اليوم تظهر بيننا كراهية من نوع آخر، كراهية ربما يصح لنا أن نطلق عليها تسمية (الكراهية الإلكترونية)، ويتجلى ذلك في لغة الكراهية التي انتشرت بين الأدنى في مستوى الثقافة والوعي وضحالة الفكر، وظهرت لغة الكراهية والتطرف بصوتها الناشز لتحتل مساحة كبيرة من العالم الافتراضي، فما أن تُعرض ظاهرة مختلفة لا تروق لطبقة أو شريحة معينة...
الكراهية صفة أو حالة شعورية، تنتج في بيئة متناحرة، تنتشر فيها تقاليد وقيم بائسة، وتسودها حالات الظلم والعسف، مما يتولد عنها شعور متفاقم من الكراهية، يقود مع مرور الزمن إلى سلوكيات عنيفة ومؤذية تخلخل البناء الاجتماعي، وتضعف العلاقات الإنسانية، وتعمل بالنتيجة على نشر الفوضى والاضطراب.
العلماء والفلاسفة والمفكرون الصالحون، يعملون دائما على كبح جماح هذه الظاهرة التي أخذت بالتزايد في عصر العولمة والانفتاح الإعلامي الكاسح، وبعضهم يبرر هذه الموجات من الكراهية بالقول، أنه في كل ابتكار أو اختراع محدث، تنتظر البشرية إضافة نوعية تزيد مستويات العقل عمقاً وأناة، خاصة إذا يصبّ المبتكَر في مجالات حيوية، كالفكر الحيوي الجديد والحوار المتوازن والاجتماع والوصول إلى ثقافات كانت محتجبة أو عسيرة على المتلقي.
من أسباب الكراهية ظاهرة التفاوت بين الناس، والتفاوت نفسه يمكن أن يكون طبقيا، اقتصاديا أو سياسيا وعلميا وحتى ثقافيا، وهذا ينعكس على طبيعة البنية الاجتماعية والعلاقات التي تربط بين الشرائح المختلفة، خاصة إذا كان التفاوت الطبقي ينخر بنيتها وكينونتها، ولهذا نلاحظ وجود هوّة فاصلة عميقة بين طبقة الحكام والمحكومين في الدول المتهالكة، كذلك نلاحظ وجود فجوة فاصلة بين الأغنياء والفقراء.
الدفع بالناس نحو الفوضى
هنا يحدث نوع من التخلخل الاجتماعي، يضرب جذور القيم، ويدفع بالناس إلى الفوضى، وتزداد الكراهية إلى درجة التصادم، فمجرد أن يجد الإنسان الذي يشعر بالغبن والكراهية فرصة لإلحاق الأذى بغريمه لا يتورع عن ذلك ولا يتردد قيد أنملة.
وهذه ما لاحظناه عند سقوط النظام السابق سنة 2003، حيث هجوم الملايين من الفقراء المكبوتين على ممتلكات الدولة ودوائرها الرسمية، ولم تكتف حملات الكراهية بذلك، بل راحت أعداد من الناس يشنون هجمات على بيوت الأغنياء، وحدث أعمال نهب وسلب، وكلها كانت نتيجة للشعور بالظلم والغبن والكبت والتفاوت الطبقي بين الناس.
اليوم تظهر بيننا كراهية من نوع آخر، كراهية ربما يصح لنا أن نطلق عليها تسمية (الكراهية الإلكترونية)، ويتجلى ذلك في لغة الكراهية التي انتشرت بين الأدنى في مستوى الثقافة والوعي وضحالة الفكر، وظهرت لغة الكراهية والتطرف بصوتها الناشز لتحتل مساحة كبيرة من العالم الافتراضي، فما أن تُعرض ظاهرة مختلفة لا تروق لطبقة أو شريحة معينة، حتى تنبري لها شريحة أخرى معلنة عليها حرب التشهير والمقارعة، وسرعان ما ينتشر لهيب المعركة الإلكترونية ليشمل جيوشا كبيرة ضمن ما يسمى اليوم بالجيوش الإلكترونية.
ولكن في كل الأحوال هذه الظاهرة لا يمكن لها أن تنمو بهذه الشاكلة الخطيرة إلكترونيا، لو لا وجود جذور قوية لها في الواقع الاجتماعي، وهذا يعني أن البنية الاجتماعية لمجتمعنا تقدّم الدعم لمثل هذه الحملات في العالم الإلكتروني، بمعنى هنالك تمهيد للكراهية في الواقع الاجتماعي، قبل أن تنتقل هذه الظاهرة إلى العالم الإلكتروني لتتحول إلى كراهية إلكترونية عارمة.
كيف نتصدى للكراهية؟
لذلك فإن ما يؤسَف له أن الكثير مما يدور في الواقع الافتراضي، يبدأ التمهيد له في الواقع، وكثير من حالات التصادم والتشنج الاجتماعي تحولت بفعل الكراهية من العالم المفترَض إلكترونيا إلى حياة الناس، والخطورة كلها تبرز جلية بين أناس ينساقون كالقطيع وراء مشاكل لا علاقة لهم بها، وليسوا هم أحد أطرافها ومع ذلك ينساقون في حالة من العماء العجيب، فيدخلوا في موجات الكراهية مع أنهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
أما اللغة التي تدور عبرها الحوارات، فهي لغة سوقية غاية في الصفاقة وغاية في السوء والابتذال، وكأن الانصر لهذا الطرف أو ذاك يُعقَد على قدر البذاءة التي تحملها لغة هذا الطرف أو ذاك، مع أن اللغة لها دورها المتسامي الكبير في تنسيق التفاهم البشري والتقريب بين القلوب والناس معا، وليس زرع الكراهية فيما بينهم عبر اللغة التي يجب أن تترفع عن القيام بمثل هذا الدور الذي لا يليق بها وبمهمتها المتسامية.
ولكن عندما نبحث عن جذور هذه اللغة، وهذه الحوارات الهابطة التي تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، سوف نجد لها للأسف حضورا في الواقع، وهذا ما يؤكد أن مشكلة الكراهية لها جذور في الواقع الاجتماعي الأصلي، ومنه تنطلق حملات الكراهية الإلكترونية، وهذا يعني أننا جميعا، لاسيما أصحاب الشأن والقرار، يجب أن نسعى إلى معالجة الأسباب في الواقع الفعلي أولا، أي قبل أن تستفحل هذه الظاهرة وتتسلق صفحات العالم الافتراضي.
اضف تعليق