q

المستقرئ لفكر الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه)، ومباحثه الإنسانية والعقلية، يلمس رؤية متميزة لعناصر روح التاريخ، فسماحته يقاربها من خلال ثنائية "الفطرة والعقل"، وتأثير المادة التاريخية وعقلية المؤرخ، في الوصول الى حقيقة روح التاريخ، وإدراك القوانين والعوامل الفاعلة فيها.

وإلى ذلك يشير(قده)، إلى الإدراكات عن طريق الحواس، أو الإدراكات الحسّية، وهي ما يتماهى والمنهج الحسّي "الإمبريقي"، وفيه استدلال من مقولة العالم "إبن سينا"، "من فقد حسّاً فقدْ فقدَ علماً"، ومن ثم الى الإدراكات من جهة التفكّر والتعقّل، وبما يتماهى والمقاربة الذهنية، أو المنهج العقلي.

فيستدل (قده) الى التكاملية التوافقية، بين العلم والدين، بعكس ما كان يجري في الصراع التاريخي بين العلم والكنيسة، الذي شهده المجتمع، قبيل عهد النهضة الأوربية، بما يعبر عنه بالصراع بين الأفكار التقليدية والأفكار الزمنية.

فمن خلال مقاربة سماحته، للسجال القائم بين القائلين بالروح العامة للتاريخ، والرافضين لها، يتوضح الميل لوجود الروح العامة للتاريخ، والفلسفة التحليلية للمفردات التي يجمعها شيء واحد، ولكنها بشرائط، يتطلب توفرها لتحقيق النتيجة، بمعنى لتستقم قوانين الفلسفة، في قراءتها للواقائع، حيث إن المصادفات، لا تمنع الروح العامة، وأنها نسبية وليست مطلقة، كما في فلسفة العلوم الأخرى، إذ أن أدوات فلسفة التاريخ، هي ذاتها في الروح العامة للتحليل، في سائر العلوم غير الطبيعية.

وبسلوك المنهج العلمي، يخلص سماحته، الى أن العلوم الطبيعية وسواها، تقوم على منطق الكليات دائماً، بينما يقوم التاريخ، على منطق الكليات بشرائطها، فهنا مقاربة منطقية بين فلسفة العلم، والروح العامة للتاريخ أو فلسفته، بما يدحض مزاعم معارضيها، ومن بينهم الفيلسوف الإغريقي "أرسطو".

إن هذه الكليات الجامعة، قد بيّنها المفكر "ابن رشد"، في كتابه "الكليات في الطب"، ثم في كليّاته الأخرى، والتي اعتمد فيها أداة الاستقراء، وقد اعتبرت فتحاً للمنهج العلمي التجريبي، ودراسة الفكر في تاريخ العلوم وفلسفتها، "أو الإبستيمولوجية"، والذي أكده الفقيه المفكر، العلامة الحلي، في وصفه العلم التجريبي، بكونه المنهج الأول، الذي يقارب فيه الإنسان، الفكر العلمي، من خلال المدركات الحسية.

إن الجدلية الحضارية في الأسباب والمسببات والنتائج، يعرضها سماحته في صناعة التاريخ، في العلاقة بين شخصية الفرد والحضارة، فالمقدمات الحضارية والمجتمعية، تهيئ لبناء الشخصية التاريخية، وإن هذه الشخصيات المبدعة، هم بالتالي بناة الحضارات، وبهم يجري تشكيل حركة المجتمع.

ويرى السيد المجدد، استثناء النماذج المقدسة، من طبقة الأنبياء مثلاً، من جدلية هذه التبادلية التاريخية، فهم لا تصنعهم الحضارات، إنما إرادة الله سبحانه، والى ذلك كان عنوان "الأنبياء صنّاع التاريخ"، الذي يحتج فيه على كلّ من النظرية المثالية "الهيجلية"، التي قامت على أساس أن الفكر، هو المنتج للمادة، وبالتالي لحركة التاريخ، بينما النظرية المادية "الماركسية"، تقوم على أساس أن المادة هي الأصل، وهي التي تنتج الفكر، ومراحل حركة التاريخ، من خلال نمو وسائل الإنتاج، والنشوء الطبقي.

ويعرض (قده)، وفق دراسة معمّقة، مشفوعة بالأمثلة التاريخية، الى أبرز القوانين الحاكمة، في فلسفة التاريخ، مبتدءا بجزئية "مسؤولية الإنسان"، من خلال الموقف إزاء الفكر والعمل، في معيار الحسن والقبح العمليين، وثم لعنوان "الجبر والاختيار وعلاقتهما بالتاريخ"، في رفض الإطلاق، سواء للجبرية أو للاختيارية في التاريخ، ويخلص سماحته في ذلك، الى أن الإنسان ليس مغلوب الاختيار والإرادة، والحرية ليست وهماً وخيالاً، محتجاً بالقاعدة الفكرية الإسلامية، "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين اثنين".

يرى المفكر المجدد (قده) حركة التاريخ بحرية الفرد، بمعنى تغير الآراء تبعاً لتغير الزمان والمكان، مما يؤشر التفرد الخاص بالمنهج التاريخي، الذي يفرض دراسة التغيرات الزمانية والمكانية، فضلاً عن الشرائط والخصوصيات، في التاريخين القريب والبعيد، وهي التي يرى المجدد فيها العلة، في دقّة التبوء في العلوم الطبيعية، التي لها فلسفة كونية ثابتة، بينما لا تكون كذلك في التفسير التاريخي، إلا من خلال تنبؤات بعيدة المدى، واسعة النطاق.

ويعرض سماحته الى مقارنة النظم بين الاستشارية والاستبداد، حيث يشكل التاريخ، ركناً في استقراء الماضي، وفهم الحاضر، ودراسة المستقبل، بين هذين الشكلين من أنظمة الحكم، فالاستشارية في الإصطلاح الإسلامي، أو الديمقراطية في الإصطلاح الغربي، أفضل أساليب الحكم، كونها تهيء الجو الكامل للحرية، التي تطلق الكرامة والعدالة الإنسانية، والكفاءة والتفوق في الأداء، واختيار الأصلح للحكم والمسؤولية، وشغل الوظيفة العامة.

وبرغم أن للمفكر المجدد، مآخذه على ديمقراطيات الغرب، لجهة إعمال الرقابة الخارجية فيها حصراً، ولاعتماد مبدأ الأكثرية، في مهمة التشريع، وفي احتمالية الاستغلال السيء للحريات، وفي التنصل المحتمل عن المسؤوليات، فضلاً عن مساواتها بين العالم وغيره، ضمن مبدأ المساواة أمام القانون، مما يخنق الإبداع.

لكن سماحته يرى، أنها الخيار الأفضل والأمثل للحكم، من خلال انتخاب الأمة لممثليها بحرية، مقارنة بالاستبداد والديكتاتورية، التي تتفوق فيها القوة على الحقيقة، ويعنى بها القوة الغاشمة، كما أن الديمقراطية، هي الطريق الأقل محذوراً، لأن الاختلاف لا يمكن أن يُجعل سبباً، لاختلاف القوانين المجعولة، أو "الوضعية" في لغة الفقه القانوني.

حيث تسعى الاستشارية من خلال الحقيقة، لاستخدام القوة لصالح الإنسان، وفق المنهج السليم لها، في تغليب "منطق الحقيقة على منطق القوة"، ويثبت المفكر المجدد، أن الاستشارية الإسلامية، تتجاوز المآخذ في الديمقراطية الغربية، من خلال الوازع الإيماني في رقابة الذات، واعتماد الأدلة الأربعة في التشريع، فضلاً عن الجوانب القيمية والأخلاقية الإسلامية، إذ تؤدي الى الاستقامة والتقدم، في نزوعها نحو القانون الإلهي السليم.

إن منهج المفكر المجدد، في مقاربته لهذه الرؤى، تتماهى ومنهج القراءة المعمّقة للنصوص التاريخية، في ولوج طبقاتها الجيولوجية، التي تراكمت عليها تأثيرات الزمن، مما يستوجب إزالة ترسباتها، وفق تعبير منظري منهج الحفر أو النبش "الأركيولوجي"، إذ يرى سماحته، أنّ من يريد ملاحظة الخطاب المكتوب في فلسفة التاريخ، عليه أن يلاحظ الحالة الحضارية والنفسية للأمة، التي تتشكل وتتأثر بطبيعة الحكم، إن كان استبداداً أو عكسه، فيقوم المؤرخ في هذه المهمة، بقراءة ما وراء المفردات التاريخية، كي لا يظلم الأمة، بما لا قدرة لها عليه، وعليه فإن مهمة المؤرخ، هي قراءة الفكر في النص، أو ما يعبّر عنه حفرياً، بالمسكوت عنه في الطبقات القشرية منه.

وفي جزئية الهجرة ومسيرة التكامل، يعرض السيد المجدد مسألة، تمثل قانوناً حاكماً في فلسفة التاريخ، بأن الهجرة والتغرب، هي من عوامل تفجر الطاقات، وتحريك الأمم وبزوغ الحضارات، ونمو المواهب، ويرى أن الإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية، كونها تحدد مسيرة التكامل الإنساني، ويحتج سماحته بأمثلة وشواهد تاريخية، لشخصيات عبرت الحدود، وتحملت المسؤوليات، بمن فيهم الأنبياء.

وهو ما يدعو إليه سماحته، في انتخاب شورى الفقهاء، دون النظر الى موطن العضو فيها، وذلك ينصرف الى جميع نواحي الحياة، ومجالات المسؤولية فيها، لجهة توليتها على أساس الكفاءة، وليس على أساس العرق، ويستشهد سماحته الى ذلك، بأمثلة وشواهد واسعة، من التاريخ الإسلامي، حتى فترة ما قبل قرن من الزمن.

وعليه يتفرد الفكر الإنساني للسيد المجدد، في جرأة طرحه، بين الأدبيات المقاربة، فيدعو صراحة، أن "علينا أن نمنع الغرب من السقوط"، في "مسألة" مهمة واعية، وذات نظرة إيجابية واقعية، منفتحة على الآخر، للوصول الى روح الحضارة البشرية، وفلسفة الحياة الإنسانية، من خلال التلاقح والحوار والتواصل، بين المجتمع الإسلامي، بقيمه وروحه، والغربي بنظامه وجماليته وتطوره العلمي، وهي معالم مستمدة من تموجات الحضارة الإسلامية، كمثل مبادئ التعددية والشورى والعدالة الإنسانية، بهدف تجديد إنطلاق الأول، ومنع الثاني من السقوط.

وبذا تدعم هذه الرؤية، الواعية المنفتحة، للمجدد المفكر، مستقبل الحضارة الإنسانية، والمجتمع البشري، في دعوة صادقة، لحوار الحضارات وتلاقحها، بدلاً من تخرّصات الأكاديمي الأمريكي، "صموئيل هنتنجتون"، في كتابه المثير للجدل، عن صراع الحضارات، في زعم جدليته وحتميته.

وهي دعوة ممتدة الى الزمن المعاصر، في رفض الإنغلاق المصطنع على الآخر، لأن دعوة سماحته، في استقرائه المستقبلي، "لمنع الغرب من السقوط"، إنما يستدل منها، ضرورة الإنفتاح على الحضارة الغربية، في انتقاء المعطيات الإيجابية فيها، وفي تقديم البدائل السليمة إليها، لماهو مرفوض فيها، إسلامياً أو حتى إنسانياً، والحال أن معظم الفئات المتنفذة، في المشاهد السياسية المعاصرة، وخاصة البلدان العربية التي شهدت تغييرات جذرية في نظمها، والتي تعاني الفوضى الخلاقة وغير الخلاقة، يلمس الفرد منها، ماهو العكس من ذلك.

إذ يجري استثمار قشور الحضارة الغربية، في تحقيق المصالح الفئوية والمنافع الشخصية الضيقة، للفئات المتنفذة، بينما يرفض ويترك أو يحجب الإيجابي فيها، بدعوى مناقضتها للتقاليد والأعراف، والحقيقة أن في ولوجها الى المجتمع الإسلامي، إحراج وتعرية، لما تمارسه تلك الفئات، خفاءً أو علناً، من المفاسد والمظالم وحالات الاستبداد، والحال أن هذا "الإيجابي"، هو في الأصل، من مقاصد الإسلام وعقائده وسلوكياته، وضمن متبنيات مدرسة أهل البيت صلوات الله عليهم، قبل أن يكون من مخرجات الحضارة الغربية، وذلك ما أثبته فكر المجدد، ورؤاه المستقبلية.

اضف تعليق