في كتابه المبرمجون Coders، يحُثنا كليف طومسون على أن نولّي المزيد من الانتباه لهذه القوة الخفية بدرجة كبيرة – فتُرى مَنْ أفرادها؟ وكيف يفكِّرون؟ وما تأثيرهم علينا أو على المجتمع؟ - واصفًا إياهم بأنهم: مِن ضمن أكثر المؤثرين في صمت على سطح الكوكب...
بقلم: لي جونج
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، صاغ مارك وايزر، وكان وقتذاك المدير التقني في مختبر الأبحاث الأمريكي الشهير زيروكس بارك Xerox PARC، مصطلح «الحوسبة كُلّية الوجود»، الذي أصبح الآن حقيقة واقعة؛ فأيّ منزل عادي في البلدان الأكثر ثراءً، ربما يحوي ما بين 50 إلى 100 معالج دقيق، كمكوّن لكل شيء، بدءًا من أجهزة التلفاز والثلاجات، وصولا إلى الهواتف النقالة وبطاقات تعريف الحيوانات الأليفة. وكلُّ معالج من هذه المعالجات يعتمد على البشر الدؤوبين الذين يضخون ملايين الأسطر من أكواد البرمجيات، التي باتت في نهاية المطاف توجه مشاعرنا، وتُملي علينا سلوكياتنا، بل وتتلاعب بالانتخابات الرئاسية.
في كتابه «المبرمجون» Coders، يحُثنا كليف طومسون على أن نولّي المزيد من الانتباه لهذه القوة الخفية بدرجة كبيرة – فتُرى مَنْ أفرادها؟ وكيف يفكِّرون؟ وما تأثيرهم علينا أو على المجتمع؟ - واصفًا إياهم بأنهم: «مِن ضمن أكثر المؤثرين في صمت على سطح الكوكب». ومن بين الشخصيات المهمة التي أجرى معها طومسون مقابلات شخصية – من أجل إعداد هذا الكتاب - مبتكري العديد من التطبيقات البرمجية البارزة التي نستخدمها اليوم، مثل فيسبوك وتويتر وإنستجرام. كان طومسون - الصحفي المتخصص في التكنولوجيا، الذي يكتب بصفة منتظمة في مجلتي «نيويورك تايمز» The New York Times و«وايرد» Wired - مدفوعًا بملاحظته أنه على مرّ التاريخ، تصبح بعض المهن فجأة ذات أهمية بالغة، وتؤثر تأثيرًا هائلًا على مجتمعنا.
خلال حرب الاستقلال الأمريكية، في أواخر القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، استند حكم الأمة الناشئة على مجموعة من القوانين انطلقت من المبادئ الأولى: الدستور. وهكذا هيمنتْ مهنة الاشتغال بالقانون على الخطاب المدني (من ناحية ما، يمكن النظر إلى الآباء المؤسسين، على أنهم كانوا مبرمجي عصرهم، إذ صاغوا نظام التشغيل، أو على الأقل وضعوا نواة الديمقراطية الأمريكية)، وعلى نفس المنوال، أصبح المهندسون المدنيون والمهندسون المعماريون، ومخطّطو المدن، صنّاع القرار خلال الثورة الصناعية، أما الآن فقد حان وقت المبرمجين.
هذا الكتاب آسر، فطومسون كاتب ممتاز، ومواضيعه ذاتها تمسك بتلابيب القارئ. يناقش طومسون، كقاعدة عامة، أن المبرمجين هم أشخاص متفائلون، يقضون الجزء الأكبر من أوقات عملهم، ليس في كتابة أكواد جديدة، وإنما في التنقيح البرمجي، ومن ثمَّ من الضروري أن يظلوا متفائلين، للتغلب على الإحباطات التي لا تنتهي. ويشرح طومسون أسباب عدم ميل المبرمجين لاستخدام الفأرة، وتفضيلهم استخدام اختصارات لوحة المفاتيح (إذ إن التوجيه والنقر، يتطلب استخدامًا غير فعّال لحركة اليد، وقدرًا إضافيًا من تآزر العينين). نلتقي في الكتاب مع المبرمج جيسون هو، الذي عندما نوى تجربة أفضل مطاعم النودلز في المدينة، صمم برنامجًا لرسم خريطة تُبيِّن أقصر الطرق إلى كل مطعم من تلك المطاعم، حتى يتمكن من زيارة أكبر عدد ممكن منها. وهاك روب راينهارت، الذي يعتبر تناول الطعام مضيعة للوقت ومن ثمَّ طور بديلًا للوجبات أطلق عليه اسم «سويلنت» Soylent (كلمة مستعارة من رواية الخيال العلمي «أفسحوا المجال! أفسحوا المجال!» Make Room! Make Room!، التي كتبها هاري هاريسون عام 1966، واصفًا إياها بـ«الوجبة المُثلى في نهاية المطاف». كذلك نقرأ عن مبرمج انفصل عن صديقته بقوله: "ليس لدي مساحة كافية من البيانات".
يُخصِّص طومسون نصف الكتاب لتناول السمات الشخصية الشبيهة، إلى جانب الأنماط السلوكية للمبرمجين ونفسياتهم. كان من الممكن لهذا أن يُعطي انطباع القوالب النمطية العتيقة، لكن ما يفعله طومسون بشكل مختلف، أنه يقترب للغاية من الأشخاص الذين يكتب عنهم، يصبح الأمر أشبه بالمكافئ السردي لتقنيات التصوير بالألوان الطبيعية، والتصوير ثلاثي الأبعاد، والفحص المجهري. فعلى الرغم من أن بعض السمات، مثل الفضول والتفكير المنطقي، وتوخّي الدقة والإمعان في التفاصيل، تشيع أيضًا في مهن مثل القانون والسطب وإدارة الشئون المالية والرياضة، فإن نسبة عالية من المبرمجين يتحلون بهذه الميّزات، وغالبًا هذا هو ما يميز البرمجة عن غيرها.
يستكشف طومسون كذلك جوانبَ أكثر جدية وإثارة للجدل في مهنة البرمجة، فهو يُحلّل الميول السياسية، ويصل إلى أنه رغم أن المبرمجين يبدو عليهم الميل إلى المُثل الليبرالية العليا، فإن كثيرًا منهم يعتنق مزيجًا من الأفكار اليسارية واليمينية. ويناقش باستفاضة مسألة التنوع، أو عدم وجوده، في مجال الحوسبة ككل، ويسجل الانخفاض الحاد في عدد النساء المشاركات في البرمجة على مدار العقود الماضية، ويكشف في شغف زيفَ فكرة أن البرمجة تعتمد على الجدارة، مشيرًا إلى التعليم والحظ، باعتبارهما عاملين أساسيين يسهمان في النجاح. كما يغوص في أعماق ثقافة القرصنة الإلكترونية وأدب الخيال العلمي المُسمى «السايبربانك»، وكذلك حروب «التشفير الرقمي» التي حاولت فيها الحكومات فرض قيود على الوصول إلى تقنيات التشفير القويّة، بالإضافة إلى قضايا مثل حقوق النشر، والخصوصية.
يبحث طومسون كذلك في موضوعات أكثر معاصرة، مثل التحيّز العرقي في الذكاء الاصطناعي، ويستكشف التأثيرَ السلبيَ لوسائل التواصل الاجتماعي على المجتمع والديمقراطية، فعلى سبيل المثال، أسهمت التغذية الإخبارية على موقع فيسبوك، عن غير قصد، في حملات تضليل خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 (). أما الأمر الذي ينذر بالمزيد من الخطر، فيتمثل في اعتمادنا على تكنولوجيا المعلومات، بدءًا من التوصيات الخوارزمية للتغذية الإخبارية، وصولا إلى أنظمة التصويت الإلكترونية التي تحسب الفائزين بصورة غير شفافة. تعتمد سلاسة سير العمل في العالم على مبرمجين يكتبون أكوادًا محكمة وآمنة، لكن هذا ليس أمرًا كافيًا ولا مضمونًا.
غطّى عديد من الكتب هذا المجال، لكن كتاب «المبرمجون» يواكب العالم سريع الحركة الذي نعيش فيه. نلتقي بعضًا من أبرز الشخصيات في هذا المجال، مثل برام كوهين، مبتكر «بت تورنت» BitTorrent. علاوة على ذلك، يكشف طومسون، بالجمع بين عملياته البحثية الخاصة والمواد التي استقاها من المصادر الغزيرة المطبوعة والإلكترونية، عن بعض التفاصيل الطريفة مثل قميص مطبوع عليه عبارة: "فكِّر في الشر، افعل الخير" (التي يمكن أن تعني، على سبيل المثال، أنك لكي تكتب نظامًا آمنًا، عليك أن تعرف كيف سيحاول "الأشرار" اقتحام هذا النظام).
بصفتي عالم كمبيوتر، ومبرمجًا سابقًا، وجدتُ الكثير من فقرات الكتاب ترسم ابتسامة هادئة على وجهي، وتثير بداخلي لحظةً من تقدير الذات. يمكن للأشخاص الذين يحتكّون بالمبرمجين بشكل روتيني، مثل الزملاء أو الأصدقاء أو أفراد نفس العائلة، الاستفادة بشكل هائل من هذه الأفكار. يمكنني تخيل أن يطلب المديرون التنفيذيون نسخًا كثيرة من هذا الكتاب لموظفيهم.
من المثير للاهتمام، أن المبرمجين أنفسهم يمكن أن يستفيدوا أكثر من الكتاب، فهم يعرفون بالفعل المصطلحات الفنية المستخدمة بين دفتيه، كما أنهم سيستمتعون بالتشبيهات (فمثلا «إعادة هيكلة البرمجيات دون تغيير السلوك الخارجي تشبه تحرير مقال صحفي»)، وربما يساعد هذا الكتاب المبرمجين على فهم أنفسهم بدرجة أفضل قليلًا، وربما يُهدون الكتاب لأحبّائهم مرفقين به رسالة تقول: "اقرأ هذا! هذا أنا!"
اضف تعليق