أنهكها التعب وخابت ظنونها وتهرّأتْ كسفينة ورقية عند شاطئ البحر، لم تعد تعرف بأية لغة يجب أن تتكلم مع هذا الجيل! باتت كل الطرق تؤدي الى الفشل وتقضي على أفكارها المتشتتة، إنها امرأة ستينية وهي والدة مجتهدة تطلب المساعدة وتستجدي العطف والرحمة من ابنتها الوحيدة، لكن البنت لم تكن تعبأ بحبات العرق التي كانت تصب كاللؤلؤ الثمين من ذلك الجبين، ولم تشعر بتلك العبرة التي كانت تخنق والدتها بوحشية وذلك الظهر الذي انحنى من جور الزمان، وبينما كانت الوالدة تكرر طلبها بخجل، ظهرت آثار الضجر على وجه تلك الاقحوانة الجميلة، فقد كانت البنت مشغولة بكتابة أجمل نص أدبي عن الأم في الفيس بوك، ومما جاء في هذا النص أو (البوست):
"أعشق تقبيل رأسها فقد قضت عمرها لتوفر لنا السعادة، يؤلمني تعبها، يكسرني حزنها ويرهقني خوفها، حتى نسمة الهواء لا أريد أن تمسها بأي ضرر مهما كان قليلا، يا رب أنا لا أخاف الموت بقدر ما أخاف أن أعيش بلا أمي يوماً".
حصلت البنت على ألف لايك في ذلك العالم المجازي، واندهش الجميع من وفاء البنت لأمها وعمق وعقلانية تصرفاتها النبيلة تجاه والدتها التي كانت في الواقع قد أنهت جميع أعمال البيت بمفردها كالعادة مع ألف قصة حزن وألم، في حين كانت البنت تساعد أمها وتخدمها في عالم المجاز فقط!.
وبينما كان الرجل الستيني يعمل بجد ليحصل على قوت يومه في دكانه داخل السوق، كان ابنه العشريني جالسا على الكرسي يقلب الصور في جهازه الذكي ليختار صورة فريدة ينشرها على الفيس بوك، كرر الوالد طلبه لمرات متتالية كي يساعده ابنه في العمل، ولكن دون جدوى، ابتسم الرجل ابتسامة غريبة مُرّة وكأنه أعلن عجزه وخسرانه، أخذ نفساً عميقاً بعد ان هزّ رأسه خائباً من قسوة المنظر وقام بذلك العمل بمفرده كأنه لم يكن أي أثر لذلك الولد أصلا في الوجود.
لكن ذلك الولد حصل أيضا على آلاف اللايكات عن تلك الصورة التي نشرها على الفيس بوك وكانت الصورة لعجوز في عمر والده تماماً تُبين آثار قسوة مخالب الحياة على وجهه، وهو يحمل على ظهره كيسا كبيرا يجعل الناظر يتأسف لقسوة المنظر وكان الكيس يشبه ذلك الذي حمله أبوه بمفرده وهو يستجدي العطف والرحمة من ابنه الذي نعته الجميع بصاحب القلب الطيب والولد البار!، فهو يقف مع أبيه في العالم المجازي أو الافتراضي ولكن في الواقع لا يقدم له أية مساعدة تُذكر.
وفِي موقف آخر تكلم الرجل بأعلى صوته عن الحب وحق المرأة والاهتمام بالأنثى وعشقته كثيرات وتمنى كل واحدة أن تكون في مكان زوجته وجلست تفكر بعيشها الرغيد مع ذلك المتكلم، ولكن عاد الرجل إلى البيت ودخل الى غرفته ولم يبدِ أي اهتمام بتلك الزوجة التي كان قلبها يتلظى من عطش الحب ويهوى كلمة جميلة من زوجها المثالي، ولكن بلعت ماء فمها بصعوبة وكأنها تجرع كأس المنية، فهو يطلق أجمل الكلمات في عالم المجاز الافتراضي ولا يقول لزوجته في الواقع أي شيء يرفع معنوياتها ويقلل همومها.
في الحقيقة إنها تموت في كل يوم مئات المرات عندما تسمع ذلك الكلام الجميل من وراء الشاشة وفي عالم المجاز فقط، وترى كثرة الاعجابات في مواقع التواصل الاجتماعي، عندئذ تصطدم بحياة فارغة بسبب تلك الأحاسيس وتلك الكلمات الفريدة من نوعها، فهي موجود في العالم الافتراضي ومفقودة في واقعها.
في موقف آخر، فقدَ الطفل المتسول آماله بينما كان مرمياً على قارعة الطريق ليكد ويحصل على قوت يومه وبدأ ذلك الرجل الإعلامي يصوره ليحصل على أروع لقطة تحاكي قسوة الحياة، كي يجني من ورائها الكثير من الإشادة والأرباح، فيما تعض تلك الأخرى شفتاها من قسوة المنظر وتصوره لتحصل على لايكات في حسابها الخاص وذلك الآخر يدق الاقتراح جرس عقله لينتج فلما قصيرا يحاكي آلام المجتمع ويجني من وراء ذلك الملايين، نعم فقد آماله لأن واقعه ضاع في عالم المجاز ولم يعد مكانا يتسع له .
يا ترى كم شخصا منا ترك الواقع وضاع في ذلك العالم المجازي الكبير، عالم الافتراض الذي ليس له حقيقة؟ يا ترى كم فقيرا مرّ من جانبنا وكنّا مشغولين بأن نسجل إعجابنا على صورة الفقراء على الفيس بوك او مواقع التواصل الأخرى؟ وكم مرة تركنا أطفالنا يتحملون الوحدة، وصرخنا عليهم بأعلى أصواتنا، لأنهم لم يعرفوا أن يطلبوا العناق إلا في الوقت الذي كنا فيه مشغولين بجهازنا الذكي؟.
أما حان بنا الوقت كي نمعن النظر في علاقاتنا الأكثر حرارة وحضورا ونعود إلى الواقع الذي نعيشه قليلا؟ إن أجمل رسم هندسي يقوم به الإنسان، هو أن يبني جسرا للأمل فوق بحر اليأس، ويعلو فوق واقعه المر الذي يعيشه ويعرف قدر الأشياء قبل انقضاء صلاحيتها. إن المسكين الأوحد هو مَن ضاع عمره في عالم مفترَض لم يغير من واقعه شيئا، فتفوته مكاسب الدنيا ويخسر خيرات الآخرة، فيذهب مُفلساً من أي شيء. أما حان الأوان لنلقي بالأوهام جانبا ونصادق الواقع من جديد؟:
خذ ما استطعت من الدنيا وأهليها....... لكن تعلّم قليلاً كيف تعطيها
إن كانت النفس لا تبدو محاسنها في اليسر صار غناها من مخازيها.
اضف تعليق