القضية الأساسية في حياتنا هي قضية «الطاغية الشرقي»، أو «الحكم الاستبدادي» —بصفةٍ عامة— ذلك الوحش المستقر في أغوار اللاوعي الجمعي في بلادنا! وليس ثمة قضيةٌ أخرى، أَوْلى منها بالتفكير، والكتابة، والتحليل، والبحث عن علاج، فالأخطبوط المتجدِّد دومًا يمكن أن يستيقظ في أي وقتٍ ليعيث في الأرض فسادًا كما...
بقلم: د. إمام عبد الفتاح إمام

ما لم يحصُل المواطن على حقوقه السياسية كاملةً غير منقوصة، وعلى نحوٍ طبيعي، فلا تكون منةً أو هبةً، أو منحةً من أحد، بل يعترف المجتمع أن للفرد حقوقه الطبيعية، وكرامته، بل وقداسته، من حيث هو إنسانٌ فحسب، بغَض النظر من أي شيءٍ آخر مما يُحيط به سوى أنه إنسان، فلا شأن لدرجة الفقر أو الغنى، أو نوع العمل الذي يؤدِّيه، أو جنسه ذكرًا أو أنثى، أو ظروفه الأسرية — لا شأن لهذه الأمور كلها بأن يكون لكل فرد من الناس إنسانيتُه الكاملة التي يعترفُ بها مجتمعه على نحوٍ طبيعي؛ بحيث ينحلُّ الصراع بين السيد والعبد، الذي أشار إليه هيجل، من تلقاء ذاته، فيُعامَل على أنه «غاية في ذاته» وليس «وسيلة» لشيءٍ آخر.

 أقول إنه ما لم ينَلِ المواطنُ حقوقَه كاملة؛ حقه في الحياة الآمنة، وفي أن يملك، وفي أن يعتنق ما يشاء من آراء، وأن يفكِّر ويعبِّر عن أفكاره بحرِّية، وأن يعملَ العملَ الذي يهواه، وأن يشارك مشاركةً فعالةً في حكم نفسه عن طريق المجالس النيابية … إلخ — فلن يؤدي واجباته على نحوٍ طبيعي، أعني بالتزامٍ داخلي ينبع من ذاته، بل إنه سيؤدِّي ما يؤدِّيه منها بسبب الخوف من العقاب (والخوف هو المبدأ الذي يرتكز عليه حكم الطغيان والاستبداد كما أشار مونتسكيو)؛ بحيث تظهر كل الرذائل في سلوكه إذا أَمِنَ شر العقاب؛ فلا مانع من أن يكذب، ويسرق، وينافق، ويغش، ويخون … إلخ، كلما سنحَت له الفرصة! ذلك لأن الالتزام الأخلاقي الذي ينبع من داخل الفرد يحتاج إلى «وعيٍ ذاتي» —أي إلى شخصيةٍ إنسانيةٍ متكاملة— في حين أن النظام الاستبدادي يسرقُ هذا الوعي، فلا يجعله يرتد إلى نفسه، ولا يكون لدينا، في هذه الحالة، سوى وعيٍ ذي اتجاهٍ واحد؛ ولهذا ذهب هيجل إلى أن الشرقيين لم يبلغوا قط مرحلة «الوعي الذاتي» بسبب الاستبداد الشرقي الشهير الذي ما زال البعض منا يتشكك في وجوده ويعتبره «خرافة» (وانعدام الوعي بوجود الاستبداد هو في حد ذاته كارثةٌ أخرى!) — مع أننا نعيشه في كل لحظةٍ من لحظات حياتنا!

الواقع أن القضية الأساسية في حياتنا هي قضية «الطاغية الشرقي»، أو «الحكم الاستبدادي» —بصفةٍ عامة— ذلك الوحش المستقر في أغوار اللاوعي الجمعي في بلادنا! وليس ثمة قضيةٌ أخرى، أَوْلى منها بالتفكير، والكتابة، والتحليل، والبحث عن علاج، فالأخطبوط المتجدِّد دومًا يمكن أن يستيقظ في أي وقتٍ ليعيث في الأرض فسادًا كما حدث ذاتَ مساء عندما قام أحد الطغاة بتدمير بلدَين عربيَّين شقيقَين، وغرس العداوة بينهما، وساق عشرات الألوف من أبنائهما إلى المذبحة، وبعثَر ملايين الملايين من الأموال كان الشعب العربي في كل مكانٍ في أمس الحاجة إليها، بل إنه مرَّغ تراثًا حضاريًّا كاملًا في الوحل، وقد يواصل نسج خيوطه، وتدبير محنٍ أخرى ربما تكون أدهى وأمر!

كنتُ أسكن في الشارع الرئيسي بمدينة «أكسفورد» — وهو شارعٌ ضيق إذا قُورنَت مساحته بكثافة السيارات التي تعبُره كل يوم — ووقعَت حادثةٌ ذاتَ صباح (كان حريقًا في أحد المحلات التجارية استدعى وجود سيارات الإطفاء، مما أحدث ارتباكًا في تدفُّق المرور) وتوقَّف السير في أحد اتجاهَي الشارع، فاصطفَّت السيارات في طابورٍ لا تستطيع العينُ أن تصل إلى نهايته. ومع ذلك لم تخرج سيارةٌ واحدةٌ عن هذا الطابور الطويل لتسير في الاتجاه المقابل —رغم أنه لا يوجد رصيفٌ ولا حجرٌ واحد يمنعها من ذلك— وسألتُ نفسي: لِمَ يلتزمُ المواطن على هذا النحو العجيب؟! وكانت الإجابة التي لم أتشكَّك لحظةً واحدة في صدقها؛ الديمقراطية! نعم، الديمقراطية العتيقة في إنجلترا التي أعطت لكل مُواطنٍ حقه وكرامته وقيمته وإنسانيته، فأصبح من الصعب عليه أن ينتهك حقوق الآخرين؛ لأن القوم سوف ينظرون إليه في هذه الحالة باحتقارٍ شديد لسلوكه الشاذ الغريب! الأخلاق نتيجةٌ مرتَّبة على النظام السياسي وليس العكس!

ليس ما ينقصنا هو الأخلاق كما يظن البعض، ولا العودة إلى الله كما يتوهَّم البعض الآخر! بل ما ينقصُنا، حقًّا، هو «الشخصية الإنسانية المتكاملة» التي نالت كل حقوقها، وشعرَت بكرامتها وقيمتها الإنسانية، فإذا كان الحكم الاستبدادي يعجنُ المواطنين جميعًا؛ بحيث يصبح الفرد مُدمجًا مع غيره في كتلةٍ واحدة لا تمايز فيها —كما هي الحال في قطيع الغنم— فكيف يمكن أن نتخيل أن تكون للأغنام أخلاق؟! وكيف يمكن أن نتوهَّم أن تعود إلى الله، أو أن يظهرَ المتديِّن الحق، لا الزائف ولا المدَّعي؟! كلَّا! ليس للحيوان أخلاق، ولا يمكن أن ننتظر منه تدينًا …

تأمَّل أيَّ حكمٍ استبدادي، في أي مرحلةٍ من مراحل التاريخ، تجد انتشارًا لجميع الرذائل لا تُخطئه العينُ العابرة؛ الجبن، والخوف، والنفاق، والكذب، والرياء، والمداهنة، وعدم الإخلاص في العمل، ومحاولة الإفلات من القانون بشتى السبل! فها هنا لا يعبِّر المواطن عن رأيه بصراحةٍ إلا إذا اطمأنَّ إلى أنَّ محدِّثه هو «ذات» أخرى لن تشي به، ولن تُبَلِّغ السلطات عن رأيه! بل حتى في هذه الحالة فإن العواقبَ لن تكونَ مضمونةً على الدوام، وهكذا تظهر الشخصية المزدوجة التي تقول في السر ما لا تجرؤ على البوح به في العلن! ويكون «انفصام الشخصية» نمطًا بارزًا في سلوك الفرد، سواء أكان على مستوى رجل الشارع أم من عِلية القوم الذين ينحُون أيضًا نحو الرياء والنفاق والتزلُّف وتمجيد الحاكم والتغنِّي بمناقبه «الخارقة» — على نحو ما يحدث مع بعض الشعراء والمثقَّفين وغيرهم!

غير أن النفاق قد لا يكون سلوكًا مميزًا للفرد فحسب، بل قد ينسحب على الجماعات أيضًا، على نحو ما نجد في الصحف من آيات التهاني والتباريك والتمنيات في كل مناسبة، وكذلك في الهتافات التي تشق عنان السماء مفتدية الحاكم «بالروح وبالدم»، وهي هتافاتٌ سمعناها مدوِّية في عهد عبد الناصر، وقيل لنا يومها: انظروا، كيف يؤمن الشعب بأفكار القائد المُلهَم؟ وكيف يلتفُّ حوله؟ فهو الذي زرع «العزة والكرامة» في نفوس الناس — ولهذا فهم على استعدادٍ أن يفتدوه «بالروح وبالدم»! لكن من سوء حظهم، أن نسمع نفسَ الهتاف المدوِّي في عهد الرئيس السادات، الذي لم يجد أدنى صُعوبةٍ في تحويل دفَّة الحكم من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن الانغلاق إلى الانفتاح، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن التحالف مع الشرق إلى الارتماء في أحضان الغرب، ومن إلقاء إسرائيل في البحر إلى التصالح معها … إلخ، ومع ذلك كله وُصف بالحكمة، وبُعد النظر، وسداد الرأي، ودُبِّجَت له قصائد المديح، وكُتبَت أغاني التمجيد والتهليل، وقوبل بنفس الهتاف الأجوف —هتاف الفداء «بالروح والدم»— الذي لا يعني شيئًا قَط، ولا يُعبِّر إلا عن «النفاق الجمعي»!

لقد لاحظ أحدُ الظرفاء ملاحظةً ذكية على هذا الهتاف الذي شاع في مجتمعنا، فقال: «إذا كان لدى هؤلاء الناس كلُّ هذه الدماء الغزيرة التي يبذلونها عن رضًا فِداءً لكل رئيس، فلِمَ لا يتبرَّعون بشيءٍ منها إلى بنوك الدم التي جفَّت حُلوقُها وهي تدعو إلى التبرُّع بقطراتٍ ولو ضئيلةً من هذه الدماء للجرحى والمرضى، والمساكين والمحتاجين؟!» وكان ردِّي عليه: يا سيدي، إن هؤلاء القوم ليسوا جادِّين في هتافهم ذاك، بل هو ضربٌ من «النفاق الجمعي» الذي بدا واضحًا يوم قُتل السادات وسط حاشيته، وفرُّوا «بدمائهم» دون أن يفتديَه شخصٌ واحد! روى لي زميلٌ عراقي أنه كان يدرُس في الولايات المتحدة عندما شاهد على شاشات التلفزيون الأمريكي ملايينَ العراقيين يهتفون للزعيم المفدَّى «عبد الكريم قاسم»، ثم شاهد بعد سنوات، على شاشة التلفزيون نفسه، عبد الكريم قاسم، يوم الانقلاب عليه، وهو يُمسك، ويجري مذعورًا كالفأر في كل اتجاهٍ مدافعًا عن نفسه بمفرده، وتساءل الزميل العراقي: أين ذهبَت هذه الملايين التي بَحَّت حناجرُها من الهتاف للزعيم «الأوحد»؟! تلك أمثلةٌ منوَّعة على «النفاق الجماهيري» الذي قد ينخدع به الحاكم، فيظُن أن هذه الجماهير سوف تفتديه بقطرةٍ واحدةٍ من دمائها؟!

الفرد ينافق «الطاغية» كما تُنافِقه الجماهير أيضًا، وفي الحالتَيْن انهيارٌ واضحٌ للأخلاق! فلا أخلاق بدون «شخصية إنسانية متكاملة» نالت حقوقَها السياسية، وأصبح لها قيمةٌ وكرامة يعترف بهما المجتمع اعترافًا واضحًا يتجلى في السلوك اليومي، فيحدُث عندنا ما يحدُث في المجتمعات الديمقراطية المتقدمة؛ يتحدث مدير الجامعة مع العامل على أنه إنسانٌ له نفس حقوقه الواجبة الاحترام، يروي أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود، مندهشًا، مما أفرزَته الديمقراطية في إنجلترا: «رأيت صفًّا من الرجال ساعة العصر قد اصطفَّ ليأخذَ دوره في قدَح الشاي، رأيتُ وزيرًا (هو نوبل بيكر) قد وقف أمامه أحد السعاة، فلا هو أخذه الضجر من ذلك، ولا الساعي فزع إذ وجد نفسه أمام الوزير. وإذا افترضنا جدلًا أننا وجدنا الوزير الذي يرتضي بالوقوف خلف الساعي، فهل يمكن أن نجدَ الساعيَ الذي يُحطِّم القاعدة البلهاء — قاعدة العين التي لا تعلو على الحاجب؟!

أصبح عندي —نتيجةً لدراسة موضوع الطغيان والحكم الاستبدادي عمومًا— اعتقادان راسخان؛ الأول هو أن تخلُّف المجتمعات الشرقية بصفةٍ خاصة، والمجتمعات الإسلامية بصفةٍ عامة يعود أساسًا إلى «النظام السياسي»، أما ما يقوله البعض، أحيانًا، من أن الدين هو سببُ هذا التخلف، فهو قولٌ ظاهرُ البطلان، وبالغُ الخطأ في آنٍ معًا؛ فليس في الدين الإسلامي، على وجه التحديد، ما يمنع المجتمع من الانطلاق والتقدم، والآيات القرآنية التي تحث على التفكير وإعمال العقل وإعطاء الإنسان حقوقه وكرامته، لا حصر لها، وهي لا تدعو إلى التفكير «الصامت» الذي يتحول إلى «منولوج» داخلي بين الفرد ونفسه بحيث لا يُنبئ صاحبه بشيءٍ مما يدور بخاطره، بل هو الفكر الذي يعبِّر عنه المفكر في حرية، ويعتبره ضربًا من الاجتهاد لصاحبه أجرٌ عليه حتى لو أخطأ.

وفضلًا عن ذلك، فإن الدين يتلوَّن بلون النظام السياسي، ونحن نعرف كيف حفَر بعضُ رجال الدين ونقَّبوا — إبَّان حكم الملك فاروق — حتى استخرجوا شجرة عائلته الموقَّرة ونسبوه، في النهاية، إلى الرسول الكريم! بل أعجبُ العجَب أن يكونَ هذا النسبُ عن طريق أمه «الملكة نازلي» التي كان رجل الشارع يعلم أنها تكادُ تقتربُ من البغايا لكثرة ما لها من عُشاق، وعلى رأسهم رئيس الديوان الملكي! كما نعرف أيضًا أن بعضَ رجال الدين في العهد الاشتراكي — إبَّان الحكم الناصري — حفَروا ونقَّبوا وجعلوا من أبي ذر الغفاري رائدًا للاشتراكية! ذلك كله في التاريخ القريب، أما التاريخ البعيد فسوف يجد القارئ أمثلةً لا حصر لها — لا سيما في الباب الثالث «الطاغية يرتدي عباءة الدين» — على التلاعب بالدين واستغلاله سياسيًّا، وكيف قُتل المفكِّرون باسم الإسلام السمح «لأنهم كفرة وملاحدة»، ويكفي أن نقرأَ تصويرَ الشاعر صلاح عبد الصبور الرائع في «مأساة الحلاج» عن استغلال الحكام للدين، وكيف لجَئوا إلى رشوة الجماهير الفقيرة الساذجة، وهي التي يروي الشاعر القصة على لسانها؛ حيث تقول الجماهير الساذجة:

صَفُّونا … صفًّا … صفًّا،

الأجهرُ صوتًا والأطول، وضَعوه في الصف الأول،

ذو الصوت الخافت والمتواني، وضعوه في الصف الثاني،

أعطَوا كُلًّا منا دينارًا من ذهبٍ قاني،

برَّاق لم تمسسه كفٌّ من قبل،

قالوا: صيحوا: زنديقٌ كافر! فصحنا: زنديقٌ كافر!

قالوا: صيحوا: فليُقتل إنا نحمل دمَه في رقبتنا.

قالوا: امضوا … فمضينا …

الأجهر صوتًا والأطول، يمضي في الصف الأول،

ذو الصوت الخافت والمتواني، يمضي في الصف الثاني!

وتكفيرُ المفكِّرين باسم الدين الذي شهده تاريخنا السياسي لا يزال قائمًا بيننا حتى اليوم، فتراهم يفرِّقون بين الرجل وزوجه؛ لأنه أبدى رأيًا يُخالف رأيهم «وهم عندما يرفضون الإصغاء لرأي مُخالِف لأنهم واثقون من زيفه، فإنما يزعمون لأنفسهم العصمة من الخطأ!» ثم يتغنَّون بعد ذلك بما يكفُلُه الإسلام من حريةٍ للتفكير وسماحةٍ في الاعتقاد، دون أن يجدوا بين الموقفَين أيَّ تناقُض، ودون أن يشعروا بأي حرجٍ أو غضاضة!

ولكن لماذا لا يجد المتديِّن المدَّعي أي تناقضٍ بين سلوكه وأقواله؟ وهي سمة يتسم بها المواطن، بصفةٍ عامة، في ظل الحكم الاستبدادي: سواء أكان متدينًا أو غير متدين، مثقفًا أو من عامة الناس …؟! السبب هو غياب العقل —وهو نتيجةٌ حتمية لغياب الحرية؛ فالعقل والحرية وجهان لعملةٍ واحدة— وإذا غاب العقلُ غابت قوانينُه معه، ومركزها الاتساق وعدم التناقض؛ ولهذا يصبح من الطبيعي جدًّا أن يقع المواطنُ في التناقُض، سواء في سلوكه أو عباراته، دون أن يشعر بهذا التناقض!.

أما الاعتقاد الثاني الذي أصبح راسخًا في أعماقي، فهو أن «النظام السياسي» أشدُّ خطورة، وأعمقُ أثرًا في حياة الناس من «النظام الاقتصادي» — فقد تكون الدولة غنيةً، وذاتَ مصادرَ اقتصادية وفيرة، ثم تُرزَق بحاكمٍ سفيهٍ يبدِّد أموالها في مشروعاتٍ خيالية، وأحلامٍ واهية، وانقلاباتٍ فاشلة، بحجة تصدير الثورة إلى الخارج، وتحرير البشر، والدفاع عن حقوقهم — مع أنه يُحيل مواطنيه إلى أفرادٍ لا همَّ لهم سوى البحث عن قوت يومهم! والأمثلة كثيرة؛ فهذه دولةٌ عربيةٌ بترولية كانت فقيرةً معدمة، ثم رزقَها الله بآبار البترول التي تدفقَت منها مليارات الدولارات، لكنها عادت بفضل حاكمٍ سفيه ونظامٍ سياسي سيِّئ فقيرةً معدمةً مرةً أخرى، لدرجة أن صديقًا عائدًا من هذا البلد روى لي أن الشباب هناك يمكن أن يُحطِّم زجاج سيارة لأنه شاهد فيها لفافة تبغ! ويصطَف المواطنون في طوابيرَ طويلةٍ أمام الجمعيات التعاونية بحثًا عن الزاد مرةً والملابس مرةً أخرى!

خُذ مثلًا آخر «طاغية بغداد» وما فعلَه من تبديدٍ لثروة بلاده استعدادًا للحرب هنا، أو الحرب هناك، أو لتحرير فلسطين (التي لم يُطلِق في سبيلها طلقةً واحدة)، ثم اسأل نفسك: أكان يُمكِن لهذه الثروة البترولية الطائلة أن تذهبَ أدراجَ الرياح، لو كان هناك نظامٌ سياسيٌّ ديمقراطي يحكُم فيه الشعب نفسَه بنفسِه؟! ثم اسأل نفسك مرةً أخرى: لِمَ لا يحدثُ شيء من ذلك في الدول المتقدمة؟! ولِمَ تكثر عندنا الانقلاباتُ العسكرية «الثورية»، ولا نسمع مرةً واحدة أن الجيش في إنجلترا مثلًا، قام بثورة، أو أن الجيش في الولايات المتحدة عمد ليلًا إلى قلب نظام الحكم «الفاسد»، ليقيم نظامًا «ثوريًّا» يرعى مصالح الجماهير؟! يأتيك الجوابُ سريعًا وواضحًا؛ لأن القانون هناك هو الذي يحكم — لا القوة العسكرية — القانون هو القوة القادرة على التغيير، أما عندنا فإن القوة القادرة على التغيير هي الجيش: «ومَن يرفَع يدَه بالسيف فبالسيف يُقتل.» كما قال السيد المسيح.

واستكمالًا لتوضيح الفكرة التي نسوقُها، والتي تقول إنَّ «النظام السياسي» أشدُّ خطورةً وأعمقُ أثرًا في حياة الناس وتطوُّرهم وتقدُّمهم، فلنأخذ الصورة المضادة؛ دولة مثل الهند فقيرة ومُعدمة، تعاني — إلى جانب المشكلات الاقتصادية — من مشكلاتٍ دينية وطائفية وعاداتٍ وتقاليد بالية … إلخ، ومع ذلك فقد استطاعت بفضل نظامٍ سياسي جيد (رغم أنه لم يصل بعدُ إلى المستوى المطلوب) أن تصنع الطائراتِ التي حاولنا شراءها أو حتى شراء قطع الغيار منها في حرب ١٩٧٣م، لكنها رفضَت؛ لأن اتفاقياتها مع الروس تمنع ذلك، كما استطاعت أن تصنع القاطراتِ في الوقت الذي نستوردُ فيه نحن عرباتِ القطار العادية!

ولهذا كله فقد ظهر إجماعٌ ملحوظ في السنوات القليلة الماضية في جميع أنحاء العالم حول شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظامٍ للحكم، بعد أن لحقَت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة وآخرها النظام الشيوعي، حتى أصبحَت هذه الديمقراطية تشكِّل نقطة النهاية في النظام الأيديولوجي للإنسان؛ ومن ثَم اعتبرها البعضُ «نهاية التاريخ»، بمعنى أنه من غير المستطاع أن نجدَ ما هو أفضل من الديمقراطية مثلًا أعلى!

ويذهب «فوكوياما» المفكِّر الأمريكي الجنسية، الياباني الأصل، إلى أننا في نهاية القرن العشرين نشهد سقوط الأنظمة الدكتاتورية:

(أ) الدكتاتورية السلطوية العسكرية اليمينية.

(ب) والدكتاتورية الشمولية الشيوعية اليسارية.

ولقد أدى سقوط الأنظمة الاستبدادية، في جميع الحالات، إلى إفساح الطريق أمام الديمقراطية الليبرالية المستقرة، التي أصبحَت المطمحَ السياسيَّ الواضحَ الوحيد، في مختلف المناطق والثقافات في كوكبنا هذا.

النظام السياسي الجيد هو الأساس، والتطبيق الدقيق للديمقراطية هو الحل لجميع مشاكلنا — لا مجرد التمسح في الديمقراطية (وإن كان ذلك هو في حد ذاته اعترافٌ ضمني بأنها النظام الأمثل الذي وصلَت إليه البشرية)، أو كتابتها بخطٍّ عريض في الدستور، كما تفعل تقريبًا جميع الأنظمة العربية! الحل: هو أن تتحول الديمقراطية إلى سلوكٍ في حياة المواطن، فيحترم حقوقَ غيره، إن المجتمع، في هذه الحالة، سوف ينبذُه ويحتقرُه — حتى ولو لم يقع تحت طائلة القانون. والنظام السياسي الجيد هو الذي يترتَّب عليه النظام الاقتصادي الجيد — وليس العكس — النظام الذي يرتضيه الناسُ جميعًا لأنهم يحكمون أنفسهم، ويوجِّهون اقتصادَهم الوجهةَ التي يرضَونها.

النظام السياسي الجيد هو الذي يستمتع فيه المواطنون بحقوقهم، ويمارسون حرياتهم كاملةً غير منقوصة، والمجتمع الذي لا تُوجَد فيه الحريات ولا تُحترم فيه الحقوق، لا يمكن أن يكون مجتمعًا حرًّا مهما يكن شكل الحكومة.

النظام السياسي الجيد هو الذي يُفرِز، على نحوٍ طبيعي، الأخلاقَ الجيدة، فيؤدي فيه المواطنون واجباتهم، ويقومون بأعمالهم ووظائفهم بالتزامٍ ينبع من الداخل لا من الخارج، من صميم الشخصية الإنسانية المتكاملة!

أما النظام السياسي السيئ فهو يعمل على «تدمير الإنسان»، وتحطيم قيمه وكرامته، فلا تجد فيه سوى أخلاقٍ خارجية تُبنى على الخوف من العقاب، وتتحول إلى رذائلَ فاحشةٍ إذا ضَمِنَت الإفلاتَ منها، لن تجسِّد سوى تديُّنٍ زائف، لا يأخذ من الدين سوى المظهر الخارجي، دون الجوهر الحقيقي، فلا يمانع في القتل والنهب والسلب، وتكفير الآخرين باسم الدين السمح — وكأن هؤلاء وحدهم هم «المعصومون من الخطأ»!

وباختصار، في النظام السياسي السيئ يتم تحويل الشعب إلى جماجم، وهياكلَ عظمية تسير في الشارع منزوعةَ النخاع، شخصيات تافهة تطحنها مشاعر العجز والدونية واللاجدوى!.

والله نسأل، أن يهدينا جميعًا سبيل الرشاد.

* هذا النص هو مقدمة الطبعة الثالثة من كتاب الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، لمؤلفه: الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، نشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق