يتميز فكر المرجع المجدد، السيد محمد الحسيني الشيرازي أعلى الله درجاته، في موضوعة الأسباب التاريخية، من خلال جزئيات مستنبطة من النصوص المقدسة، يستمدها سماحته في وحدة موضوعه، من خلال مبنيين عنوانهما "إمداد الله للإنسان"، و"لئن شكرتم لأزيدنكم"، فيخلص فيهما إلى أن الإنسان مهما بلغ من العلم، لا يمكن أن يستوعب كل الشروط والخصوصيات، في السنن الإلهية، كونها ليست مطلقة غير مشروطة، ولا عامة غير مخصصة.
وسماحته إنما يقارب في هذين النصّين الشريفتين، مبنى رئيساً في الفكر الإنساني، وهو "مقومات الحضارة"، إذ يستقرؤها فقهاً في مسألة نصّها، "أن المبادئ المتينة لصناعة الحضارة، تقوم على الانسجام مع العقل والفطرة والرجال الصلحاء، وهي سمة القيم السماوية"، وهو بذلك يتقاطع وبعض الرؤى الغربية، التي ترجع قيام الحضارة، الى الطبقة الطفيلية، أو بطائفة "الارستقراطيين المنتهزين"، في أدوات التفسير عند هيجل ونيتشة وميكافيلي، الذين يجعلون شخصيات التاريخ والسياسة، فوق مستوى القيم الأخلاقية، مما يلقي بأثره، في الدراسات التاريخية، في الفاعل غير السليم، لعامل "القوة" المجردة أو الغاشمة، ضمن معايير حركة التاريخ.
وينظر سماحته إلى "معايير حركة التاريخ"، في مفهوم "القوة"، فيخلص الى أن مظاهرها ليست القوة العسكرية أو السياسية حسب، وإنما العلمية والاقتصادية والعقدية أو الدينية والاجتماعية كذلك، وذلك تبعا لعوامل الزمان والمكان، والسجال بين القوتين المادية والمعنوية.
وعليه فإن هذه المقاربة لموضوعة "القوة"، التي خلص لها سماحته، تتماهى ومبدأ "القدرة" في الأدبيات الإستراتيجية، أو مبدأ القوة الشاملة، التي من خلالها يجري الفرز، بين الإستراتيجية العسكرية من جهة، والإستراتيجية الكبرى أو العظمى أو الوطنية، من جهة أخرى، وفق متبنيات الاستخدام الشامل لها، المعتمدة على مرتكزاتها الأربعة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية.
ويرى سماحته في هذه الكينونة، أن الدين هو المنتصر، كونه يوافق العقل والفطرة، فهو يكمل الثلاثية معهما، وفق دراسات العقيدة والأخلاق، وعليه فإن تقييم حركة التاريخ، يجب أن يجري وفق معايير حقيقية، ليس من بينها النصر أو الهزيمة، بل وفق الإسهام الحضاري، وهذا يعبٍّر عن المأثور الشائع، في تحليل نتائج الأعمال العسكرية، وفق الرؤية الإستراتيجية، بأن "الهزيمة يتيمة، بينما للنصر ألف أب".
ويدرك سماحته أن التاريخ يعكس صورة المجتمع، ويتماهى معه في أن كلاهما "لا يتمتع بالوجود والوحدة والشخصية الحقيقية الخارجية، بالمعنى الفلسفي لا بالمعنى الحقيقي"، مما يفرض على المؤرخ الموضوعي، أن يؤرخ للأفراد، وكذا للمجموعات، وللحكومات والدول، ولمجموعات الدول، أو الحضارات، وفق مدركات فلاسفة التاريخ، ليجري التعبير عن روح التاريخ، كما هو التعبير عن روح المجتمع.
إن مقاربة سماحته لجزئيتي "التعليل التاريخي والتعليل الفلسفي"، تجري من خلال المقارنة بين المنهجين في التعليل، القائمين على العلّة التاريخية، والعلة الفلسفية، فيخلص الى أن التعليل في المنهج التاريخي، هو نقلي تجريبي تحليلي، فهو تسجيل وتقرير، بينما التعليل في المنهج الفلسفي التاريخي، هو تأملّي قبلي، فهو تأليف وتركيب.
بينما أن موضوعة السيطرة على التاريخ، ومعرفة الأسباب الكامنة في الوقائع التاريخية، فلسماحته فيها رؤية مهمة جريئة، وهي في ضرورة الأخذ بأسباب التقدم لغرض تحقيقه، فقد تأخّر المسلمون، لتأخّرهم في الأخذ بأسباب التقدم، وقد ظلّ المسلمون يحرصون على العبادات حصراً، لكنهم فقدوا سنّة التقدم في الحياة، والعدل في موضعه، والمساواة في موضعها.
وعليه فإن استقراء الروح العامة للتاريخ ووقائعه، ترتبط بمعرفة أسباب التقدم وأسباب التأخر، وأسباب النهوض وأسباب السقوط، فضلاً عن استيعاب سائر المعارف والعلوم، ذات الصلة بدراسة الموضوع.
ويبحث السيد المجدد في موضوعة "سنن الله تعالى"، من خلال جزئيات فرعية بنيوية، وفي صدرها إن "السنن الإلهية هي الأسباب الجامعة"، إذ يخلص فيها إلى أن القضايا الجامعة، قد جعلها الله تعالى، مطلقة أو مقيدة، في أمور متشابهة، مثل سنن "بعث الأنبياء"، و"الابتلاء في الدنيا"، وسنة الامتحان الجارية في الشؤون الفردية والجمعية.
وفي جزئية "السنن الدنيوية"، يفرّعها سماحته إلى أخروية ودنيوية، وأخرى مشتركة بينهما، إذ تكون السنن الدنيوية، مرتبطة إما بالمجتمع أو بالفرد، فيرى أن "التاريخ ارتداد مستقبلي"، يخلص فيه أن الله تعالى، هو خير مطلق، ولا يصدر منه إلا الخير، فالشر يرجع الى فاعله، من غير فرق في النية والقول والعمل، والرجوع قد يكون قريباً أو بعيداً أو متوسطاً.
يرى الفكر الإنساني للسيد المجدد، أن التاريخ صراع بين الحق والباطل، إذ يستنير سماحته بقوانين فلسفة التاريخ، في موضوعة الصراع الحضاري، وجزئية الصراع بين القيم فيه، وبالتالي حتمية انتصار قيم الحق على الباطل، من خلال الأدلّة النقلية والعقلية، وميزة رؤى سماحته في أدلته البحثية في هذه الموضوعة، من خلال استدلالات النص القرآني، ووفق المنهج القرآني، فهو بمثابة استقراء للصراع القيمي التاريخي، في استبصار النص القرآني المقدس، فهو يستقرأ الروح العامة للتاريخ، من بصائر النصوص القرآنية المقدسة حصراً.
وعليه فإن مباحث سماحته في هذا المضمار، تعد منهج نقلي محكم، بمعنى أن سماحته لا ينتوي إثبات النص في مرجعيته وسنده، لكونه نص مقدس "لا يأتيه الباطل"، من وجهة الحجة العقدية، كما أنه نص لا خلاف فيه، من وجهة الحجة المنهجية النقلية، فضلاً عن أن المنهج العقلي، هو حاضر في هذه المتون، لجهة الدليل العقلي في حتمية نصرة الحق، إذ أن التاريخ في فلسفته وحقيقته، قائم على مبادئ معنوية، تستهدف فهم الحقيقة، والفصل بين الحق والباطل، وإلّا فإن السرد المادي للتاريخ، لا يمثل الا وسيلة لاستنتاج الحقائق المعنوية، وهذا المعنى شاخص في تأكيد سماحته على انتصار الحق على الباطل حكما.
فسماحة السيد المجدد، يبني استنتاجاته المطلقة في هذا الموضوع، من خلال استقراء النصوص القرآنية، أو التبصر والتدبر في قراءتها المعمقة، فهو منهج تاريخي محكم، يستنبط فيه كلياته من البصائر القرآنية، ليكون الباحث تعبيراً عن المؤرخ والفقيه في آن، أو كما يعبر عنه المجدد نفسه، بالفقيه المؤرخ، أو المؤرخ الفقيه، في دعوته للمؤرخ الفقيه، الذي يهدف إلى التفقه في المسألة، لإصدار الأحكام، أن يتحقق من الواقعة التاريخية، بموضوعية وتجرد.
ويفهم من هذا المسمّى، الجامع بين دالّتي الفقه والتاريخ، ضمن الفكر الإنساني لسماحته، أنه يصدر أحكامه التاريخية الفلسفية، في تقييم الوقائع التاريخية، استدلالاً من الحجّة الفقهية، كما أنه قد يصدر أحكامه الفقهية الشرعية، مستدلاً في الحجة التاريخية، وهكذا في الثنائية التبادلية بين الدليل الفقهي والدليل التاريخي، الذي بات في فكر سماحته، أنه من الأدلة المدخلية والموضوعية، مع الأدلة الأربعة، في استنباط الأحكام الشرعية.
وبالتالي فإن المخرجات الفكرية في مباحث سماحته، تخلص أن العلوم التاريخية الفلسفية، في استقراء قوانينها الجامعة للعلل والأسباب، لا تكون مطلقة في جزئياتها وكلياتها، إلّا من خلال مدخليات العلوم القرآنية، والتي قد يكون في تصنيفاتها المفترضة، تضمين العلوم التاريخية، في تفريعاتها البحثية المنهجية، التي قد تنأى في التفسير القرآني، عن تداعيات مدركات التأويل وتخرّصات "الهيرمينوطيقا".
إن انتصار الحق على الباطل، وحتمية استئصال الباطل، وسنة انتصار أهل الحق، يجملها السيد المجدد في مخرجات بحوثه، ليكون الاستنتاج النهائي فيها، أن سنن الله التي سنها في عباده، تشكل في مجموعها ما يسمّى بفلسفة التاريخ، وعليه فإن الدراسة التاريخية في النص القرآني، تستخرج مخرجاتها، من ذات قوانين فلسفة التاريخ.
إن فحوى هذا الاستنتاج، هو الإدراك بالحتمية التاريخية لانتصار الحق على الباطل، بسائر أشكالهما وعناوينهما وتوصيفاتهما، إن في الزمان أو المكان، وهو أمر مستدل من فلسفة التاريخ، والروح العامة له، كما هو مبني على النص القرآني المقدس، والمسلمات العقدية، إذ يستقرأ في فكر سماحته أن منشأ هذه الحتمية، تعود إلى الظواهر التي تحدد وقوعها، فهي شروط لا تقبل الاستثناء، في افتراضات أن النظام الكوني، متكرر الوقوع باطراد، وتحكمه العلاقة بين العلّة والمعلول، وبين السبب والمسبب، بحكم القوانين الكلية العامة.
ولغرض الربط بين المتبنيات العقدية، المبنية على النص النقلي المقدس، وبين القوانين الكلّية الجامعة، في الروح العامة للدراسة التاريخية، يتمثل سماحته في جزئية "الاستئصال"، وهو أقسى مراحل العقوبة الإلهية، وهو أيضاً إحدى السنن الإلهية القطعية، التي لا تختلف بين الأمم والجماعات، وهو ما ينسجم تماماً مع الأمر الإلهي، بالسير في الأرض، والنظر فيها، ليعلم الإنسان نتائج أعمال السابقين، التي ترشد للحتمية التاريخية، في انتصار الحق.
وكدأب مباحث المرجع المجدد، ومتبنياته الفكرية الإنسانية، واستدلالاته ورؤاه، فهي استقراء للحاضر، ودراسة للماضي، ونظرة للمستقبل، ولذا فهي مدركات تصلح لاستلهام مضامينها، والاستنارة بتعاليمها، في معالجة أزماتنا المعاصرة، من خلال ما يتوجب على من يتولى المسؤولية عمله، اقتداء بالأمر الإلهي، وبالتنزه عن المنافع الشخصية والذاتية الضيقة، لأن "الاستئصال" الإلهي، لا يستثني من يتبرقع بعباءة أو لون أو شعار أو عنوان، وبدلالة المباني الإيجابية التي أكدها سماحته، والتي ترشد إلى الحتمية التاريخية في انتصار الحق على الباطل.
اضف تعليق