سياسة - الحكم الرشيد

نشأة الدمقراطية

البحث في اشتقاق اللفظ ومعرفة أصله لا يكاد يُفِيدنا في شيء، بل إن خير وسيلة لمعرفة معنى الدمقراطية، أن ننظر إلى ما يعمله مَن نعيش بينهم من الرجال والنساء، فإذا فعلنا ذلك رأَيْنا عامة الناس؛ رجالهم ونساءهم في بعض البلاد يتمتعون بقسطٍ من السلطة السياسية، عن طريق...

الدمقراطية لفظ متعدِّد المَعَاني يَمُتُّ إلى العواطف ببعض الصلة، إذا رأى فيه بعض الناس لواء خفاقًا يدعوهم إلى الانضواء تحته، لا لفظًا علميًّا جامدًا خاليًا من العاطفة، فقد يرى فيه البعض خرافة عتيقة ذهبتْ روعتها وأبلَى الزمان جِدَّتَها، ذات صلاتٍ ممقوتة بالرأسمالية والاستعمار؛ لذلك لم يكن موضوع هذا الكتاب مما يُبحث عنه في معاجم اللغة، بل مما يُبحث عنه في عواطف الأحياء من الناس؛ الرجال منهم والنساء وأهوائهم وعاداتهم ومعتقداتهم؛ أي إن البحث في اشتقاق اللفظ ومعرفة أصله لا يكاد يُفِيدنا في شيء، بل إن خير وسيلة لمعرفة معنى الدمقراطية، أن ننظر إلى ما يعمله مَن نعيش بينهم من الرجال والنساء، فإذا فعلنا ذلك رأَيْنا عامة الناس؛ رجالهم ونساءهم في بعض البلاد يتمتعون بقسطٍ من السلطة السياسية، عن طريق الجمعيات النيابية والوزارات المسئولة، وتلك هي الدول الدمقراطية.

لكننا نرى الشعوب في أكثر البلاد تسيطر عليهم فئة قليلة من الحكام، سلطانهم مُطلَق من كل قَيْد، ولا يُباح للناس أن يَنقدوه، وفي بعضها أُعيدت منذ عهدٍ غير بعيد السلطة السياسية بشكلها القديم.

لقد كانت كثرة الناس في البلاد الغربية منذ عشرين عامًا، إذا ذُكرتْ أمامَهم المبادئ الدمقراطية، عدُّوا ذلك من نافلة القول أو مِن البديهات، وكان يظن أن الناس وإنْ لم يُؤتَوْا حظًّا كاملًا من العقل والإدراك، لا يَستَحْيون أن يفكِّروا ذلك التفكير القليل الذي تسمح لهم به مداركهم، فإذا شاء أحدهم أن يسلك سبيلًا، كان أفضل له أن يسلكها مختارًا من تِلْقاء نفسِه، لا أن يُرغَم على سلوكها، وكان أكثر الناس «رقيًّا» يقولون إن الخير في أن نُقنِع عامة الناس أن يفعلوا ما ينفعهم وينفع غيرَهم، لا أن نُكرِهَهم على فعله، وكان يظن أن النظم التي يُطلِق عليها الناس اسم النظم الدمقراطية، لا سيما السياسية منها، تطلق عقول عامة الناس بعض الإطلاق، وتسمح لهم أن يفكروا باختيارهم ومن تلقاء أنفسهم، وتشجع البحث والمناقشة في مختلف الآراء تمهيدًا للفصل في السياسة العامة، تلك كانت نظرة الناس منذ عشرين عامًا، ولكن من الخطر أن تُعَدَّ المبادئ، حتى المبادئ الحسابية، من البديهات المفروغ منها؛ لأن مَن يفعل ذلك يَنسَ أن هذه المبادئ قد كشفتْها للناس في يومٍ من الأيام جهود بُذلتْ عن قصد، وليستْ هي حقائق أُوحِيَتْ إلى الناس من غير تفكيرٍ وتصوُّر وتجربة، انظر مثلًا إلى الضرب في أرقام فوق العشرة، تجد أنه كان عملًا لا يستطيعه عامة الناس قبل القرن السادس عشر، أما الآن فإننا لا نجد في ذلك شيئًا من الصعوبة، كذلك الحال في فن الحكم فقد جُرِّبت فيه عدة طرق، ابتغاء بثِّ التعاون المتبادَل بين مَن تجمعهم رابطة الجوار، وكان من أثرها أن ارتقى هذا الفن بعض الارتقاء في القرن التاسع عشر، وكان مما استعان به فن الحكم في تاريخه الطويل الدِّين والشِّعْر، ولكن الخوف والطمع والاندفاع في الولاء والإخلاص، قد استُخدمت كلها لحفظ النظام وتحسين العلاقة الاجتماعية، وكانت النتيجة أن بعض الناس رفعوا أنفسهم إلى كراسي الحكم، وبعضهم رفعتْه الظروف أو الجماعات التي كانت تتطلع للزعامة، وتغيَّرت أشكال الحكومات أكثر مما تغيرت الديانات أو طرق الحصول على الطعام واللباس واستخدامها لسدِّ حاجات الإنسان، ثم أسفرت التجارب المتعددة عن نوعٍ من الحكم جديد يُسمَّى «الدمقراطية»، لجأ إليه الناس عن قصدٍ في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، وقد استُعير الاسم الذي أُطلِق على هذا النظام الجديد من نُظُم الحكم بشطرَيْه؛ أي تولِّي أمر الناس وخضوعهم، استُعير هذا الاسم من اللغة اليونانية؛ لأن التفكير السياسي في ذلك الوقت كان يُسَيْطر عليه تجدد الاهتمام بمدنية اليونان والرومان القديمة ذات الصبغة الاسترقاقية؛ ولأن قادة الفكر الذين كانوا يرغبون في الإصلاح الاجتماعي في القرن الثامن عشر، كانوا يتطلَّعون إلى الآداب اليونانية والرومانية القديمة؛ ليَجِدوا فيها الوسائل التي يستطيعون أن يُقِيموا بها قواعد الحكم على غير الأهواء الشخصية المتقلِّبة، وخُيِّل إليهم أنهم لن يَجِدوا لذلك النوع من الحكم بديلًا إلا حكم «الشعب»، الذي كان قائمًا حسب ظنهم في أثينا وروما مالكتَيِ الرقيق، لكن الحرية والمساواة في أثينا وروما كانتا امتيازًا اختُصَّ به نفر قليل من الذكور مُلَّاك البيوت، وهم الذين كانوا يحكمون سائر الشعب، وكانت السلطة السياسية فيهما موزَّعة بين هذا النفر القليل.

وليست الطرائق التي كانت تتبعها أثينا وروما مما يتناسب مع أحوال وقتنا الحاضر؛ لأن الاسترقاق لا يرضاه الناس جهرة، ولقد كان التقيد بهذه الطرائق في الماضي القريب، معطلًا للجهود التي تُبذَل للوصول إلى حقيقة ما نفهمه من الدمقراطية، وما نسعى إليه من القضاء على الفقر والظلم والحروب؛ ذلك بأن هذه الشرور الثلاثة مما لا يتفق بحالٍ من الأحوال مع «الدمقراطية» كما نفهمها الآن، ولكنها مع ذلك كانت من العوامل المُعتَرَف بوجودها في كل أنواع الحكومات القديمة، وهذا سبب من الأسباب التي تدعونا إلى عدم البحث في أنواع الحكومات الأولى التي كانت تسمى حكومات «دمقراطية».

ولما سقطت الحضارة اليونانية الرومانية وعَفَتْ آثارُها في العصور المظلمة، ساد العالمَ الغربيَّ كلَّه تقريبًا حكمُ الإقطاع، وهو نوع من السلطة العامة يقوم على وراثة الأرض، وعلى أساس الخدمة التي يؤدِّيها الأفراد، فلما جاء القرن الرابع عشر الميلادي، نشأ بين تجار بعض الدول الصغرى وصناعها نوع من الحكم جديد، فقام في إيطاليا، وبخاصة في مدن فلورنس Florence وسينا Siena والبندقية Venice وجنوا Gnoa، حكمٌ راقٍ أساسه التعاون بين الأنداد للتخلص من سيطرة نُبَلاء أوروبا عليها.

كذلك كان يتولَّى الحكم في أجزاءٍ صغيرة من سويسرا طوائف من الأنداد والزراع والصناع، ثم سادت «الدمقراطية» بعد ذلك بقليلٍ في مدن الأراضي الوطيئة Netherland،١ فتقدَّمت الحضارة في هذه المدن من الوجهتين المادية والمعنوية، وجرَّبَتْ هذا النظامَ أيضًا مدن هنسا Hansa٢ الألمانية، وكان هذا الحكم حكمًا «دمقراطيًّا»، إذا قُصد بالدمقراطية أن تُسيطر على الشئون العامة طائفة من المواطنين الأحرار الأنداد، لكن سلطة هذا النفر كانت تقوم على ما لهم من الأملاك، وكانوا يحكمون السواد الأعظم من زملائهم سكان المدن حُكمًا هو أقرب إلى الحكم الألجاركي Oligarchy٣ أي: حكم الخاصة الأقلِّين.

ثم طغَتْ على دمقراطية المدن في العصور الوسطى الأتقراطيات، التي قامت في الأمم الأوروبية الحديثة خلال القرن السادس عشر، لكن الأمراء المحلِّيِّين قبلَ ذلك الوقت كان من عادتهم أن يستشيروا أتباعهم الذين يَدِينون لهم بالطاعة، فلما قام الحكم الأتقراطي بَقِيَ لهؤلاء الأمراء حق انتقاد الحاكم المطلق، وإسداء النصح له، واحتفظ الأمراء بهذا الحق وبخاصة في إنجلترا، فأصبح البرلمان الإنجليزي أداة لبحث السياسة العامة من جميع نواحيها وتوجيه النقد إليها، مع أنه لم يكن في أول أمره إلا وسيلة يستخدمها الملوك للحصول على ما يلزمهم من المال؛ ويستخدمها الشعب لكي يشترط لأداء المال شروطًا ويقيده بقيود، وهذا أساس من الأسس التي تقوم عليها الدمقراطية الحالية، وهو انتقاد السلطة القائمة، ومناقشة السياسة العامة مناقشة حرة طليقة، ولا ينقص من قيمة هذا الأساس أن البرلمان الإنجليزي قبل نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن يعبِّر في الغالب إلا عن رأي طائفتَيِ المُلَّاك والتجار؛ وذلك لأن وسائله نفسها قد استُخدمت فيما بعدُ للتعبير عن آراء أعم وأكثر انتشارًا، يُضاف إلى هذا أن الجمعيات النيابية التي كانت قائمة في العصور الوسطى وفي عصر النهضة، ساعدت كلها، ولا سيما البرلمان الإنجليزي، على إقامة «حكم القانون» مكان حكم الأهواء، وتلك هي «الحرية المدنية» التي أضْحَتْ فيما بعد أساسًا آخَر من أسس الدمقراطية، وقد قال هيرودوت Herodotus عن الأثينيين: إن خضوع الناس لحكم القانون هو الحرية بعينها؛ وذلك لأن سيادة القانون تحمي كل فرد من أفراد المجتمع، رجلًا كان أو امرأة، من العسف وبطش السلطة الاستبدادية، وتكفل له حقَّه في أن يُحاكَم أمامَ قُضاة مستقلِّين، وتَقِيه شرَّ مَن يريدون أن يعتدوا على آماله المشروعة وأمواله وعقوده التي يُبرِمها مع غيره، ومن هذا يرى أن البحث العلني في السياسة العامة والاتفاق على الظروف والأحوال التي تكتنف الحياة العادية، كل ذلك قد أصبح من العادات الراسخة حتى قبل أن يكون للدمقراطية، كما نفهمها الآن، وجود.

لقد كان الناس منذ قرن من الزمان أو أكثر من قرن بقليلٍ، يعيشون مع إخوانهم يطعمون وينامون ويتجرون تحت إشراف الملوك وعمال الملوك، ولم يكن أحدٌ من هؤلاء الملوك ليستطيع أن يعامل الناس كما يحب ويهوى غير مقيد بقيود، وغاية ما في الأمر أن بعض الملوك كانوا أكثر من غيرهم إذعانًا لآراء طوائف الملاك والتجار، مجتمعين في هيئات نسميها الآن برلمانات أو مجالس الأمة أو دُور النيابة، لكن سلطان الملوك كان يلوح لسواد الناس سطانًا «إلهيًّا» في بعض نواحيه، وكان لشخص المَلِك تلك الروعة السحرية التي كانت تُلازِم الطبيب والكاهن في الزمن القديم، لكن مسيحية العصور الوسطى قد سَرَتْ فيها أفكار جديدة اضطربت لها أحوالها، حتى إذا جاء القرن السادس عشر أخذت جماعات صغيرة مستقلة مؤلَّفة من أفرادٍ أنداد، تنظِّم أمرَ دِينها بنفسها في شمال أوروبا الغربي وفي أمريكا بعد ذلك الحين، واستنتج الناس من هذه البروتستنتية في الدِّين أن في استطاعتهم إيجاد برتستنتية شبيهة بها في السياسة وهي الدمقراطية، هذا إلى أن ملوك عهد الإصلاح قد عملوا على إضعاف مقام رجال الدِّين وتقويض سلطانهم، ولكنهم بذلك قد أوْهَنوا سلطانَهم بأيديهم؛ لأن الناس إذا أمكنهم أن يَضَعوا لأنفسهم ما يشاءون من قواعد الدِّين، من غير أن يستعينوا بقوة القسس السحرية، أمكَنَهم أيضًا أن يَضَعوا لأنفسهم من نُظُم الحكم ما يريدون، من غير أن يلجئوا إلى الملوك ذوي «الحق الإلهي»، وإذا كان الجدل العلني وانتقاد أولي الأمر نافعَيْن في الدين، فما أجدَرَهما أن ينفعا أيضًا في السياسة وتدبير الشئون العامة! ولذلك أخذت بعض الطوائف الدينية تقوم بتجاربٍ جديدة في الحكم «الشعبي»، كما حدث في سويسرا مثلًا، وفي إنجلترا قامت في القرن السابع عشر جماعات من هذا النوع، أقضَّتْ مضاجع طوائف المُلَّاك والتجار، التي أرادتْ أن تستبدل بسلطان الملوك سلطان البرلمان، ثم قامت طائفة «المسوين»٤ وغيرها من دعاة المساواة الاجتماعية، وأخذت تجادل وتنازع في حقوق الملاك وحق المِلْكية العقارية، وهل تخوِّل المِلْكية الفردية لصاحبها حقوقًا سياسية، فأحدث هذا الجدل شيئًا من الاضطراب.٥

وقام في أثناء ذلك بعض الكُتَّاب في الشئون العامة فاستحدثوا نظرية للطبيعة البشرية؛ ليُفسِّروا بها سلطة الحكام الأدبية، على أساس غير الأساس القديم، وهو الاعتقاد بتلك الصفة السحرية المعروفة بحق الملوك «الإلهي»، وكانت أولى هذه النظريات نظرية العقد الاجتماعي، الذي أنشأ الناس بمقتضاه حكومتهم الأولى كما يزعم أصحاب هذه النظرية، ومعنى هذا أن الحكومة قائمة على نوعٍ من التراضي، لا على أمرٍ من الله، سبحانه وتعالى.

ثم جاء جون لك John Locke٦ فقال إن شروط هذا العقد تكاد تكون مقصورة على حماية المَلِك، والناس بعد ذلك أحرار فيما تشمله هذه الشروط، وتردَّدتْ على ألسنة القراء والكتاب القليلين في ذلك الوقت عبارة «حقوق الإنسان» أو الحقوق «الطبيعية»، التي قامت الحكومة على أساسها، بدل العبارة القديمة عبارة: «حق الملوك الإلهي»، وبذلك انتقلت القوة السحرية الخفية من المَلِك إلى جماعةٍ عجيب أمرها، غامض كنهها تُسمَّى «الشعب»، ولم يكن «الشعب» في وقتٍ من الأوقات ليشمل الناس كلهم، بل إن هذا اللفظ لا يزال حتى الآن في بعض البلاد لا يشمل النساء، ومهما يكن من هذا الأمر فقد كان المفروض نظريًّا وقتئذٍ، أن عددًا كبيرًا من الذكور الراشدين يجب أن يتولَّوا الحكم فيما حولهم، تلك هي النظرية التي طلع بها الفلاسفة على الناس في ذلك الوقت، ولكن من الصعب دائمًا أن يتبيَّن الإنسان أثر النظريات في نمو فن الحكم، إن النظريات في العادة إنما وَضَعَها الفلاسفة لتفسير حالة قائمة، وكثيرًا ما وُضعت لتبرير أمر وقع بالفعل، ولكن الناس قد اتخذوا من النظريات في بعض الأحيان منهاجًا جديدًا للعمل.

على أن اعتراض الناس على الحق «الإلهي» وحكم الفرد لم يكن اعتراضًا نظريًّا محضًا، بل كانت نظرية «حقوق الإنسان» وطرق انتزاع الحكم من أيدي الملوك، نتيجة لما ترتب على النظام القديم من متاعبٍ وشكوك، كان منشأ معظمها المال؛ ذلك بأن حكم الملوك كان شديد الوطأة على الناس، وقد أَوْقَرتِ الضرائب والمطالب المالية ظَهْرَ التجار بنوعٍ خاص، وظلَّ الذين يُطلَب إليهم أداء المال اللازم لسياسة الملوك قرونًا عدة، يحاولون أن يحموا أنفسهم من هذه المطالب بتقييدها بشرط، ومن ذلك أن البرلمان في إنجلترا شرع في القرن الثالث عشر يشترط على الملوك أن يرفعوا عن كاهل الشعب بعض المظالم، قبل أن يوافق على ما يطلب إليه أن يؤديه من الضرائب، أما في غير إنجلترا من البلاد فقد أمكن الملوك «أن يعيشوا من مواردهم الخاصة»؛ أي أن يحصلوا على مصادر للإيراد ليس من السهل منعها عنهم كما تُمنَع عنهم الضرائب، ولكن الإنجليز استطاعوا قبل غيرهم أن يقضوا قضاءً نهائيًّا على حق المَلِك، في أن يقرر من تلقاء نفسه متى يطلب الضرائب وكيف يحصل عليها، يضاف إلى هذا أن الإنجليز قد تعوَّدوا منذ تسعمائة عام أو نحوها أن يحكمهم ملوك أجانب، فقد حكمهم النورمان Normans والبلانتجنت Plantagenets وآل تيودر Tudors وآل استيورت Stuarts، وحكمهم مَلِك هولندي، ثم حكمهم آل هنوفر Honoverians،٧ وقد كان في وسع المُلَّاك المحلِّيِّين و«الشعب» أن يفرضوا على هؤلاء الملوك رقابة ظاهرة أو خفية، وأصبح من الحقائق المقررة المعروفة منذ زمنٍ بعيد أن حكم مجلس الوزراء ومسئولية الوزراء أمام البرلمان، قد نشآ مِن جهْل المَلِك بالعادات والتقاليد الإنجليزية، وقصارى القول أن إشراف دافعي الضرائب عليها ورفع المظالم عن الشعب بقوة الشعب نفسه، وأخيرًا قيام الحكومة «المسئولة»، كل هذه نشأت أولًا في إنجلترا، وليس ثمة شك في أن نشأتها في إنجلترا قبل غيرها من البلاد، ترجع أولًا إلى أنها كانت أقل تعرضًا لأهوال الحروب من سائر الدول الأوروبية، وترجع ثانيًا إلى أن إنجلترا كانت أسبق من غيرها إلى توحيد حكومتها، على أن الفكرة التي كانت تتملَّك عقول الناس حتى نهاية القرن الثامن عشر، هي أن القانون قواعد أبدية تُشرَح وتُفسَّر، أو هو إرادة الحاكم نفسه، وحتى البرلمان الإنجليزي نفسه كان حقه لا يتعدَّى الاقتراح والانتقاد، ولم يحاول قط أن يتولَّى الحكم أو يجعل لنفسه الإشراف الأعلى على الحكومة، وفي خلال هذه المرحلة من مراحل نمو الحكم الشعبي، أنشأ الأمريكيون دولة الولايات المتحدة، وشبَّتْ عَقِبَ إنشائها نيران الثورة الفرنسية، ولم يتردَّد معظم دُعاة التجارب الحكومية الأمريكية والفرنسية في اعتناق المبادئ القائلة بوجود «حقوق طبيعية للإنسان»، وبأن كل الحكومات يجب أن تقوم على تعاقدٍ من نوعٍ ما، أو على رضاء المحكومين، على أن الإنجليز لم يَقِفوا عند هذا الحدِّ بل خَطَوْا بعدَه خطوة أخرى.

ذلك أن البرلمان الإنجليزي أخذ يُشرف شيئًا فشيئًا على السلطتين التشريعية والتنفيذية، حينما ابتدعت طريقة الحكم بوساطة مجلس الوزراء، وجعل اختيار الوزراء أنفسهم من بين أعضاء البرلمان، فصاروا بهذه الطريقة عُرضة للنقد والإقالة بإرادة البرلمان نفسه، وأصبحت هذه سُنَّة أخرى جديدة جوهرية ابتدعتْها الدمقراطية، وهي إشراف الجمعية المنتخبة على الهيئة التنفيذية، ولما جاء القرن التاسع عشر وأصبحت أغلبية الذكور الراشدين في البلاد هي التي تختار أعضاء هذه الجمعية المنتخبة، بدأتِ الدمقراطية الحديثة، وأصبح المقصود بكلمة «الشعب» هم الذكور الراشدين، لا «أصحاب الأملاك»، كما كان يُفهَم من هذا اللفظ في أمريكا وفرنسا وإنجلترا حتى أوائل القرن التاسع عشر، نَعَمْ، إن «الشعب» الذي يختار ممثليه لا يزال حتى الآن مقصورًا على الذكور الراشدين في فرنسا وسويسرا وغيرهما من «الدمقراطيات»، ولكن الأمم التي أصبحت أكثر من هذه إطاعة لحكم العقل والمنطق، قد خوَّلت النساء في وقتنا هذا نصيبًا من السلطة السياسية، فمنحتْهنَّ أيضًا حق الانتخاب، ولم تحصل النساء في إنجلترا على هذا الحق بأوسع معانيه إلا في عام ١٩٢٨، ولم يحصلن عليه في بعض الدمقراطيات الأخرى إلا قبل ذلك الوقت ببضع سنين، وكان حصولهن عليه آخِرَ أثَر من آثار المُثُل الدمقراطية العليا في النظم السياسية، وبهذه الخُطا التي خطاها فن الحكم وصلنا إلى الحالة القائمة الآن في شمال أوروبا الغربي وأمريكا والمستعمرات البريطانية المستقلة، وكان من أثر هذه القوى الجديدة التي وُجدت في ميدان السياسة، أنْ أَخَذَت وظائف الدولة تتبدَّل عمَّا كنت عليه من قبلُ.

إن الرُّوح الذي يسود الحياة الاجتماعية في فرنسا وأمريكا أكثر «دمقراطية» منه في بريطانيا، ولكن ذلك لا يرجع إلى أثر التنظيم السياسي في تلك البلاد؛ فأما في فرنسا فهو من آثار نظام التربية واتساع توزيع المِلْكية الفردية، وأما في أمريكا فسببه عدم وجود طبقة «عليا» ممتازة، وشعور المساواة بين هؤلاء «السابقين الأولين» من الأمريكيين، والأثر الذي بثَّتْه فيهم فئةٌ قليلة من الرجال أمثال رؤسائهم الثلاثة: توماس جفرسن Thomas Jefferson وأندرو جكسون Andrew Jackson وأبراهام لنكولن Abraham Lincoln، وليس أدل على قوة هذا الأثر مما كتبه جفرسن الذي ينتمي إلى طبقة المُلَّاك الأرستقراطية، والذي عبَّر عن مبدأ الدمقراطية الأساسي بقوله:

الإنسان حيوان عاقل، يصون حقَّه ويَمْنَعه من الوقوع في الزَّلَل قوًى معتدِلة، يعهد بها إلى أشخاص يختارهم بنفسه، ويظلُّون قائِمِين بأداء واجبهم ما داموا خاضِعِين لإرادته.

* مقتطف من كتاب: الدمقراطية، لمؤلفه: دِلَيل بيرنز

.....................................

١ الأراضي الوطيئة، أو الأراضي المنخفضة: هي المعروفة الآن ببلجيكا وهولندة. (المُعرِّب)

٢ مدن هنسا هي عصبة من المدن قامت في شمال ألمانيا في العصور الوسطى قوامها نحو سبعين مدينة، تكوَّنت كما تكوَّن غيرها من عصابات المدن للتغلب على الصعاب والأخطار، التي كانت تعترض التجارة في العصور الوسطى، وأُنشِئت لها محطات تجارية ومنائر على الشواطئ، وأسطولًا لحماية تجارتها من لصوص البحار، وكان لها سفراء في بعض البلاد الهامة، وقد ظلت هذه المدن مسيطِرة على التجارة في غرب أوروبا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ومن أهم مدنها مدينة دانزج Dantzing. (المُعرِّب)

٣ ألجاركي: لفظ إغريقي مشتق من كلمتين: Oligo = قليل، Archo = أحكم، وكان الكُتَّاب السياسيون من الإغريق القُدَماء يَستَعمِلون هذا اللفظ للدلالة على الحكومة التي تتولَّاها أقلية من الأعيان، يستخدمون سلطتهم في الغالب لمصلحتهم الخاصة وتوسيع دائرة امتيازاتهم وسلطانهم، فهي بالنسبة للحكم الأرستقراطي كالاستبداد بالنسبة للحكم المَلَكي. (المُعرِّب)

٤ طائفة من الحزب الجمهوري المتطرف الثوري نشأت في الجيش البرلماني في عام ١٦٤٧، وأبادها كرمول Cromwell سنة ١٦٤٩ وكانت تقول بلزوم مساواة الناس كلهم في المرتبة. (المُعرِّب)

٥ انظر كتاب «التفكير السياسي» في هذه السلسلة.

٦ جون لك John Locke فيلسوف إنجليزي كان معاصِرًا لزميله هبز في القرن السابع عشر، وهو من أنصار نظرية العقد الاجتماعي، ولكنه يفسِّر عقدَه بطريقةٍ تخالف طريقة زميله، فهو يقول إن الإنسان مخلوق اجتماعي عاش حينًا من الدهر في سلام، دون أن يَجِد سببًا للخصام؛ لسهولة العيش وكثرة الخيرات، وعدم الحاجة إلى الادِّخار، وعدم جود ما يدخر، ثم اخترع التعامل بالنقود فبدأ الإنسان يدَّخر، وبدأ التزاحم والتنافس، وأصبح من اللازم أن يوجد حكم قوي نافذ الكلمة على الجميع، فاتفقت كل جماعة على شخصٍ اختاروه ليكون ذلك الحكم؛ وليحمي حريتهم وأنفسهم وأموالهم من عبث العابثين، مقابل وضع قوة الأفراد تحت تصرفه، فإذا ما خالف شروط العقد القائمة على مصلحة الجماعة، حق للغالبية عزله (انظر كتاب «الحرية والدولة» للأستاذ محمد عبد الباري). (المُعرِّب)

٧ أول النورمان وليم دوق نورمندية في فرنسا، الذي أغار على إنجلترا في عام ١٠٦٦ وتُوِّج مَلِكًا عليها، وأول ملوك أسرة أنجو أو البلانتجنت هو هنري الثاني الذي تولَّى الملك في عام ١١٥٤، وهنري هذا والد رتشارد قلب الأسد المشهور في الحروب الصليبية، وفي عهد هذه الأسرة أُرغِم المَلِك على توقيع العهد الأعظم Magna Carta، الذي يُعَدُّ أساس حرية الشعب الإنجليزي، وحكمت أسرة تيودر إنجلترا من ١٤٨٥ إلى ١٦٠٣، وأول ملوكها هنري تيودر دوق رتشمند الذي سُمِّي فيما بعدُ هنري السابع، وآخِر مَن تولَّى المُلْك منها الملكة أليصابات المشهورة، وجاءت بعدها أسرة استيورت في عام ١٦٠٣، وفي عهدها قامت الثورة والحرب الداخلية بين المَلِك والبرلمان، وأُنشئت الجمهورية في أيام كرمول، ولكنها لم تُعمَّر طويلًا، أما المَلِك الهولندي فهو وليم أورنج زوج ميري ابنة جيمس الثاني، وقد استدعاهما الشعب لقبول تاج إنجلترا، حينما اشتدَّ النزاع بينه وبين جيمس الثاني سنة ١٦٨٨، وأول مَلِك من أسرة هنوفر هو جورج الأول، وهي ألمانية الأصل حكمت من عام ١٧١٤. (المُعرِّب)

اضف تعليق