التكنولوجيا ليست مجرد وسيلة للإلهاء، بل قد تكون طوق نجاة ضد العزلة أو فخاً للمعلومات المضللة والاحتيال الرقمي اعتماداً على كيفية استخدامها. المسنون ليسوا فئة متجانسة، فبينما يجد البعض في الأجهزة وسيلة للتواصل الاجتماعي والتعلم، قد ينغمس آخرون في محتوى ضار يضعف روابطهم الأسرية. استخدام التكنولوجيا كجسر لتعزيز الحوار...
تستند هذه المقالة إلى نص حوار أجراه الكاتب الصحفي والمحلل التقني تشارلي وارزل، ونُشر عبر منصة مجلة "ذا أتلانتيك" (The Atlantic) الأمريكية، ضمن سلسلة بودكاست "Galaxy Brain". تحت عنوان (ماذا عن تقليص وقت الشاشة للبالغين قليلاً؟)، استضاف وارزل في هذا النقاش الدكتور إبست فاهيا (Dr. Ipsit Vahia)، رئيس قسم الطب النفسي للمسنين ومدير مختبر التكنولوجيا والشيخوخة في مستشفى "ماكلين" التابع لـ "ماس جنرال بريغهام".
ويوضح الخبير أن التكنولوجيا ليست مجرد وسيلة للإلهاء، بل قد تكون طوق نجاة ضد العزلة أو فخاً للمعلومات المضللة والاحتيال الرقمي اعتماداً على كيفية استخدامها. ويشير إلى أن المسنين ليسوا فئة متجانسة، فبينما يجد البعض في الأجهزة وسيلة للتواصل الاجتماعي والتعلم، قد ينغمس آخرون في محتوى ضار يضعف روابطهم الأسرية. ويقترح استخدام التكنولوجيا كجسر لتعزيز الحوار بين الأجيال عبر الاهتمام بما يشاهده الكبار ومشاركتهم اهتماماتهم الرقمية. فالذكاء الاصطناعي والمنصات الحديثة تقدم فرصاً هائلة لتحسين جودة الحياة، شريطة التعامل معها بوعي وحذر لتجنب مخاطر الانفصال عن الواقع.
مقدمة: انقلاب الأدوار في العصر الرقمي
في العقدين الماضيين، انصب التركيز العالمي للباحثين التربويين، وعلماء النفس، وأولياء الأمور على معضلة واحدة مهيمنة: "وقت الشاشة" (Screen Time) لدى الأطفال والمراهقين. كانت السردية السائدة تصور جيلاً ناشئاً غارقاً في العوالم الافتراضية، معزولاً عن الواقع، وعرضة لمخاطر التنمر الإلكتروني وتشتت الانتباه. ومع ذلك، ونحن نتوغل في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بدأت تلوح في الأفق ظاهرة ديموغرافية وتقنية معاكسة، وتكاد تكون أكثر تعقيداً: إنها ظاهرة انغماس الآباء والأجداد في شاشاتهم.
لم يعد المشهد النمطي للجد الذي يحكي القصص لأحفاده هو المشهد الوحيد في التجمعات العائلية؛ بل زاحمه، وربما طغى عليه في بعض الأحيان، مشهد الجد أو الجدة المنحنيين على أجهزة "الآيباد" أو الهواتف الذكية، يمررون أصابعهم بلا توقف عبر مقاطع الفيديو القصيرة (Reels) أو يغرقون في موجزات الأخبار التي لا تنتهي. هذا التحول الجذري يدفعنا لطرح مصطلح جديد ومهم وهو "التقاعد القائم على الهاتف" (Phone-based Retirement).
إن هذا المفهوم يشير إلى مرحلة الشيخوخة التي لم تعد تُعرّف فقط من خلال تراجع النشاط البدني أو التقاعد الوظيفي، بل تُعرّف بشكل متزايد من خلال الوساطة الرقمية. إنه تقاعد تشكله العزلة الجسدية التي تعوضها (أو تفاقمها) التغذية الخوارزمية المستمرة، ومنصات تواصل اجتماعي لم تُصمم في الأصل مع وضع القدرات الإدراكية والنفسية للمستخدمين المسنين في الاعتبار.
سنغوص في أعماق البنية النفسية لكبار السن في علاقتهم بالتكنولوجيا، ونحلل مفهوم "الأمية الرقمية" في مقابل "الخبرة الحياتية"، ونناقش المخاطر المستجدة مثل "المحتوى الرديء" (Slop) والاحتيال المعزز بالذكاء الاصطناعي، وصولاً إلى صياغة منهجية للتعامل العائلي مع هذه التحديات.
تفكيك "الكتلة الواحدة": التباين الديموغرافي والتقني
من الأخطاء المنهجية الفادحة التي يقع فيها المجتمع، وربما حتى بعض الباحثين غير المتخصصين، هو التعامل مع فئة "كبار السن" بوصفهم كتلة متجانسة. هذا التصنيف الاختزالي يحجب عنا فهم الديناميكيات الدقيقة لكيفية تفاعل هذه الشريحة مع التكنولوجيا.
1. الفجوة الزمنية والخبراتية
عندما نتحدث عن "كبار السن"، فنحن نشير عادة إلى أي شخص يتجاوز عمره 65 عاماً. ولكن، إذا نظرنا بعين فاحصة، سنجد أن هذه الفئة تمتد لتشمل أشخاصاً في الستينيات من عمرهم، وآخرين في التسعينيات أو حتى تجاوزوا المائة. الفارق الزمني هنا قد يصل إلى 30 أو 40 عاماً. هذا الفارق ليس مجرد رقم، بل هو جيل كامل أو جيلان من التطور التقني والاجتماعي.
* الستينيات والسبعينيات (الكهولة المبكرة): غالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص قد عايشوا ظهور الكمبيوتر الشخصي في منتصف حياتهم المهنية، واستخدموا الهواتف المحمولة في أوج نشاطهم. لديهم مستوى معين من "الطلاقة الرقمية"، وقدرة أعلى على التكيف مع التحديثات.
* الثمانينيات والتسعينيات (الشيخوخة المتقدمة): هؤلاء الأشخاص قد تقاعدوا قبل هيمنة الإنترنت، وكانت علاقتهم بالتكنولوجيا وظيفية بحتة أو معدومة. دخولهم إلى عالم الهواتف الذكية جاء متأخراً وغالباً بدافع الضرورة أو بضغط عائلي، مما يجعل منحنى التعلم لديهم مختلفاً تماماً.
لذا، يؤكد د. فاهيا أنك "إذا رأيت مسناً واحداً يستخدم التكنولوجيا، فأنت قد رأيت مسناً واحداً فقط". لا يمكن تعميم تجربة الجد الذي يبرمج على الكمبيوتر على الجدة التي تجد صعوبة في فتح قفل الشاشة.
2. أنماط التبني التقني: من الرفض إلى الانغماس
تاريخياً، كان كبار السن أبطأ في تبني التكنولوجيا. قاوم الكثيرون الحواسيب المكتبية لتعقيدها، والحواسيب المحمولة لدقة شاشاتها وصغر لوحات مفاتيحها. ولكن، حدث تحول زلزالي مع ظهور الأجهزة اللوحية (Tablets) وتحديداً "الآيباد".
يمكن تسمية هذا بـ "ظاهرة جولديلوكس" (Goldilocks Phenomenon) التقنية؛ فالآيباد كان "مناسباً تماماً". شاشة كبيرة بما يكفي لتعويض ضعف البصر، واجهة لمسية بديهية تلغي الحاجة للتعامل مع "الماوس" المعقد حركياً، ونظام تشغيل مغلق لا يتطلب تنصيب برمجيات معقدة. هذا الجهاز كان البوابة التي عبرت منها ملايين العقول المسنة إلى الفضاء الرقمي، ومنه إلى الهواتف الذكية الكبيرة.
سيكولوجية الشاشة في خريف العمر
لفهم سبب انغماس كبار السن في هواتفهم، يجب أن نتجاوز التفسيرات السطحية (مثل الملل) لنغوص في الدوافع النفسية والعصبية العميقة التي تجعل الشاشات جذابة، وربما إدمانية، لهذه الفئة العمرية.
1. العزلة والبحث عن النافذة
مع التقدم في العمر، تتقلص الدوائر الاجتماعية الواقعية. يتقاعد الأصدقاء، يرحل البعض، يبتعد الأبناء، وتفرض القيود الجسدية (صعوبة المشي، ضعف السمع، المنع من القيادة) حصاراً غير مرئي على المسن. في هذا السياق، لا يعود الهاتف مجرد جهاز، بل يتحول إلى "النافذة الوحيدة" المفتوحة على العالم.
توفر وسائل التواصل الاجتماعي وهم "المشاركة". فعندما يضغط المسن زر "إعجاب" على صورة، أو يكتب تعليقاً، فإن دماغه يفرز الدوبامين المرتبط بالمكافأة الاجتماعية. إنه يشعر بأنه "موجود" وأن صوته مسموع، حتى لو كان ذلك في فراغ رقمي.
2. التفاعل السلبي مقابل التفاعل النشط
يميز الخبراء بين نوعين من الاستخدام:
* الاستخدام النشط: وهو التواصل المباشر (مكالمات فيديو، رسائل نصية، تعليقات متبادلة). هذا النوع يعزز الصحة العقلية ويحارب الاكتئاب.
* الاستخدام السلبي: وهو التمرير اللامتناهي ومشاهدة الفيديوهات دون تفاعل. هذا النوع هو الأخطر، حيث يضع المسن في حالة من "التنويم المغناطيسي" الرقمي. تكمن جاذبية هذا النمط في أنه لا يتطلب جهداً ذهنياً أو جسدياً؛ فالمحتوى يتدفق تلقائياً، مما يناسب حالات التعب أو التراجع المعرفي البسيط.
3. الحاجة إلى التحقق
مع تراجع الدور الاجتماعي للمسن وشعوره أحياناً بأنه "عبء" أو أن آراءه "قديمة"، تأتي التكنولوجيا لتعطيه شعوراً زائفاً بالأهمية. خوارزميات فيسبوك ويوتيوب مصممة لتعرض للمستخدم ما يوافق هواه. إذا كان المسن قلقاً من الوضع الأمني، ستغمره الخوارزمية بفيديوهات تؤكد مخاوفه. هذا "الصدى" يمنحه شعوراً بالتحقق: "أنا لست مخطئاً، العالم فعلاً مكان مخيف، وهذه الفيديوهات تثبت ذلك". هذا التعزيز المستمر يخلق حلقة مفرغة من الانغماس.
أزمة المحتوى الرقمي: "الركاكة" و"الحقيقة المشوهة"
لعل أخطر ما يواجهه كبار السن في تقاعدهم القائم على الهاتف ليس "الوقت" المهدر، بل "نوعية" ما يستهلكونه. هنا يبرز مصطلحان محوريان: "الثقافة الإعلامية" و"المحتوى الرديء".
1. فجوة الثقافة الإعلامية: "المهاجرون الرقميون"
بينما نشأ الجيل الحالي (Gen Z و Alpha) في بيئة رقمية، واكتسبوا مناعة فطرية وشكوكاً طبيعية تجاه ما يرونه على الشاشات (يعرفون أن الصور يمكن تعديلها، وأن العناوين تهدف لجذب النقرات)، فإن كبار السن يُعتبرون "مهاجرين رقميين".
لقد نشأوا في عصر كانت فيه الصورة دليلاً قاطعاً على الحقيقة، والخبر المكتوب قد مر عبر تدقيق تحريري. لذا، عندما يرى المسن فيديو على فيسبوك، فإن غريزته الأولى هي "التصديق". يفتقر الكثير منهم إلى الأدوات المعرفية اللازمة لفك شفرة التلاعب الرقمي، أو فهم كيف تعمل خوارزميات التوصية التي تهدف لإبقائهم في التطبيق لأطول فترة ممكنة، بغض النظر عن دقة المحتوى.
2. طوفان "المحتوى الرديء"
يستخدم تشارلي وارزل مصطلح "Slop" (المحتوى الرديء/النفايات الرقمية) لوصف نوع جديد من المحتوى الذي يغزو منصات مثل فيسبوك. هذا المحتوى يتميز بكونه:
* مُولّد بالذكاء الاصطناعي: صور لحيوانات غريبة، أطفال بملامح غير طبيعية، أو شخصيات دينية في سياقات عجيبة (مثل "يسوع الروبيان").
* عالي التباين والإثارة: مصمم بصرياً لجذب انتباه العين، خاصة لمن يعانون من ضعف بصري، بألوان فاقعة وعناوين عاطفية ("اكتب آمين إذا كنت تحب الله").
* خوارزمي بحت: لا يوجد بشر حقيقيون خلف هذا المحتوى؛ إنها مزارع محتوى تستخدم الذكاء الاصطناعي لإنتاج آلاف الصور يومياً لحصد التفاعل.
المشكلة هنا ليست فقط في رداءة المحتوى، بل في أن كبار السن يتفاعلون معه بجدية. يعلقون بالدعوات، ويشاركونه، مما يرسل إشارة للخوارزمية بأنهم "يحبون" هذا النوع، فتغرقهم المزيد منه، مما يعزلهم تدريجياً عن المحتوى الحقيقي (صور العائلة، الأخبار الموثوقة).
3. من "الركاكة" إلى "السمية"
الخطر الأكبر هو أن آليات الخوارزميات التي تروج لـ "المحتوى الرديء" هي نفسها التي تروج للمحتوى المضلل والسام. المسن الذي يشاهد فيديو "بريئاً" عن تجميعات الأطفال، قد تقوده ميزة "التشغيل التلقائي" تدريجياً إلى فيديوهات عن نظريات المؤامرة، أو خطابات الكراهية، أو التخويف من المهاجرين، أو العلاجات الطبية الزائفة.
أشارت الممرضة في الحوار إلى أن المرضى المسنين غالباً ما ينتهي بهم المطاف في "طرق مسدودة" من المحتوى السام أو الغريب (مثل فيديوهات بلغات لا يفهمونها) لمجرد أنهم تركوا الجهاز يعمل. هذا الانجراف الرقمي يساهم في تشكيل رؤية مشوهة للعالم، حيث يبدو الواقع أكثر عنفاً وخطورة مما هو عليه، مما يزيد من عزلة المسن وخوفه من الخروج.
التهديد الأمني: الاحتيال والذكاء الاصطناعي
ينتقل د. فاهيا بالحوار إلى مستوى آخر من الخطورة، وهو الاستهداف المالي والأمني. لم يعد الاحتيال يقتصر على "الأمير النيجيري" الذي يطلب مساعدة بنكية، بل تطور ليصبح تهديداً وجودياً لمدخرات واستقرار كبار السن.
1. الاستهداف الدقيق
توفر البيانات الضخمة للمحتالين قدرة هائلة على تحديد الضحايا المحتملين: كبار السن الذين يعيشون وحدهم، ولديهم مدخرات تقاعد، ويظهرون نشاطاً رقمياً ساذجاً.
2. دور الذكاء الاصطناعي في الاحتيال
* استنساخ الصوت: يمكن للمحتالين الآن استخدام بضع ثوانٍ من صوت حفيد المسن (مأخوذة من فيديو على تيك توك) لتوليد مكالمة هاتفية كاملة بصوته، يطلب فيها المال لإنقاذه من ورطة. بالنسبة لمسن يثق بحواسه، هذا الدليل السمعي دامغ ولا يقبل الشك.
* روبوتات الدردشة العاطفية: يشعر الكثير من كبار السن بالوحدة، مما يجعلهم عرضة لعمليات "الاحتيال الرومانسي" أو احتيال الصداقة. يمكن لروبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي إجراء محادثات طويلة، وإظهار التعاطف، وبناء ثقة عميقة على مدى أشهر، قبل أن تطلب تحويلات مالية.
3. إشكالية "الموافقة الآلية" في الروبوتات
يثير د. فاهيا نقطة فلسفية وتقنية بالغة الأهمية حول طبيعة الذكاء الاصطناعي التوليدي (LLMs). هذه الأنظمة مصممة لتكون "مفيدة" و"متوافقة". إنها تميل لتأكيد انحيازات المستخدم.
إذا سأل مسن ابنته: "هل أستثمر في هذه العملة الغريبة؟"، ستقول له بحزم: "لا، هذا احتيال". لكن إذا سأل روبوت دردشة، فقد يجيبه بأسلوب دبلوماسي: "هذا سؤال مثير، هناك آراء متعددة، البعض حقق أرباحاً..."، مما قد يفسره المسن على أنه ضوء أخضر. غياب "الرادع البشري" الحازم، واستبداله بـ "الميسر الرقمي" اللبقه، يشكل فجوة أمان خطيرة.
الوجه المشرق: التكنولوجيا كشريان حياة
على الرغم من قتامة الصورة السابقة، يصر د. فاهيا على ضرورة عدم الانجرار وراء "الذعر الأخلاقي". التكنولوجيا، في جوهرها، محايدة، وسياق الاستخدام هو ما يحدد قيمتها. بالنسبة لكثير من كبار السن، الهواتف ليست مجرد أدوات ترفيه، بل أدوات بقاء.
1. التكنولوجيا الوقائية
أثبتت الدراسات، خاصة أثناء جائحة كورونا، أن المسنين الذين يتمتعون بكفاءة رقمية كانوا أقل عرضة للاكتئاب.
* الاستقلالية المعززة: تطبيقات مثل "Uber" و"Lyft" أعادت للمسنين الذين فقدوا رخص قيادتهم القدرة على الحركة دون الاعتماد على أبنائهم. تطبيقات توصيل الطعام والبقالة ضمنت لهم استقلالية معيشية. هذا النوع من التكنولوجيا يعزز الكرامة الذاتية.
* التواصل المجتمعي: انتقال الطقوس الدينية والأنشطة المجتمعية إلى "Zoom" و"YouTube" سمح للمقعدين والمرضى بالبقاء جزءاً من نسيجهم الاجتماعي.
2. "العلاج بالمحتوى الرديء"
في طرح غير تقليدي ومثير للاهتمام، يقترح د. فاهيا أن حتى "المحتوى الرديء" قد يكون له فائدة إذا تم تغيير سياق استهلاكه.
* إذا كان المسن يشاهد صوراً غريبة بمفرده، فهذه عزلة.
* أما إذا قام بإرسال هذه الصور عبر "واتساب" لأصدقائه أو عائلته للضحك عليها أو التساؤل عن غرابتها، فقد تحولت الصورة من "نفايات رقمية" إلى "عملة اجتماعية" (Social Currency) ووسيلة للتواصل.
هنا تتحول التكنولوجيا إلى "مذيب للفوارق"؛ فليس كل مسن يستطيع الرسم أو العزف، لكن الجميع يستطيع مشاركة صورة مضحكة. هذا التفاعل البسيط يحافظ على الروابط الإنسانية حية.
3. الطب الرقمي والمستقبل
يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقاً جديدة في رعاية المسنين. الروبوتات الطبية التي تذكر بمواعيد الدواء، والتطبيقات التي تراقب العلامات الحيوية، وروبوتات الدردشة التي توفر "تنفيسًا" عاطفياً في أوقات متأخرة من الليل عندما يكون البشر نائمين؛ كلها تمثل جانباً مشرقاً لا يمكن إغفاله. الكفاءة والتوفر الدائم للذكاء الاصطناعي قد يعوضان النقص الحاد في مقدمي الرعاية البشرية.
المنهجية العائلية: كيف نتعامل مع "التقاعد الهاتفي"؟
كيف يجب أن تتصرف العائلات؟ كيف يتعامل الابن الذي يرى والده يغرق في فيسبوك، أو الابنة التي تقلق من استخدام والدتها للآيباد؟ يقترح الخبراء منهجية قائمة على "الاحتواء" بدلاً من "المواجهة".
1. نبذ الأحكام المسبقة
أول خطوة هي الاعتراف بأن "الانزعاج" الذي يشعر به الأبناء عند رؤية آبائهم على الهواتف قد يكون نابعاً من توقعاتهم الخاصة وليس من وجود مشكلة حقيقية. زيارة الأبناء في العطلات هي "حدث استثنائي"، بينما استخدام الهاتف هو "الروتين اليومي" للمسن. لا يجب الحكم على الروتين بناءً على الاستثناء. كما أن لوم المسن أو انتقاده ("أنت مدمن"، "اترك هذا الهاتف") لن يؤدي إلا إلى شعوره بالخزي والعناد، وربما يدفعه للانغماس أكثر هرباً من النقد.
2. الفضول كمدخل للتواصل
بدلاً من المصادرة والمنع، يجب استخدام الفضول:
* "ماذا تشاهد يا أبي؟"
* "هذا فيديو مضحك، كيف وجدته؟"
* "هل يمكنك أن تريني التطبيق الذي تستخدمه؟"
هذا الأسلوب يحقق هدفين: الأول، أنه يكسر العزلة ويحول النشاط الفردي إلى نشاط مشترك. الثاني، أنه يمنح الابن فرصة لتقييم المحتوى بطريقة غير مباشرة ولطيفة، وربما توجيه الوالد نحو محتوى أفضل دون إشعاره بالجهل.
3. التوجيه نحو "الوظيفية"
مساعدة كبار السن على اكتشاف الجوانب "الوظيفية" للهاتف بدلاً من "الاستهلاكية". تعليمهم كيفية استخدام مكالمات الفيديو بدلاً من التصفح الصامت، كيفية البحث عن وصفات طبخ، أو كيفية لعب ألعاب تنشط الذاكرة (مثل الكلمات المتقاطعة) بدلاً من مشاهدة الفيديوهات السلبية. الهدف هو تحويل الهاتف من "تلفزيون صغير" إلى "أداة تواصل".
4. الحماية التقنية الصامتة
يمكن للأبناء، بموافقة ودعم آبائهم، تفعيل بعض إجراءات الحماية:
* تنظيف موجزات الأخبار (Feeds) من الصفحات السامة عن طريق إلغاء متابعتها.
* تثبيت برامج حجب الإعلانات لمنع الروابط الاحتيالية.
* تفعيل ميزات "الرفاهية الرقمية" لتقليل إجهاد العين.
* شرح مبسط ومستمر حول كيفية اكتشاف الصور المزيفة بالذكاء الاصطناعي، ليس كمحاضرة، بل كلعبة ("دعنا نتحرز أي من هذه الصور حقيقية وأيها مزيفة").
الخاتمة: نحو شيخوخة رقمية صحية
إن ظاهرة "التقاعد القائم على الهاتف" ليست مجرد مرحلة عابرة، بل هي الواقع الجديد لمستقبل الشيخوخة البشرية. مع تقدم الأجيال الحالية (التي تعتبر أكثر تقنية) في العمر، ستصبح التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من نسيج التقاعد.
التحدي لا يكمن في "الشاشة" بحد ذاتها، بل في "ما خلف الشاشة". إنها معركة بين خوارزميات صممت لاستنزاف الانتباه وتعظيم الربح، وبين احتياجات إنسانية عميقة للتواصل، والكرامة، والمعنى في سنوات الحياة الأخيرة.
يتطلب التعامل مع هذا الواقع تضافر جهود متعددة:
1. على مستوى الشركات التقنية: تصميم منصات تراعي الخصوصية الإدراكية لكبار السن، وتكبح جماح المحتوى الرديء والمضلل الذي يستهدفهم.
2. على مستوى المجتمع: محو "الأمية الرقمية" لدى كبار السن، ليس فقط بتعليمهم "كيف" يستخدمون الأجهزة، بل "كيف" يفكرون نقدياً تجاه ما تعرضه.
3. على مستوى العائلة: التحلي بالصبر، والتفهم، واستخدام التكنولوجيا كجسر للتواصل بين الأجيال بدلاً من اعتبارها جداراً عازلاً.
في النهاية، قد لا نستطيع منع "التقاعد القائم على الهاتف"، لكننا بالتأكيد نستطيع العمل لجعله تقاعداً آمناً، متصلاً، وإنسانياً، حيث تخدم التكنولوجيا الإنسان في أضعف حالاته، ولا تستغله. إنها دعوة لإعادة التفكير في كيفية مرافقتنا لآبائنا وأمهاتنا في رحلتهم الرقمية، تماماً كما رافقونا في خطواتنا الأولى في الحياة.



اضف تعليق