هنالك مفارقة صاحبت تعطل النظام العالمي جديرة بالوقوف والتأمل، فالإنسان الذي قدم التضحيات وناضل وخاض حروبا وتصدى لسيل من التحديات من اجل التحرر والانعتاق من العبودية التي حاصرته لآلاف السنين، لكنه عاد يخلق بنفسه قفص افتراضي لا يمكن الخروج من قضبانه، فهو بذلك رسخ العبودية التكنولوجية...

هكذا وبصورة مفاجئة دخل العالم من أقصاه الى أقصاه بحالة غير متوقعة، تعطلت فيها الملاحة الجوية، وتوقفت القطارات عن العمل، وخرجت بعض الأنظمة الصحية عن الخدمة، هكذا يمكن وصف المشهد ببساطة بعد أن أصدرت شركة الأمن السيبراني الأمريكية "كراود سترايك" تحديثاً خاطئا لأحد برامجها أثّر على نظام التشغيل "مايكروسوفت ويندوز".

لا يهمنا اعتذار الرئيس التنفيذي لشركة "كراود سترايك" عن هذا الخلل، الذي جاء فيه الاعتذار إنه جرى إصدار إصلاح للخلل، وقد يحتاج لمزيد من الوقت، لكن ما يهمنا هو التفكير بالخروج من الهيمنة الرقمية او كما يمكن تسميتها بالعبودية التكنولوجية.

عودة بعض الخدمات الى طبيعتها بعد التوقف وإلغاء آلاف الرحلات الجوية، لا يمكن ان يغطي حالات الفوضى التي عمّت، التي استغلها بعض قراصنة التكنولوجيا، فتم اختراق الحسابات البنكية تماما، كما يحدث بسرقات البنوك والمحلات خلال فترات الفوضى وانقطاع الكهرباء.

حادثة توقف نظام التكنولوجيا العالمي اكدت قضية مهمة جدا وهي ان الماضي سيبقى يلاحقنا ولا خلاص منه، ومن المشاهد اللافتة للنظر أن المطارات استعانت بألواح خشبية أو بيضاء، عليها كتابات يدوية بأقلام ملونة، كما في الفصول المدرسية قديما، ترشد المسافرين الى مسارات الطائرات، وأرقام الرحلات، ومخارج ومداخل المغادرة والوصول.

والمعنى الآخر لهذه الممارسة ان العالم مهما بلغ من التطور والتقدم عليه الا ينسى الأساس الذي انطلق منه والفضاء الرحب الذي وصل اليه، اذ وجد العالم نفسه مضطرا للعودة الى فطرة الواقع حين خذله التقدم الافتراضي بما يملكه من برامج وأدوات وتطبيقات.

هنالك مفارقة صاحبت تعطل النظام العالمي جديرة بالوقوف والتأمل، فالإنسان الذي قدم التضحيات وناضل وخاض حروبا وتصدى لسيل من التحديات من اجل التحرر والانعتاق من العبودية التي حاصرته لآلاف السنين، لكنه عاد يخلق بنفسه قفص افتراضي لا يمكن الخروج من قضبانه، فهو بذلك رسخ العبودية التكنولوجية.

وليست هي المرة الأولى التي تتخلى فيها التكنولوجيا عن نصرة الانسان المتشبث فيها بكل ما اوتي من قوة، فقد حدث حالات مماثلة أربكت مناطق متعددة من العالم، لكن ما حصل في التاسع عشر من الشهر الجاري جاء بلون مختلف هذه المرة، ويتمثل هذا الاختلاف في اتساع دائرة التأثير ليشمل أكثر المرافق حيوية على مستوى العالم.

وقد تناول الفيلسوف مارتن هايدغر موضوع التقنية من حيث حقيقة التهديد الذي تشله للأفراد، والمُتمثل في الاستلاب الحقيقي لحرية الإنسان، فهو يرى أن التقنية ترهن الإنسان الى درجة لا يستطيع معها أن يتصور الوجود من دونها، بحيث أصبح الإشكال كامنا في عدم إمكان استعادة الوجود لفطرته، التي كان يتمتع بها قبل ظهور التقنية، ومن ثم استعادة حريته المسلوبة من جديد.

قد لا ينكر أحد على الإطلاق ما حققته التكنولوجيا من جودة في الحياة والخدمات، صحية كانت أم تعليمية أم على مستوى التواصل والاتصال والتنقل، لكنها قطعا دون أدنى شك تملك في طرفها الآخر خطرا فعليا، تماما مثل العجلة التي تحملنا من منطقة الى أخرى، وتتسبب بمقتل العشرات من الأشخاص في الوقت نفسه.

لم يهتد الانسان حتى الآن لتضع مؤشرات دقيقة تشير الى مسار الصراع بين الإنسان والآلة، بحسب المتاح اليوم، نكاد نجزم بأن الآلة في طريقها للسيطرة على الإنسان، وأن التكنولوجيا قد تفوقت بشكل كبير وعلى الأقل في المرحلة الراهنة، حتى إن بعض الدراسات أصبحت تتنبأ باحتمالات تتجاوز الخمسين بالمئة، بأن الآلات ستتفوق على البشر في العقود القريبة المقبلة.

فهل يتحرر الانسان من قفص التكنولوجيا؟

اضف تعليق