في كل ابتكار أو اختراع محدث، تنتظر البشرية إضافة نوعية تزيد مستويات العقل عمقاً وأناة، خاصة إذا يصبّ المبتكَر في مجالات حيوية، كالفكر والحوار والاجتماع والوصول إلى ثقافات كانت محتجبة أو عسيرة العرض والوصول، في بزوغ العالم الإلكتروني، أطلّت الثقافات البعيدة دفعة واحدة، وصارت في متناول العيون والأيدي والعقول، يعرضها عالم قيل عنه أنه غير واقعي ولا ينتمي للحقائق.
لم يتخصص العالم المبتكَر بطبقة دون غيرها، ولم يخصَّص للنخبة أو العلماء أو ذوي المستويات العلمية الثقافية الفنية العالية، إنه عالم الجميع، وقيل أن هذه الميزة أهم ما يمتاز به عالم شبكات التواصل الاجتماعي، فقد وضع الجميع حيالَ أنفسهم وجها لوجه، وتداخلت المستويات الفكرية والثقافية مع أدنى درجات العقول وعيا، فظهر الفكر المتسامي والمتدني، وتداخلت المستويات، وسادت ثقافة القطيع والانفعال، وربما تراجعت ثقافة العمق والتوازن أو انكمشت على نفسها.
يتجلى ذلك في لغة الكراهية التي انتشرت بين الأدنى في مستوى الثقافة والوعي وضحالة الفكر، وظهرت لغة الكراهية والتطرف بصوتها الناشز لتحتل مساحة كبيرة من العالم الافتراضي، فما أن تُعرض ظاهرة مختلفة لا تروق لطبقة أو شريحة معينة، حتى تنبري لها شريحة أخرى معلنة عليها حرب التشهير والمقارعة، ومن أشد الأخطار والنواقص التي تفرزها، تلك الكراهية وبث سموم الاحتقان، ليشتعل الواقع كله بكراهية تلتهم بنارها اليابس والأخضر.
صحيح أوجدت لنا هذه المواقع إعدادات حضر وحذف وإلغاء بدرجات متباينة، يمكن للزبون اللجوؤ إليها واستخدامها متى يريد وكيف يشاء، ولكن هل يساعد هذا في تنقية الواقع، وهل يجعل الحقيقة أحسن، إن مجرد القيام بجولة متفحصة كي نعرف الحوارات والتعليقات والأسئلة والردود بين المستخدمين المتحاورين حول قضية مختلَف عليها، سوف نفهم بجلاء الفارق الهائل بين الفكر الرصين المتوازن وذلك الذي ينغمس في الكراهية حد الاحتقان.
فتثور ثائرة القطيع، وتشتعل صفحات المستخدمين الأضداد بنيران الكراهية والتطرف، مجسَّدة بكلمات حادة كريهة تنز بالأحقاد، والخطر فيها قدرتها على الانتقال السريع من الافتراض إلى الواقع، فتصير هذه المواقع عوامل مساعدة لنشر الكراهية، على حين أن المخطّط لها جعل بني البشر أقرب إلى بعضهم البعض، وأكثر في الحرص على التقارب، لكن الذي يحدث عكس ما مخطط له، فتصبح هذه السلوكيات المصبوغة بجمل وكلمات الكراهية، عبئاً على الناس، وهي مصممة كي تقارب فيما بينهم، الكراهية هنا أضعفت الأواصر وقطّعت الوشائج بين المتخاصمين، وهم ليسوا كذلك، فكل ما في الأمر اختلاف في الرؤية لا أكثر.
ومما يؤسَف له أن ما يدور في شبكات التواصل سيجده الناس على الأرض، وكثير من حالات الاحتراب تحولت بفعل الكراهية من العالم المفترَض إلى حياة الناس، والخطورة كلها تبرز جلية بين أناس ينساقون كالقطيع وراء مشاكل لا علاقة لهم بها، أما اللغة التي تدور الحوارات عبرها فهي غاية في السوء والابتذال، وأقل ما يمكن القول فيها بأنها غاية في الرداءة والابتذال، وقد تحدث هذه الآراء والتجمعات المتصادمة من دون سابق تخطيط، وربما تبدأ من قدح ضئيل ليتحول إلى محرقة شاملة تتمدد بفعل الكراهية كالنار في الهشيم.
من زاوية أخرى لا يمكن محو لطائف المواقع هذه، ولا يجوز في أي حال إلغاءها، فما هو في صالح البشر حاضر، يؤكد وجوده، ويعلو صوته، إلا أننا نطمح بجعل العالم الافتراضي في مواقع التواصل شبكة من الروابط الجامعة بين العقول والتوجهات والأفكار، وليس وسائط تفريق بينها، نعم في سجايا الإنسان تناقضات حادة، والثقافات كأسنان المشط، لن تتساوى ولا تتشابه في شكلها أو وظائفها، ولكن في المقدور جعل هذه الشبكات الجامعة منافذ إلى ما هو أجود.
صنع مجتمع متجانس خالٍ من الكراهية هدف لا يدخل في دائرة المحال، تساعد هذه المواقع الاجتماعية في جوانب عدة على:
- اختصار المسافات الفاصلة بين المختلفين
- تذويب العوائق
- فتح أبواب الحوار والنقاش بتأنٍ وهدوء
- الحفر في القضايا المستعصية بلا تعصّب
- مناقشة البدائل دونما تخوّف أو خشية مبالّغ بها
لن يصبح هذا الهدف مستعصيا لو تعامل المتحاورون مع بعضهم، مع التجرد من الكراهية، المواقف المسبقة، سوء الظن، اعتماد لغة دقيقة متحابة، إشعار الآخر بالثوابت، أو كما تسمى عند البعض بالخطوط الحمر، وتفهّم مقاصده بعد التوغل فيما لديه من أفكار وآراء وتفحّصها، فالفهم الثنائي يطيل بعمر الحوار، وينحو بالمتحاورين إلى نواحٍ مفهومة متجانسة، حتى وإن اختلفت، ستبقى تقرّ بالاختلاف بلا إكراه ولا كراهية.
سوف يُقال ثمة تماثل بين عالمي الحقيقة والافتراض، وهذا وارد وشاخص فعلي، ولكن كان المأمول أن تخفف مواقع وشبكات التواصل من عنصر الكراهية وسطوتها، لا تأجيجها، وإشعال نيرانها ونشرها إلى آماد بعيدة، كما يجري الآن في أحايين متتالية، باتت هذه الشبكات نقاط تأجيج وليس تخفيف أو إطفاء أو تقليل لمصادر الاحتقان.
مهمة ذوي العقول الراجحة، تنقية شبكات التواصل من الكراهية، بعد أن فهم الجميع وأقرّ بأن لا خلاص منها، إلا إذا اخترنا العزلة عن العالم كله، وهذا لا ينسجم مع واقع الحال عالميا، قد تجد الأنظمة السياسية الدكتاتورية في إلغاء المواقع الاجتماعية متنَفَّساً لها، لأنّ ذلك ينسجم مع أنساقها الفكرية والنفعية، ولكن ليس من الذكاء أن نمنحها هذه الفرصة، لا يوجد عاقل في العالم كله يزجّ نفسه في سجن عازل ثم يتوق إلى الحرية.
العقول النخبوية القيادية، يقع عليها العبء الأكبر في تنقية لغة وآراء ومشكلات الشبكات الاجتماعية من الكراهية والتعصب، وهي من يتصدى لمهمة دحر وإضعاف الحوارات السوقية، كما أنها هي التي تجازف بنشر وتطبيع ثقافة الاختلاف، وصحّتها، ووجوبها، فأن يختلف الناس وتتعدد آراؤهم أحسن بكثير من أن يتسيّد عليهم رأي أحادي يجري بهم إلى الضفة التي تروق له هو وحده، ويبقى النسبة الأكثر تحت رحمته، عندها يُصار من شبكات التواصل عناصر في خدمة العقول والمجتمعات تخلو من الكراهية.
اضف تعليق