخصوصاً الأطفال، زارعة فيهم ذكريات قاتمة عن القتل والتهجير، حتى وإن كان الزمن كفيل بنسيان ما حصل معهم ستبقى الآثار النفسية لكل من عاصر الاحداث وعايش الرعب والقلق راسخة في خانة الاوجاع.
كما إن غالبية المختصين يؤكدون بأن أخطر آثار الحروب هي ما تظهر بشكل ملموس لاحقاً في جيل كامل من الأطفال، وسيعاني الطفل على أثرها مشاكل نفسية تتراوح خطورتها بقدر استيعاب ووعي الاقربون اليه، وكيفية مساعدة الطفل على تجاوز المشاهد التي مرت به.
فمن المعروف أن الحروب لا تترك في نفوس العالم سوى الدمار والألم، إضافة الى الذكريات الصعبة التي تبقى تلازم الانسان حتى فترات طويلة من حياته وتؤثر على نفسيته بطريقة سلبية خطيرة، جميع هذه الامور تلعب دوراً خطيراً على نمط حياة الانسان البالغ، فكيف بشريحة الأطفال الأبرياء الذين لا يفقهون معنى كلمة حرب!، ولا يعرفون ماذا تعني كلمة قتل، كيف يا ترى ستكون نفسية الأطفال الذين عاشوا فترات ليست بقليلة مع أجشع تنظيم إرهابي مرّ على وجه التاريخ ألا وهو داعش، كيف من الممكن التعامل مع هذه الشريحة والعودة بالأفكار والمبادئ السامية التي دنسها الفكر الداعشي، وللرد على هذه الأسئلة ومواجهة هذه المشكلة وطرح آليات التعامل مع ضحايا داعش الأطفال كان لنا مع المختصة والمدربة المحترفة في التنمية البشرية والدعم النفسي (خلود إبراهيم البياتي) حوار خاص حول هذا الموضوع حيث قالت:
"إن ما حصل مع الذين عاشوا فترات ليست قليلة في حواضن دواعش الارهابية هو غسيل دماغ، فقد غيرت داعش المبادئ والقيم بصورة تدريجية عند ضعاف النفوس وزرعت مكانها أفكار سامة وسوداوية، والضحية الكبرى كانت شريحة الأطفال، فلم يأتِ استهداف داعش للأطفال بطريقة عبثية بل لأن الطفل بطبيعته التكوينية يستجيب بصورة أسرع من الانسان البالغ، وحينها سيكون الانتماء أكبر والتعامل معه أسهل، وتم بذلك زرع الأفكار التكفيرية في عقول الأطفال من خلال المناهج المدرسية التي تبث العنف بصورة مباشرة في نفوسهم البريئة لتخلق منهم اشخاص مجرمين.
وإزالة هذا التأثير الكبير الذي تركته داعش في عقول الأطفال يحتاج الى جهد كبير واستراتيجية غسل دماغ ايجابي من خلال غرس المبادئ والقيم الصحيحة في نفسه مرة أخرى بعد ما يتم تطهير عقله من الأفكار الداعشية تماماً، وهنا يبدأ دور المنظمات الإنسانية والنفسية في تهيئة برامج معينة وجلسات خاصة للأطفال للتعبير عن دواخلهم وطرد المشاعر السلبية التي تولدت من العنف الذي شاهده الطفل خلال تلك الفترة، وفي الوقت الحالي يعمل الصليب الأحمر الدنماركي والهلال الأحمر و دي ار سي على تهيئة أماكن تدعى (أماكن صديقة للطفل)، تقدم من خلاله جلسات عملية للأطفال في تلبية احتياجاتهم النفسية بالدرجة الاولى وزرع حب الانتماء للمجتمع والبلد.
وأضافت البياتي:
الحل الأكبر يقع على عاتق المجتمع الذي سيحاط بهذا الطفل المتضرر، وبالأخص العوائل التي ستعود إلى ديارها ومناطقها المتحررة وتلتقي بهؤلاء الأطفال، فلو شعر هذا الطفل بأن المجتمع ينظر إليه بعين الخطيئة والنفور ستتولد لديه مشاعر عكسية وعدم تقبل الوضع الجديد ومن المحتمل أن يعود بأفكاره وانتماءه الى التنظيم الإرهابي وبلا شك سيكره المجتمع وستخلق لديه روح عدائية تُهيئه ليكون شخصية مجرمة في المستقبل!، امّا لو وجد الطفل محبة العالم وتعاطفهم سيعزز ذلك من نفسيته وستُولد لديه مشاعر إيجابية ليكون على أثره عنصر ناجح وفاعل في المجتمع.
وهنا يلعب الاعلام دوراً مهماً في تعزيز ثقافة تقبل الطفل المتضرر عند المجتمع، من خلال إقامة حملات إعلانية قوية ومكثفة في نشر التوعية وتقديم رسائل إعلامية إيجابية في تقبل الأطفال بصورة سلمية والتعاطف معهم وتهيئتهم نفسياً لتجاوز هذه المرحلة الخطرة وتنشئتهم تنشئة صحيحة ليكونوا على أثرها عناصر فعالة في المجتمع ويعملوا على بناء اوطانهم في المستقبل".
من المهم جداً أن نعطي للطفل فرص كثيرة لكي يثبت نفسه ويكتسب ثقة المجتمع من جديد، ويحاول أن يتفاعل مع الناس بصورة سليمة، لأن تأمين جو خالي من اللوم والاحساس بالذنب سيُعيد بناء شخصية الطفل بطريقة سريعة وصحيحة، اذ إن أهم ما يفتقده الطفل في هذه المرحلة هو الحب والأمان، وإذا توفرت هاتان الخصلتان في المجتمع، سيشعر الطفل بأنه جزء من هذا المجتمع، وعليه سيفعل كل ما هو يعود بالنفع عليه وعلى الناس والبلد كنوع من رد معروف المجتمع عليه.
وهذه مجموعة من الارشادات المهمة التي توضح كيفية التعامل مع الأطفال المتضررين خلال هذه المرحلة، منها:
١- إقامة جلسات نفسية موسعة للطفل، ليستطيع من خلال التمارين العملية تفريغ العنف والشحنات السلبية التي اكتسبها من تلك الفترة المظلمة.
٢- سحب كل الأفكار التكفيرية التي غرستها داعش في أدمغتهم، وتوضيح ان هؤلاء البشر من أعداء الله الأشرار الذين لا يريدون الخير للعالم ويحاربون الانسانية بشتى الطرق.
٣- تثبيت ركائز مهمة في نفس الطفل مثل الانسانية وحب الناس وفعل الخير، وتوسعة أواصر المحبة والسلام بين ربوع العالم لتحل محل الأفكار السامة التي زرعتها داعش في نفوسهم البريئة.
٤- تقوية الانتماء الوطني عند الأطفال والذي سيساعدهم كثيراً في تعميق حب الوطن والشعور بأنهم ينتمون الى هذه الأرض ومن واجبهم خدمتها وخدمة الشعب بالخير والإحسان.
٥- الاستعانة بالجيش العراقي الباسل والحشد الشعبي الذين ضحوا بأنفسهم من اجل حماية هذه الأرض المباركة، وطرح بطولاتهم وافعالهم الشامخة بطريقة مبسطة يفهمها الطفل ومقارنتهم بالمنظمة الإرهابية التي تمثل قوى الشر، والتأكيد على ان قوى الخير هي التي ستنتصر في النهاية.
٦- تعميق الوازع الديني وبناء هيكل رصين من حب الله والإنسانية والسلام في نفوس الأطفال، لينزرع في داخلهم محبة الله منذ الصغر ويخشوا أفعال السوء التي ستسبب في غضب الله.
٧- الابتعاد عن جميع البرامج والأفلام التي تبث العنف وتحث على القتل حتى وان كانت خيالية، واستبدالها ببرامج ومسلسلات كارتونية تعمق من العلاقات الانسانية بين العالم وتبني خلفية سليمة عند الطفل.
٨- تهيئة المجتمع تهيئة سليمة لاستقبال الأطفال وخصوصاً العوائل التي ستعود الى ديارها بعد التحرير وتجد شريحة الأطفال هذه، وتوعيتهم على النظر الى الطفل نظرة محبة وعطف، لأنه في النهاية ليس سوى متضرر حرب، وليس له أي ذنب في كل ما جرى، ومن غير المعقول أن يدفع هذا الطفل البريء الذي لا يميز بين الصح والخطأ ثمن غلطة لم يكن له يد في ارتكابها.
وفي النهاية يبقى للإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والهلال الأحمر، والامم المتحدة واليونيسيف، دور رئيسي ومهم في تبني هذه الشريحة والعمل على استيطانها في أماكن مناسبة وبطريقة تلائم أعمارهم وتخليصهم من العنف الفكري الذي تعرضوا له، لأن أي خلل في تنشئة هؤلاء الأطفال سيدفع ثمنه المجتمع، لكونه ساهم في توفير البيئة الملائمة لخلق المجرمين وعندئذ سنكون اليد الاولى التي ساهمت في خلق داعش لمستقبل بلدنا المجهول.. فالخيار بيدنا الآن في ان نختار السعي لتنشئة الطفل تنشئة سليمة ليكون في المستقبل جندي عراقي غيور يدافع بدمه وروحه وكل ما يملك من أجل حماية ارضه أو ننبذ الطفل في المجتمع ونُهمشه، لنخلق بذلك شخص مجرم وخسيس كل همه هو اسقاط البشرية وتفريغ المشاعر العنيفة التي تلقاها في الماضي عن طريق القتل والعنف و...الخ، لأن الطفل في النهاية يبقى كالعجينة تستطيع تنشئته كيف ما تريد، فاذا زرعت فيه حب الخير سيكون انساناً صالحاً واذا زرعت في داخله العنف حينها بلا شك سيكون انساناً شريراً، ولا ننسى بأن الثمن سيكون غالياً على الطفل نفسه والمجتمع والبلد بالكامل!.
اضف تعليق