هنالك بون واسع بين محاسن الاختلاف الإيجابي ومساوئ الاختلاف السلبي، وهذا بطبيعة الحال لا يُلغي إعطاء الأفكار المختلفة فرصة الظهور، والتحاور مع الآراء الأخرى، لأن حرية الرأي هو السبيل الأسرع لتقليل حالات الخلاف والتصادم، بل وحتمية الوصول إلى الرأي الأكثر صحّةً وصوابا من بين الآراء الأخرى...
(يكون الاختلاف إيجابيا إذا أدى إلى التنافس الشريف المبني على أساس القواعد السلميّة)
الإمام الشيرازي
الاختلاف حالة طبيعية مدرجة ضمن طبائع الإنسان، أي أن الاختلاف حالة فكرية سلوكية موجودة مع الإنسان منذ الولادة، وتبقى معه حتى نهاية الحياة، ولا يمكن تحييدها أو إيقاف تأثيراتها في سلوكيات وآراء الناس، بل يميل الإنسان إلى الاختلاف حتى يجعل له مكانة يتميز بها من خلال اختلافه عن الآخرين، وهذا ما أطلق عليه المهتمون (التغريد خارج السرب)، أو (التفكير خارج الصندوق)، ومن الواضح أن الاختلاف هنا ميزة للإنسان وليس العكس.
فقد تكون حالة الاختلاف إيجابية، لاسيما عندما يفكر الإنسان بطريقة مختلفة عن الآخرين الذين ينتمون إلى بيئته الاجتماعية نفسها، فهناك تأثير كبير للعادات التي يتناقلها الناس عن بعضهم، تجعلهم يفكرون بطريقة واحدة، ويتعاملون مع الأشياء والأحداث برؤية واحدة ورأي واحد، ولهذا قد يكون الرأي المختلِف ميزة وليس نقصا أو تراجعا في التفكير.
أما سبب الرفض الذي يواجه الاختلاف فيعود إلى قلة الوعي، وإلى ضيق سعة الصدر، ولهذا يُنظَر إلى الإنسان ذي الرأي المختلف بأنه لا ينتمي إلى الجماعة، وتُعَد هذه مثلبة عليه، لكن قد يكون الرأي المختلف مفيدا، لهذا قيل (إذا اختلفت الآراء صحَّتْ).
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (القطوف الدانية/ الجزء الرابع):
(إنّ الاختلاف ليس حالة سلبية دائماً، وإنما قد تكون حالة ايجابية محفّزة نحو اختيار السبيل الأمثل والاستفادة من وجهات النظر المختلفة. فالاختلاف حالة طبيعية في حياة الإنسان وخصوصاً في الرأي وهذه سنة اللّه تعالى في الكون، ولكن نتيجة لقلة الوعي وضيق الصدر يصبح هذا الاختلاف سبباً للتصارع والتصادم بين الناس).
وقد يكون الاختلاف سببا في إثارة أحقاد الآخرين على الإنسان المختلِف، حيث يتعامل معه الآخرون بعنف وخشونة، سواء في اللفظ أو حتى بالقوة، لهذا يتم رفض الاختلاف، ويتم التعامل مع المختلِف وكأنه خارج عن رأي الجماعة، أو خارج عن الرأي السائد الذي يتفق معه الكل، لهذا غاليا ما يكون الاختلاف مرفوضا من قبل الآخرين.
تحييد العنف ورفض الخشونة
لكن هذا السلوك ليس صالحا على الدوام، فقد تكون حالات الاختلاف صحية ومفيدة، بل كلما اختلفت الآراء، كانت فائدتها أكثر، بشرط تحييد العنف ورفض الخشونة، وطرد الأحقاد والتطرف، وبحث الآراء بحيادية، ووفقا للمصلحة العامة، أما رفض الرأي المختلف بسبب التطرف والانحياز للرأي السائد، فلا يقود إلى النتائج المحمودة، من هنا يجب قبول حالة التنافس بين الآراء المطروحة، وصولا إلى الرأي الأكثر فائدة للناس.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(نتيجة الاختلاف يصبح الإنسان عنيفاً في تصرفاته وسلوكه الخارجي بل حتى مع نفسه، ويبني أغلب أموره وعلاقاته على أساس العنف والخشونة وعدم إبداء المرونة في تقبل الرأي المخالف لرأيه، وهذا هو الاختلاف السلبي).
ولهذا على الرأي أو السلوك أو النظرة المختلفة أن تكون إيجابية وليست سلبية، وغالبا ما يؤدي الاختلاف الإيجابي إلى التنافس العادل الذي يقوم على ضوابط معروفة سلمية التوجّه، لأن الاختلاف الإيجابي لا يقود الناس المختلفة إلى التناحر أو التصادم، بل على العكس من ذلك، يكون الاختلاف الإيجابي مدعاة للسلوك السلمي.
وغالبا ما يتحلى صاحب الاختلاف الإيجابي بسعة الصدر، وتحمّل آراء الآخرين حتى لو كانت تختلف مع رأيه، لهذا علينا دائما أن نتحلى ببعد النظر في تعاملنا مع الآراء التي لا تلتقي مع آرائنا ولا تدعمها، ونترك الآراء تتنافس فيما بينها، وصولا إلى الأصلح والأفضل والأمثل من خلال التنافس وليس من خلال الإكراه والقسر.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(يكون الاختلاف إيجابيا إذا أدى إلى التنافس الشريف المبني على أساس القواعد السلمية، لذا لابد أن يكون خلافنا إيجابياً، وأن نتمتع ببعد نظر وصدر واسع، يتسع لاستقبال الآراء المغايرة لوجهات نظرنا).
هناك إمكانية واضحة لاستثمار الاختلاف في الآراء، تحصل من خلال استعراض الآراء المختلفة بحيادية ورويّة، وإبعاد التسرّع والتزمت والتشبث بالرأي الخاص على حساب الآراء الأخرى، بل لابد من أن يُسمح لجميع حالات الاختلاف أن تتبارى فيما بينها في إطار ضوابط تنافسية موضوعة مسبقا ويكون الاحتكام إليها في تحديد الأفضلية.
لذلك من الأفضل أن يُسمَح للآراء تتضارب وتختلف وتتبارى، وسوف تكون خلاصة هذا التضارب والاحتدام بين الآراء الوصول إلى الحالة الأفضل، أو الرأي الأمثل من بين جميع الآراء المتنافسة، وقد ورد هذا المعنى الكثير من الأحاديث والمقولات المأثورة.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(يلزم أن نستثمر الاختلاف لنخرج بالرأي الصائب ونرتقي إلى هذه الحالة الإيجابية في توظيف الخلاف لخدمة قضايانا الإسلامية فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: أضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب).
التعاطي مع الآراء المختلفة بإيجابية
ونظرا للفائدة العظيمة التي يمكن أن يجنيها الناس من حالات الاختلاف الإيجابي، فإنها من الأفضل أن تكون فكرا وسلوكا جماعيا، حتى يتم التخلص من الاختلاف السلبي في المجتمع، لأننا غالبا ما نلاحظ أن المجتمعات المتأخرة مشبعة بحالات الاختلاف السلبي، ومتشاحنة ومحتدمة فيما بينها، مما يفوّت عليها فرص التقدم ومواكبة روح العصر.
على سبيل المثال نلاحظ أن الدول التي تحكمها أنظمة سياسية أحادية الفكر، أنظمة الحزب الواحد، تقود تلك الدول بالقوة والعنف وفرض الرأي والفكر الأحادي بالإكراه، وعدم السماح للأفكار والآراء المختلفة بأداء دورها في معالجة شؤون الناس وإدارة حياتهم، بما في ذلك سياسة الدولة التي يتم إخضاعها بشكل كامل للرأي الحزبي الواحد، لهذا تكون فرص الفشل والسقوط أكثر بكثير من فرص التطور والتقدم إلى أمام.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي قائلا:
(أما حالة العنف والخشونة الناتجة من الاختلاف السلبي من دون مبرر سوى اختلاف وجهات النظر، فتعني التوقف في بداية المشوار والاصطدام مع الآخرين نتيجة لقلة الوعي وضيق الأفق، وخير شاهد على ذلك: أننا نرى في البلدان التي يحكمها حزب واحد أن هذا الحزب يمسك بزمام الأمور بالقوة والعنف ويفرض وجهة نظره على كافة الأصعدة ويخضع الآخرين لأسلوب تفكيره، فتكون نسبة الخطأ في اتخاذ مواقفه عالية جداً لأنه ينظر للحياة من زاوية ضيقة).
من هنا لابد من التعاطي مع الآراء الأخرى بإيجابية واحترام، وعدم التشكيك بها، أو النظر إليها من باب التخوين أو نظرية المؤامرة، فالنظر باحترام للرأي المختلف والتفاهم معه بالنيّة الحسنة، تطفئ نيران الأحقاد، وتُبعد حالات الاحتقان، وتقرّب بين وجهات النظر المختلفة، أما في حالة إهمال آراء الآخرين والتعامل معها على أنها معادية، فسوف يؤدي هذا إلى نشوب الأحقاد.
فإذا كان الهدف هو الارتقاء بالدولة وبالمجتمع، أو بالجماعة، فإن الأفضلية حتما ستكون لصالح التعاطي مع الرأي المختلف الإيجابي بإيجابية، وإعطاء حرية الراي المساحة الكافية وعدم التضييق على الآخرين لأنهم مختلفون، فكثير من الآراء المختلفة صحيحة وإيجابية حتى لو اختلفت مع الرأي الفكر الأحادي.
الإمام الشيرازي يقول:
(لذلك نرى ضرورة الاهتمام بآراء ووجهات نظر الآخرين واحترامها، حتى نتمكن من التفاهم حول القضايا المختلف عليها. وعلى العكس من ذلك فإن إهمال وتجاهل آراء الآخرين عند الاختلاف حول القضايا هي التي تؤدي إلى نشوب الأحقاد ومن ثم خسران العمل).
الخلاصة هنالك بون واسع بين محاسن الاختلاف الإيجابي ومساوئ الاختلاف السلبي، وهذا بطبيعة الحال لا يُلغي إعطاء الأفكار المختلفة فرصة الظهور، والتحاور مع الآراء الأخرى، لأن حرية الرأي هو السبيل الأسرع لتقليل حالات الخلاف والتصادم، بل وحتمية الوصول إلى الرأي الأكثر صحّةً وصوابا من بين الآراء الأخرى، وبهذه الطريقة التنافسية التفاضلية بين الآراء نكون قد فسحنا المجال أمام الرأي والفكر الأفضل بالظهور والتصدّر.



اضف تعليق