في استطلاعٌ لآراء باحثين، أعرب معظمهم عن تشكُّكه في أن التقنيات التي ترتكز عليها النماذج اللغوية الكبيرة كافية للوصول إلى الذكاء العام الاصطناعي. وفقًا لاستطلاع لآراء مئات العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي، من المستبعد الوصول إلى أنظمة ذكاء اصطناعي تضاهي البشر في ملكات التفكير المنطقي بالاستناد إلى المقاربات والتقنيات التي هيمنت على هذا المجال...
في استطلاعٌ لآراء باحثين، أعرب معظمهم عن تشكُّكه في أن التقنيات التي ترتكز عليها النماذج اللغوية الكبيرة كافية للوصول إلى الذكاء العام الاصطناعي. وفقًا لاستطلاع لآراء مئات العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي، من المستبعد الوصول إلى أنظمة ذكاء اصطناعي تضاهي البشر في ملكات التفكير المنطقي بالاستناد إلى المقاربات والتقنيات التي هيمنت على هذا المجال، والذي يشهد حاليًا ازدهارًا كبيرًا.
فرأى أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين في الاستطلاع أنه من غير المرجح أن تؤدي زيادة حجم أنظمة الذكاء الاصطناعي الحاليةً إلى الوصول إلى ما يُعرف بالذكاء العام الاصطناعي، رغم ما أثبته هذا النهج من نجاح كبير في تعزيز أداء هذه الأنظمة على مدار بضع سنوات مضت. بل ورجحت نسبةً أعلى من المشاركين في الاستطلاع أن الشبكات العصبية الاصطناعية، باعتبارها التقنية الأساسية المحرّكة للذكاء الاصطناعي التوليدي، لن تتمكّن وحدها من مضاهاة الذكاء البشري، ناهيك عن التفوق عليه. وفكرة السعي إلى الوصول إلى هذه الإمكانات من الأساس أثارت شكوكًا في جدواها؛ فلم يعتقد سوى أقل من رُبع المشاركين في الاستطلاع أن الوصول إلى الذكاء العام الاصطناعي ينبغي أن يكون المبحث الرئيس لمجتمع الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي.
على سبيل المثال، فرانشيسكا روسّي، الباحثة بشركة «آي بي إم» IBM الكائن مقرها في منطقة يوركتاون هايتس بولاية نيويورك الأمريكية، والتي كانت الباحثة الرئيسية في الاستطلاع ضمن مهام منصبها كرئيسة لـ«جمعية النهوض بالذكاء الاصطناعي» (AAAI) ومقرها بالعاصمة الأمريكية واشنطن، تقول معربة عن شكوكها: "لا أدري ما إذا كان الوصول إلى ذكاء اصطناعي يرقى إلى الذكاء البشري هو الهدف الذي يجب أن نسعى إليه؛ فالذكاء الاصطناعي يُفترض أن يدعم الإنسان في سعيه إلى الارتقاء والتعلُّم والتقدم، لا أن يحل محلنا كبشر".
وقد أعلنت الجمعية عن نتائج الاستطلاع في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا الأمريكية يوم السبت الماضي، ضمن الاجتماع السنوي لها. وتضمنت النتائج إجابات أكثر من 475 عضوًا من أعضاء الجمعية، الذين انتمى 67% منهم إلى الكوادر الأكاديمية.
الذكاءٌ العام
ترتكز أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي تقوم عليها تقنيات مثل روبوتات الدردشة وأدوات إنشاء الصور، على الشبكات العصبية الاصطناعية؛ وهي أنظمة حاسوبية تتعلّم من كميات ضخمة من البيانات بآليات مُستوحاة من العقل البشري. وعلى مدار العِقد الماضي، تمكّن مطورون، ممن يسعون إلى تحسين أداء هذه الأنظمة، من إحراز مكتسبات هائلة عن طريق زيادة حجمها، من خلال عدة أساليب، تشمل زيادة حجم بيانات تدريب الأنظمة ورفع عدد "معاملات" نموذج الذكاء الاصطناعي؛ أي الإعدادات التي يتعلّم النموذج ضبطها أثناء تدريبه.
مع ذلك، رأى 84% من المشاركين في الاستطلاع أن الشبكات العصبية وحدها لا تُعدّ كافيةً للوصول إلى الذكاء العام الاصطناعي. ويذكر أن الاستطلاع جاء ضمن تقريرٍ لـ«جمعية النهوض بالذكاء الاصطناعي» عن مستقبل البحوث في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد عرَّف التقرير الذكاء العام الاصطناعي بأنه نظامٌ "قادر على مضاهاة الأداء البشري أو التفوق عليه في مختلف المهام المعرفية". غير أن الباحثين لم يستقروا بعدُ على معيار تتحدد على أساسه المرحلة التي يتحقق فيها الوصول إلى الذكاء العام الاصطناعي.
وأكد تقرير الجمعية على وجود أنواع أخرى من الذكاء الاصطناعي الذي يستحق الدراسة بخلاف الذكاء الاصطناعي القائم على الشبكات العصبية. كذلك دعا التقرير إلى المزيد من الدعم الفعّال لهذه الوسائل التقنية. ومن أمثلة هذه الوسائل الذكاء الاصطناعي الرمزي Symbolic AI، والذي يُطلق عليه أحيانًا "الذكاء الاصطناعي الكلاسيكي الأب" good old-fashioned AI، والذي يستند إلى تمثيل القواعد المنطقية في صورة أكواد داخل نظام الذكاء الاصطناعي، بدلًا من التركيز على التحليل الإحصائي لكميات هائلة من بيانات التدريب. فيعتقد أكثر من 60% من المشاركين في الاستطلاع أن الوصول إلى مضاهاة التفكير المنطقي لدى البشر غير ممكن إلا من خلال دَمج قدر كبير من الذكاء الاصطناعي الرمزي في الأنظمة المستندة إلى الشبكات العصبية. وهنا، تقول روسّي إن النَهج القائم على الشبكات العصبية الاصطناعية أصبح جزءًا لا يتجزأ من الذكاء الاصطناعي؛ لكن "تطويره في الاتجاه الصحيح يستلزم مزجه مع تقنيات أخرى".
على صعيدٍ آخر، كشَف الاستطلاع عن مخاوف لدى المشاركين فيه تتعلق بتطوير ذكاء عام اصطناعي دون قيود. فقد رأى أكثر من 75% من المشاركين في الاستطلاع أن السعي إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تتمتع "بخواص تحقق توازنًا مقبولًا بين المخاطر والفوائد" ينبغي أن تكون له الأولوية على السعي إلى ابتكار ذكاء عام اصطناعي؛ في حين لم يرَ سوى 23% منهم أن الذكاء العام الاصطناعي يجب أن يكون على رأس الأولويات. واتفق نحو 30% من المشاركين في الاستطلاع على أنه ينبغي تعليق جهود البحث والتطوير التي تستهدف ابتكار ذكاء عام اصطناعي، إلى حين التوصُّل إلى وسيلة للتحكم التام في هذه الأنظمة، وذلك ضمانًا لعملها بصورة آمنة ولصالح البشرية.
غير أن معظم الباحثين المعنيين بالمجال يعارضون تعليق هذه الجهود، فيما يشير بعضهم إلى أن هذا التعليق، حتى في حال تطبيقه، قد يصعُب فرضه على جميع الأطراف. فيقول أنتوني كون، وهو عضو بالجمعية وباحث في الذكاء الاصطناعي من جامعة ليدز بالمملكة المتحدة: "لا أظن أن تنفيذ هذه الفكرة ممكن عمليًا؛ فالشركات ستواصِل جهود التطوير حتى إن أوقفَت الوكالات البحثية تمويلها لمثل هذه المشاريع". ويضيف: "لا أعتقد أن الوصول إلى الذكاء العام الاصطناعي وشيكٌ كما يعتقد الكثيرون"، ومن ثمّ فأمام الباحثين مساحة من الوقت للعمل على وضع تدابير أمان.
نموذج "الوكيل" المستقل: إشكالية أخلاقية
تعمل معظم الشركات المختصة بالذكاء الاصطناعي حاليًا على تطوير "وكلاء"؛ أي أنظمة ذكاء اصطناعي يمكنها الاستجابة للأوامر والاستفسارات المعقدة ذات الإجابات المفتوحة، واتخاذ إجراءات لإتمام مهام، مثل حجز مكان لقضاء عطلة أو كتابة كود برمجي وتنفيذه. لكن المجتمع البحثي منقسم ما بين مؤيد ومعارض لما إذا كانت فوائد "تحويل نماذج الذكاء الاصطناعي إلى نماذج وكيلة مستقلة" تستحق ما يرتبط بها من تكاليف، تنجم مع تعقد هذه الأنظمة أكثر ونمو قدراتها الحوسبية، وهو ما يصاحبه استهلاك أعلى للطاقة.
فضلًا عن ذلك، تأتي فكرة الوكلاء مُحمَّلةً بمخاطر أمنية جديدة؛ وهو التخوف الذي انعكس في تجربة بارت سيلمان، الباحث بمجال الحاسوبيات من جامعة كورنيل الواقعة بمدينة إثاكا في ولاية نيويورك الأمريكية، والذي أسهم في كتابة تقرير الجمعية. يستخدم سيلمان وكيلًا على حاسوبه المحمول لمساعدته في الحسابات الرياضية وكتابة الأكواد البرمجية، لكنه يقر بأنه لا يعرف كل شيء عن آليات عمل هذا الوكيل. وهو ما أوضحه بقوله: "ثمة احتمالية لأن يكتشف هذا الوكيل بيانات تسجيل الدخول الخاصة بي على خدمات «أمازون كلاود» Amazon Cloud، ومن ثمّ يبدأ في تنفيذ تجارب دون علمي، ويبدأ ببساطة في إنفاق نقودي".
وقد أكَّدت أسئلة واردة في الاستطلاع على أنه لا تزال هناك مناطق غموض داخل مجال الذكاء الاصطناعي، من بينها عدم وجود تعريف مؤكد لماهية "التفكير المنطقي". ومثلًا، حين سُئل المشاركون في الاستطلاع: "في اعتقادك، متى قد يصل نموذج مستقل تمامًا من أدوات الذكاء الاصطناعي البحثية إلى اكتشاف علمي رائد يستحق عنه جائزة نوبل؟"، كانت الإجابة الأكثر شيوعًا بينهم: "لا أعلم".
اضف تعليق