يتجّه عالمنا في المرحلة الحالية نحو المنهج المادي الصرف، فيما يدور صراع متأجج بين القيم الروحية المعنوية مع المنهج المادي الذي يسعى المروجون له والمتمسكون به الى نشره في العالم، على حساب الفكر والقيم الأصيلة، ومن نتائج هذا الصراع المحتدم مظاهر ومؤشرات الاحتقان التي أصابت عالمنا في الصميم، حيث الانتشار المتصاعد للفكر المتطرف، والتعصب، مقابل تراجع الاعتدال في محاولة واضحة لتدمير منظومة القيم الإنسانية التي من شأنها خلق التوازن بين سكان العالم، الأمم والشعوب والدول كافة.
إن النزعة المادية المتصاعدة، وهذا التكالب غير المسبوق للتفوق المادي على حساب الروحي المعنوي، يمثل الخطر الأكبر على الإنسان، لاسيما أن كل ما يتعارض مع فطرة الإنسان يقوده الى صراعات لا تتوقف عند حد، تقود العالم الى حالات مستمرة من الاحتراب والاحتقان، بسبب رفض الفطرة الإنسانية لأية قيمة أو سلوك لا يتسق معها، وهذا بالضبط هو السبب الأول الذي يقف وراء الاضطراب الذي يعيشه عالمنا اليوم.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (من أسباب ضعف المسلمين) حول هذا الموضوع: (لقد رأى العالم كيف تموت المبادئ غير الصحيحة والتي تخالف فطرة الإنسان، فلم تنتشر إلا في ظروف خاصة يحكمها الجهل حتى إذا ما وعت الشعوب ولو بعد مضي سنوات أو قرون نبذوها وراء ظهورهم).
ومما زاد الطين بلّة سيطرة أنظمة سياسية فردية، وحكام طغاة على مقاليد السلطة ووصلوا الى سدة الحكم في معظم الدول الإسلامية والعربية خلال حقب تاريخية طويلة، وهذا أدى بالنتيجة الى إضعاف المسلمين، وجعلهم في نهاية ركب الدول التي سعت كي تكون في المقدمة دائما.
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي في هذا المجال بكتابه نفسه: (إن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هو نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهده ونلمس آثاره حتى اليوم).
لماذا تقدم علينا الغرب؟
في الوقت الذي بدا التراجع واضحا بين المسلمين، بسبب ضعف القيم، وانحسارها وتقوقعها، وعدم الأخذ بها كما هي، فقد أدى ذلك الى خلق فجوة واسعة بين المسلمين وبين من سبقوهم الى التقدم، فالغربيون مثلا، أخذوا جوهر أفكارهم من مبادئ المسلمين التي تضمنها القرآن والسنة النبوية وأفكار أئمة أهل البيت عليهم السلام، ثم قاموا بتطبيقها بصورة عملية في إدارة شؤونهم السياسية وسواها، لاسيما ما يتعلق بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أي بين السلطة والشعب.
وهكذا تطور الغربيون من خلال الفكر الاسلامي والقيم والتعاليم والأفكار التي تضمنها، ثم شرعوا بتطبيقها في حياتهم، بينما أهملها المسلمون وانشغلوا بالصراعات فيما بينهم، وتكاسلوا، فتقدم عليهم الغرب بالقيم التي أخذوها من مبادئ المسلمين، فيما هؤلاء (المسلمون) لم يمنحوا تلك القيم ما ينبغي من اهتمام، فتأخروا، وهذا أسهم في جعل العالم أكثر اضطرابا واحتقانا في ظل مجموعة قيم متقوقعة على مضامينها.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (لقد تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، ومطالبة الحقوق والحريات، ومثل النظم في الأمور، والاتقان في العمل، وما أشبه ذلك).
ومن المفارقات الغريبة حقا، أن الغرب نفسه، لم يستفد مما جاء في كتاب المسيح، الإنجيل، عندما اعتمد الفكر العلماني، والفلسفة المادية، وتحريف الأفكار التي قدمها لهم الإنجيل، مما يتنافى مع الفطرة الإنسانية، وهكذا أفرغت القيم من فحواها، حتى التعاليم ذات السمات الإنسانية وقيم الخير، تم إفراغها من مضمونها وتم تحريفها، ما جعلها غير قادرة على الصمود أمام العلمانية والمادية، وانعكس ذلك على الواقع الراهن، حيث الاحتقان الراهن في العالم ما هو إلا امتداد لتلك الأخطاء القاتلة.
وقد نبّه الإمام الشيرازي على هذه الحالة عندما قال في كتابه نفسه: (لقد رأى العالم كيف أن الغرب المسيحي رفض المسيحية واستبدلها بالعلمانية والمادية، وذلك لأن الإنجيل المحرف لا يملك من القدرة والشمولية ما يستوعب الحياة في كافة مراحلها، حيث لم يبق منه سوى بعض الوصايا وقد بدلوها أيضاً ولم يعملوا بها).
الرياء يدمّر منظومة القيم
ومع استمرارية تقوقع القيم وتراجعها وانحسارها، ازداد عالمنا احتقانا واضطربا، وسار على قدميه نحو حتفه، فما حدث من سباق تسلح وامتلاء الكرة الأرضية بالترسانة النووية، والتكالب غير المسبوق على المصالح المادية، وإقصاء قيم الاعتدال والتكافل العالمي، كل ذلك أدى الى خلق عالم هش محتقن متعصب قابل للانفجار في أية لحظة.
وما ساعد في تعزيز هذا المنهج المنحرف حالات الرياء التي عاشت بين المسلمين، فاتخذوا من الدين غطاء لتحقيق مآربهم، فألحقوا الظلم بالناس والتهميش للقيم، فتمسك المسلمون بجانب وتركوا جوانب مما ألحق بهم الأذى وأصابهم الضعف، وانعكس ذلك على عموم حياتهم، وجعلهم غير قادرين على مواكبة ما يجري في العالم، فضلا عن ضعفهم أمام الهجمة الفكرية الثقافية المغرضة التي سعت وسائل العولمة لنشرها بين المسلمين، لتدمير قيمهم وأعرافهم وفكرهم الإنساني.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن المسلمين اليوم يصلّون ويصومون، ويزكون ويحجون، ولكنهم تركوا الكثير من القوانين الإسلامية). وهذا في الحقيقة تخلي واضح عن القيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام، لذلك لم يوظفها المسلمون لصالحهم، فيما اقتنصها الغرب واستفاد منها وطبقها على واقعه لاسيما في ادارة الشؤون السياسية وتنظيم قضايا الحكم والسلطة وإدارتها.
لذلك ثمة بون شاسع بين المسلمين في العصر الراهن، وبين المسلمين الأوائل الذين استطاعوا في ظرف عقدين من الزمن، بناء دولة كبرى تفوقت على دول العالم آنذاك ليس بقوتها المادية، وانما بقوتها في القيم والأفكار الإنسانية التي حملها الإسلام الى معظم دول وأمم العالم التي كانت آنذاك تغط في ظلام الجهل، وعندما نتساءل لماذا حقق المسلمون الأوائل تلك المنجزات العظيمة، وكيف تمكنوا من ذلك، ولماذا أخفق مسلمو عصرنا في التمسك بالقيم الإسلامية النبيلة لكي يتقدموا على سواهم، فإن واقع المسلمين يمتلك الإجابة الوافية، حيث التطرف والتعصب والاحتقان هو السائد، واللهاث وراء المادية وترك القيم الإنسانية التي تتوافق مع الفطرة، كل هذه العوامل ساعدت على ضعف المسلمين اليوم فيما تقدم عليهم من كان يسير وراءهم.
لذا عندما يبحث المسلمون عن العلل والأمراض التي أرجعتهم قرونا الى الوراء، فإنه من الواضح أن السبب الأول يكمن في تركنا للقيم الأصيلة، ما جعلنا نسمح باختراقنا من قبل الثقافات الوافدة، فصرنا كمسلمين ننظر الى أنفسنا بدونية، فيما تناسينا أو نسينا بأن الذين تفوقوا علينا اليوم وصلوا الى هذه المرتبة بمبادئنا وأفكارنا، ومع ذلك حتى هؤلاء الغربيون، ليس في مأمنٍ من أمرهم اليوم.
خاصة أنهم وضعوا القيم المادية على رأس اهتمامهم، فحملتهم باتجاه الهاوية التي يسعون اليوم إليها بأرجلهم، وطالما بقيت القيم الإنسانية متقوقعة خاملة على المستوى العالمي وليس الاسلامي وحده، فإن عالمنا سيبقى مضطربا، فيما يبقى المسلمون عند آخر الركب للأسباب التي تم ذكرها.
وهنا يتساءل الإمام الشيرازي حول أسباب تأخر المسلمين في كتابه نفسه: (هل نملك نحن المسلمين اليوم تلك العزيمة اللازمة، والفكر الكافي، والوعي الإسلامي، والإيمان الثابت، والجهاد الصادق، وبذل كل الطاقات في سبيل الله كالذي كان عليه المسلمون الأوائل، وحسبما يريده الإسلام منا، أم أن الإسلام شيء ونحن المسلمين شيء آخر؟ ولعل هذا هو من أهم علل تقدم المسلمين في صدر الإسلام وتأخرنا نحن في هذا اليوم).
اضف تعليق