مرحلة انتقال الفرد والمجتمع من التخلف الى التطور، لا يمكن أن تحدث بقفزة سريعة، ولا يمكن حرق المراحل التي ينبغي أن تستغرقها محطة الانتقال من دولة متأخرة الى دولة مستقرة قوية ذات شأن كبير بين الدول، فالتقدم كما نستخلص ذلك من التجارب التي مرت بها البشرية، له بيئة خاصة به، لا يمكن له الظهور والنمو والانتشار إلا في ظل هذه البيئة.
تماما كما هو الحال بالنسبة للتخلف، حيث ينتعش ويتضاعف وينمو في حاضنة خاصة به، تسمى بيئة التخلف، وعندما يبدأ المجتمع والنخب المعنية بفهم كلا البيئتين وكيفية التعامل معهما، وكسب بيئة التقدم وتطويرها من جهة، ومحاصرة بيئة التخلف والقضاء عليها، هذه الإجراءات والخطوات هي التي تكفل عملية انتقال متدرجة من منطقة التخلف الى التقدم.
وعندما تبدأ النخب المعنية بالتغيير، لابد أنها تؤشر ملامح التخلف بصورة واضحة ودقيقة، ومن أهمها الجهل والكسل والتقاعس عن اداء الواجبات، هذه الصفات غالبا ما ترافق هذه البيئة وأفراجها، على العكس من بيئة التطور التي يكون فيها الفرد والمجتمع حيويا متدفقا مندفعا نحو الأداء الأفضل في العمل او التخطيط وفي المجالات التي تسهم بتطوير الدولة والمجتمع.
لذلك يؤكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الاصلاح) قائلا حول هذا الجانب تحديدا:
(للتخلف بيئة خاصة به، هي الجهل والنزاع والكسل والضجر، وشيوع الزنا والانحرافات الجنسية، والمرض والكآبة، وعدم الأمن والبطالة، واشتغال كل بلذائذه ومصالحه بأقصى ما يمكنه وعدم الاعتناء بحقوق الآخرين، وعدم تحمل المسؤولية وخدمة الآخرين، والعمل لكسب المنافع عن أي طريق كان).
هذه هي بعض المؤشرات التي تتمظهر في تفكير وسلوك الأفراد، وهذا يستدعي الشروع بالإصلاح الفوري للأفراد والجماعات معا، لذلك لا يمكن أن نبدأ بالإصلاح من دون أن تضع الجهات المعنية خطوات واضحة لمعالجة الجهل ومحاصرة بيئة التخلف والقضاء عليها بصورة حاسمة.
لاسيما أن الإمام الشيرازي يؤكد بصورة لا تقبل التأويل بأن القضاء على بيئة التخلف من أهم الخطوات التي تقودنا الى الإصلاح الحقيقي، حينما يقول الإمام في المصدر نفسه: (من مقومات الإصلاح، القضاء على بيئة التخلف).
إصلاح الفرد إصلاح للمجتمع
عندما يتم الحديث عن حتمية إصلاح المجتمع، فهذا الأمر ينبغي أن يبدأ بالأفراد، ذلك لأن الفرد هو اللبنة الأولية للمجتمع، ومن مجموع الأفراد سوف يتكون النسيج المجتمعي، فإذ كانت المادة التي يُصنع منها هذا النسيج سليمة، فلا شك سنكون إزاء نسيج سليم اجتماعيا، لذا ينبغي أن يتم التأكيد على إصلاح الفرد حتى نصل بالنتيجة الى مجتمع صالح.
وفي الواقع تعد هذه الخطوة من المهام الأساسية التي ينبغي أن تبدأ بها الجهات ذات العلاقة، إذ لا يمكن أن تنهض الأمة بأفراد يحاصرهم التخلف والجهل، لأننا سوف نكون أمام معضلة الشعب أو المجتمع الذي لا يعي دوره ولا مكانته، ولا يمتلك القدرة على مواكبة مظاهر العصر بأشكالها وأنواعها كافة، علما اذا صلح الفرد صلح المجتمع كله.
وهذا يعني أن الفساد الفردي او فساد الأفراد سوف ينعكس سلبا على المجتمع، لهذا ينبغي تربية الأفراد وإصلاحهم بصورة جادة وفعلية، حتى يمكن ضمان مجتمع قائم على الإصلاح المدروس وليس الإصلاح الشكلي، من هنا يعد إصلاح الفرد هو الخطوة الأهم في تحقيق مجتمع معاصر قادر على التفاعل مع جوهر العصر بصورة حيوية.
يقول الإمام الشيرازي بكتابه نفسه حول هذا الموضوع: (من أهم ما يلزم في إصلاح المجتمع، هو إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتشكل من فرد وفرد وفرد، وكل من الفرد والمجتمع يؤثر في الآخر سلباً وإيجاباً. ومثل المجتمع مثل الفرد، في الصلاح والفساد، والصحة والسقم، والتقدم والتأخر(.
وهناك علاقة تبادلية فيما يتعلق بالمصالح الفردية والمجتمعية، فربما نلاحظ تفضيلا للمصالح والفوائد الفردية، وقد نجد ذلك على الصعيد الجماعي، وفي كل الأحوال ينبغي أن تصب هذه الأفضلية في صالح المجتمع ككل، وهو أمر يعود الى جدية خطوات الإصلاح وقدرة المصلحين على تحقيق هذا الهدف الحاسم بالنسبة لتطوير المجتمع.
علما أن تقديم المصالح الفردية على المجتمعية او الجماعية، قد يحدث في الواقع، فهو أمر يجب أن نتوقع حدوثه، ويمكن أن نتوقع العكس أيضا، بمعنى هناك أفراد يفضلون مصلحة الجماعة على مصالحهم، وهؤلاء يمكن أن تبنى بهم دولة قوية ومجتمع متطور قادر على الانتماء الى روح العصر.
لذا يقول الإمام الشيرازي في هذا الجانب: (إن الفرد قد يقدّم مصلحة المجتمع على مصالحه الشخصية، وقد يجعل مصالحه الشخصية كمصالح المجتمع وبنفس المستوى، وقد يجعل مصالحه الشخصية فوق مصالح المجتمع).
معالجة التخلف أهم خطوات الإصلاح
تدخل المجتمعات في الدول كافة، ونعني بها المجتمعات الحيوية، في حالة سباق لتحقيق درجة متقدمة في فضاء العالم المتطور، بما يتعلق بالابتكار والإبداع، وتحقيق الإصلاح وتحييد الجهل والقضاء على مظاهر التخلف ومعالجة البيئة التي ينمو فيها، لذلك ينبغي أن يكون المجتمع متقدما على نحو دائم، وهذا يعود الى الجهد المبذول في مجال الإصلاح ومعالجة أسباب التخلف، لأن التوقف في منطقة محددة والكف عن التطور والمضي قُدُما يعني فسح المجال للتقدم عليه، فيبقى في منطقة متأخرة، وهو أمر في غاية الخطورة.
فالتوقف عن التقدم ومواكبة التطور يعني التراجع والبقاء في داخل بيئة التخلف ورهنا بها، وهذا لا يصلح لمجتمع يبحث عن التميز بين مجتمعات ودول العالم الباحثة عن التميز والتطور المضطرد، من هنا فإن العاملين على الإصلاح ينبغي أن يركّزوا على أهمية مواصلة التقدم الى أمام ومواكبة حركة دول العالم الذاهبة الى الأمام دائما.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في المصدر نفسه: (بما أن المجتمعات البشرية الأخرى في تقدم وتطور دائم، فإن المجتمع الذي لا يكون متقدماً بنفس المستوى أو بفاصل كبير، فإنه يعتبر متأخراً ومتخلفاً فإنه إذا توقف عن التقدم صار مجتمعاً متخلفاً).
وطالما أن المادية هي التي تسود عالم اليوم، فإن التناقضات التي تحصل بين العالِم والجاهل وغيرهما من الطوائف التي يمكن أن تتصادم مع بعضها، كل هذا سوف يشكل حجر عثرة أمام تقدم المجتمع، لذلك ينبغي التركيز على تذليل حالات التناقض، وتقليص الفجوة بين المتعلمين وغيرهم ممن لم تتح لهم الظروف مواكبة التعليم.
وحسنا فعلت بعض الدول الاسلامية ومن بينها العراق، عندما منحت الأفراد المتأخرين في التحصيل العلمي فرصة الحصول عليها، من خلال فتح مدارس خاصة بهم، تزودهم بالعلم وتمنحهم شهادة بذلك، بعد أن أجبرتهم الحكومات السابقة على خسارة فرصة التعلم، ان مثل هذه الخطوات من شأنها تقليص الفجوة بين العالِم والجاهل وهو أمر مهم جدا يساعد على اصلاح المجتمع وجعله في حالة أفضل.
ويمكن أن نلاحظ ذلك ومدى تأثيره في قول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع: (إن العالِم والجاهل، وغيرهم من الطوائف الاجتماعية المتضادة الصفة، سوف ترفع مشاكل المجتمع بنسبة كبيرة، وما أكثرها خصوصاً في الحضارة الحالية التي جعلت المادة هي المحور).
اضف تعليق