q
كان يقتدي بسيرة النبي محمد، الذي عالج مسألة العنف حين دعا قومه سلميا. كما تأثر بمنهج النبي عيسى السلمي، لهذا دعا الشيرازي أنصاره إلى تبني منهج سلمي في الدعوة والكفاح، تعبيرا عن الحركة السلمية التي يتبناها، وبالتالي فإن المسيحيين والمسلمين مجتمعين سيقودون الناس نحو نمط عيش سلمي. وحول...

في معظم المجتمعات الإنسانية في وقتنا الحاضر تتسيّد مشاهد العنف بجميع اشكاله والوانه، ونستطيع مشاهدتها في حياتنا اليومية عبر الوقائع التي نعيشها او من خلال أجهزة التلفاز ومواقع الميديا المتنوعة..

ويرتبط السلوك العنيف أكثر بالبنى الاجتماعية، وبدرجة أكبر فحادثة القتل أو الإرهاب من منظور العنف المكتسب، هو سلوك مكتسب يقوم على مبدأ التعزيز، وهذا ما تقوم به معظم القنوات التي تروج للعنف ضمن قاعدة خطاباتها الإيديولوجية، والتي تبررها بتأويلات دينية، ومعتقدية، لتضفي كامل الشرعية على هذا الخطاب. ويقول مارك سيجمان في هذا السياق: (في مراحل معينة، التفاعل بين مجموعة من الأشخاص يتخذ وظيفة الغرفة التي يتردد فيها صدى الصوت بطريقة تجمعهم بشكل راديكالي وتصاعدي، يصلون معها إلى النقطة التي يصبحون فيها على استعداد للانضمام لأي تنظيم إرهابي).

قد يكون هذا العنف فرديا داخل المجتمع، او يكون مؤسساتيا داخل الدولة نفسها او بين دول متعددة، ومهما كانت الأسباب والمنطلقات النفسية للعنف، فإنّ ممارسته تكشف عن خلفية فكرية، مهما كانت بسيطة وساذجة، أو إنّه يأتي امتثالاً لسلطة فوقية لا يعي تأثيراتها دائماً، وإنّما ينساق وراءها لا إرادياً في كثير من الأحيان، كما بالنسبة إلى الأعراف القبلية والتقاليد الاجتماعية التي يستجيب لها الإنسان لا إرادياً. وعلى كلّ الأحوال، عندما يمارس العنف إلى درجة الإرهاب في أي مجال من المجالات، فدلالته لا تخرج عن إحدى الحالات التالية:

1- يعتقد الممارس للعنف إنّه يمثل الشرعية القانونية أو الدينية، فيتحرّك ضمن صلاحياته القانونية أو الشرعية، ويكون من حقّه قمع الآخر واضطهاده بكلّ الوسائل المتاحة، بينما يصبح الآخر عندما يعلن قناعاته خارجاً على القانون أو الشريعة والدِّين، وبالتالي فهو يستحق كلّ ما يُفعل به.

2- يعتقد الممارس للعنف إنّه على حقّ في متبنياته الفكرية والعقدية، أو إنّه حقّ مطلقاً والآخر باطل مطلقاً، ضال، كافر، منحرف يجوز قمعه وإرهابه، بل قتله والتمثيل به أيضاً. فالاختلاف هنا، أي في وعي الممارس للعنف، ليس حالة مشروعة تقع بين جميع البشر، وإنّما ضلال وانحراف فكري أو عقدي أو ديني. وهذا يجد مصداقه الواضح في الشخص الأيديولوجي الذي لا يخضع لمنطق العقل ولا يستسيغه، وإنّما هو دائماً مقموع تحت سقف أيديولوجي لا يطيق الرأي الآخر، ويرفض مراجعة متبنياته العقدية والفكرية، فيلجأ للعنف عندما يحاصر من قبل خصمه الفكري أو السياسي.

3- للاستبداد، سواء كان سياسياً أو دينياً، فرداً أو جهة، حزباً أو حركة، دور أساس في ممارسة العنف مع الخصوم السياسيين والفكريين والدينيين، لأنّ المستبد لا يطيق الآخر، فكيف يطيق التجاهر بمخالفته؟ إنّ منطق الاستبداد يقتضي خضوع الجميع للرجل المستبد، وعدم مخالفته فكرياً أو عقدياً، بل وينحو المستبد مع الآخرين على أساس إنّه مطلق في كلّ شيء وله الحقّ في ممارسة أي شيء.

4- لا ينفك العنف عن الدكتاتورية بأي شكل، خلافاً للسلطة المستبدة التي قد تمارس العنف أو لا تمارسه، إذ تقوم حكومة الدكتاتور بتركيز جميع السلطات في شخص الدكتاتور، فتُلغى كلّ الضوابط القانونية ما عدا إرادته، أو بالأحرى إنّ القانون هو امتثال لإرادته ورغباته. من هنا نجد الدكتاتور يمارس العنف لأدنى شك أو شبه مع أي شخص أو جهة. فكلّ مَن تسول له نفسه معارضته أو التمرُّد عليه، سيكون مصيره السجن والتعذيب وربّما الإعدام، العنف بالنسبة له فعل متواصل.

5- عندما تختفي لغة الحوار، يطغى العنف وتتضاءل فرص التسوية السلمية على صعيد النزاعات السياسية والعسكرية، كما تتعمّق الخلافات على المستوى الفكري والعقدي. بينما يسود التفاهم وتضييق هوة الخلافات إذا حلت لغة الحوار وتلاشى العنف بين الأطراف المتنازعة.

6- قد يلجأ البعض إلى العنف في تحقيق أهدافه لعدم قدرته على ذلك سلمياً، أو إنّه يضطر له لانتزاع حقوقه المغتصبة.

8- قد يكون منطلق العنف أعرافاً عشائرية أو تقاليد اجتماعية تفرض عليه موقفاً عنيفاً تجاه الخصم.

8- تارة يُعبِّر العنف عن أزمة نفسية تطرأ على الإنسان لأي سبب كان، فيمارس العنف من عقدة في لا وعيه تبيح له عمله.

9- قد يعتقد الإنسان العنيف إنّ العنف أقصر الطُّرق لتحقيق أهدافه تعويلاً على قدراته العضلية وقوته وتخطيه للقوانين والأعراف وعدم اهتمامه بتداعياته.

10- قد يجد الفرد في العنف ذاته المفقودة، فيمارسه لتأكيدها، وانتشالها من واقع نفسي مرير مدمر طالما عانى منه، أو ليزيل عنها غبار الإهمال الاجتماعي والتهميش الطبقي. فيشعر عندما يمارس العنف إنّه موجود فعلاً وله استقلالية وقدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها، بل وفرضها على الآخرين.

ماهو اللاعنف؟

اللاعنف هو ممارسة شخصية لا يؤذي الفرد فيها ذاته والآخرين تحت أي ظرف، وينبع ذلك من الاعتقاد بأن إيذاء الناس أو الحيوانات أو البيئة لا لزوم له لتحقيق النتيجة المرغوبة، كما يستنبط من فلسفة عامة تقوم على الامتناع عن العنف على أساس المبادئ الأخلاقية والدينية والروحية.

وينظر إليه على أنه بديل لموقفين آخرين هما الرضوخ والانصياع السلبي من جهة، أو النضال والصدام المسلح من جهة أخرى. لذلك فإن اللاعنف يدعو إلى وسائل أخرى للكفاح الشعبي منها العصيان المدني أو «المقاومة اللا عنفية» أو عدم الطاعة وعدم التعاون. استخدم هذا المصطلح كمصطلح معاكس للمسالمة لكنه ومنذ منتصف القرن العشرين أخذ يعكس الكثير من التكتيكات التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي بدون استخدام القوة. إن اللاعنف يختلف عن المسالمة لأنه يواجه القمع والطغاة بشكل مباشر.

عندما يتم التطرقُ إلى (اللاعنف)، ينبغي إجراءُ تمييز يسبِّب إغفالُه والإصرارُ عليه التباساتٍ كثيرةً: التمييز بين فريضة اللاعنف الفلسفية وبين إستراتيجية العمل اللاعنفي. فهذه وتلك تتموضعان على صعيدين مختلفين يجدر التمييز بينهما، لا للفصل بينهما، بل لتفادي الخلط. فاللاَّعنف، كمبدأ فلسفي، هو طلب المعنى؛ أما كمنهاج عمل، فهو البحث عن الفعالية.

ان خيار اللاعنف كما يكتب جان ماري مولِّر، في كتابه قاموس اللاعنف، هو تفعيل فريضة الضمير العقلاني العالمية في حياتنا نفسها، الضمير الذي يعبَّر عنه بالصيغة الآمرة، المنفية هي الأخرى: (لا تقتل). إن تحريم القتل هذا تحريم عالمي شامل؛ وهو جوهري، لأن رغبة القتل كامنة في كلٍّ منَّا. القتل محرَّم لأنه يبقى ممكنًا دومًا، ولأن هذه الإمكانية تفضي إلى اللاإنسانية. التحريم (مُلزِم) لأن الإغراء (مستبد) وبقدر ما يكون الإغراء مستبدًّا يكون التحريمُ أشد إلزامًا. اللاعنف، إذن، فريضةٌ سالبة أولاً؛ وهو يطالب الإنسانَ بنزع سلاح انفعالاته ورغباته ومشاعره وذكائه وذراعيه حتى يستطيع الفكاك من كلِّ (سوء نية) في حقِّ الإنسان الآخر. عندئذٍ، يكون حرًّا في إظهار (حسن نيته) له والتعبير له عن (طيب إرادته)..

وأيضًا، لأن اللاعنف، قبل أن يكون منهاج عمل، هو، أولاً وأساسًا، موقف. فهو الموقف الأخلاقي والروحي للإنسان الزاهد الذي يقر بالعنف بوصفه نفي الإنسانية – إنسانيته وإنسانية الآخر في آنٍ معًا – والذي يقرِّر رفض الخضوع لقانونه. اللاعنف هو احترام كرامة إنسانية الإنسان، فيه هو وفي كلِّ إنسان آخر.

فريضة اللاعنف هي دعوة إلى (انقلاب): انقلاب في القلب، في النظرة، في الفطنة. وكل انقلاب هو قطيعة وانشقاق وتجاوُز وزحزحة وإزعاج وبلبلة وتحول وجنوح وارتحال. كل انقلاب فهو شروع في السفر؛ لكن كلَّ (سَفَر) إبداع جديد. فلكي يصمِّم المرء على اللاعنف، ينبغي أن يستيقظ من النوم الوجودي الذي تغفو فيه إنسانيتُه. ففي هذا النوم، يذعن الفرد إذعانًا سلبيًّا لعادات المجتمع القديمة التي لا طاقة له على التشكيك فيها. فماذا ينبغي له في النهاية أن يقرِّر؟..

كيف يعمل اللاعنف

إن الدخول إلى الصراع الاجتماعي والسياسي وفق منطق اللاعنف يمثل انفصالاً جوهرياً عن النظرة التقليدية للسلطة والصراع، وعلى الرغم من ذلك فهو ينطبق على العديد من النماذج والأفكار التي تتناسب مع مختلف الثقافات.

في جوهر أي مذهب استراتيجي لاعنفي هناك فكرة مشتركة وهي أن سلطة الحاكم تعتمد على موافقة الرعية. فالحاكم يصبح عاجزاً بدون نظام الدولة الإداري وبدون الجيش أو الشرطة، وبدون انصياع قطاعات مفتاحية من الشعب. السلطة إذن تعتمد بمعظمها على تعاون الآخرين. اللاعنف يسعى للتقليل من سلطة الحاكم من خلال الانسحاب المتعمد من هذا التعاون وذلك الانصياع.

إن سياسة اللاعنف هي منطق كلي للخلق الإسلامي، من حيث هي جزء لا يتجزأ من بنية الإسلام الكاملة وإنها لسياسة تتمثل رائعة مشرقة في قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ٣٤﴾ [فصلت:34]، كذلك تظهر واضحة جلية من خلال الجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في مدافعة العدو باليد أو اللسان أو ما طاق من شيء، وهو في الإسلام على ثلاثة انواع: (مجاهدة العدو الظاهر إعلاءً لكلمة الله - مجاهدة الشيطان في شتى صوره؛ إعلاءً لكلمة الله - مجاهدة النفس والهوى؛ اتباعا لمنهج الله).

لماذا اللاعنف؟

يقتبس معظم المدافعين عن اللاعنف مبادئهم من معتقدات دينية أو أخلاقية أو سياسية. وبذلك تنقسم خلفية العمل اللاعنفي إلى فرعين، اللاعنف المبدئي أو الأخلاقي، واللاعنف الاستراتيجي أو النفعي (البراغماتي). ومن الشائع أن يتواجد الفرعان في فكر مؤسسة ما أو لدى حركة لاعنفية عامة أو حتى مجموعة من الأفراد.

في الغرب تم استخدام الكفاح اللاعنفي بكثرة من أجل حقوق العمال، والسلام، والبيئة، وحركات حقوق المرأة وهي القطاعات التي لا تدعمها سلطة سياسية رئيسية. وقد لعب الكفاح اللاعنفي دوراً وما زال في تقليل سلطة الأنظمة السياسية في العالم الثالث وفي بلدان الكتلة الشرقية السابقة.

يقول والتر وينك: «في عام 1989، شهد ما يزيد على مليار ونصف المليار من البشر ثورات لاعنفية حققت نجاحات تفوق التصور... وإذا ما جمعنا كل الدول التي تأثرت بأحداث وحركات لاعنفية إلى بعضها البعض خلال القرن الحالي»، منها (الفلبين، جنوب أفريقيا، إيران... حركة التحرر في الهند)، «فإن الرقم سيزيد عن ثلاثة مليارات، وتزيد نسبة هؤلاء عن خمسين بالمئة من البشر، مما يدحض المقولات المتكررة التي تزعم بأن اللاعنف لا يحقق شيئاً في واقع الحياة».

يقترح الباحث جين شارب في كتابه سياسة العمل اللاعنفي بأن السبب وراء الغياب الملفت للبحوث والدراسات المتعلقة باللاعنف عن الساحة الثقافية إلى أن النخب لن تحقق أي منافع من انتشار أساليب النضال اللاعنفي التي تعتمد على القوة الجمعية للمواطنين لا على الثروة والأسلحة.

يتألف العمل اللاعنفي من ثلاثة أصناف. أولها هو التظاهر والإقناع، وهو يشمل تسيير المظاهرات والتجمعات العامة، وله أدوات مثل اللافتات، الشموع، الزهور.

الصنف الثاني هو العصيان، أو الامتناع عن التعاون أو عدم الطاعة، وهو سلوك استراتيجي متعمد يرفض التعاون مع الظلم،

الصنف الثالث هو التدخل اللاعنفي وهو سلوك لاعنفي متعمد يستخدم غالباً التدخل المادي لمواجهة موقف أو حدث ظالم. مثل الاعتصام، احتلال المواقع، المرابطة حول الأشجار.

الإضراب عن الطعام، الإضرابات، والتجمعات والعرائض والتواقيع، الامتناع عن دفع الضرائب، العرقلة، الحصار، الامتناع عن الخدمة العسكرية، والمظاهرات العامة هي بعض الوسائل التي تم اعتمادها في الحركات اللاعنفية.

يذكر الباحث والناشط جورج ليكي بأن هناك 3 استخدامات أو تطبيقات للعمل اللاعنفي:

الدفاع (مثل الدفاع عن الأحياء أو البلد من محتل خارجي).

التغيير (وهو أشهر أنواع العمل اللاعنفي ويهدف إلى إجراء إصلاحات أو ثورة للتغيير).

التدخل لحماية طرف آخر.

هناك العديد من الشخصيات والقادة والمفكرين الذين بحثوا بعمق في الأبعاد الروحية والعملية للعمل اللاعنفي، منهم: الكاتب والروائي الشهير تولستوي، والرئيس البولندي الأسبق والحائز على جائزة نوبل للسلام ليخ فالينسا، والناشطة الألمانية بترا كيلي التي ساهمت في تأسيس الحزب الألماني للخضر، والراهب الفيتنامي المنفي ثيش نهات هانه، والصحافية الأمريكية دورثي دي، والناشط والثائر الأمريكي أمون هيناسي، والعالم الشهير ألبرت أينشتين، والمناضل الأمريكي مارتن لوثر كينغ، والمناضل الباكستاني عبد الغفار خان، والمفكر الإسلامي جودت سعيد، وكذلك جون هاوارد يودر وستانلي هورواس وديفد مكرينولدز وجون غالتينغ كما نجد أيضا المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي الذي له مقال عن المهاتما غاندي بعنوان «تحية إلى داعية اللاعنف» من كتابه في مهب المعركة مالك بن نبي. وكذلك المرجع العراقي السيد محمد الشيرازي الذي يعتبر الرائد في نشر ثقافة اللاعنف وكتبه تدل على ذلك.

في كتابه الموسوم بـ( اللاعنف في الإسلام: مفكرون، ناشطون وحركات اللاعنف الإسلامية) للكاتب سمير محمد مرتضى، يقدم تلخيصا لأهم مفاهيم الحركات في اخلاقيات اللاعنف الاسلامي في البلدان الناطقة باللغة الالمانية، كما يلعب دورا كبيرا في تجديد النظرة النمطية للاسلام عند المتلقي الألماني ومناقضته للرؤى المشوشة عليه: ففي العالم الغربي، يعتقد الرأي العام جازما أن الاسلام لا يملك أخلاقيات السلام بسبب التضليل الاعلامي، ونتيجة لأعمال العنف العديدة التي يرتكبها بعض الاشخاص المحسوبين على التيار الاسلامي فأصبح يُنظر إلى الإسلام على أنه تهديد للسلام الاجتماعي والعالمي. ويؤكد المؤلف أن هذا الاعتقاد الغربي يكشف عن جهل هائل بتنوع الإسلام وبمصادره.

ورغم أن أخلاقيات السلام الإسلامية لها تاريخ طويل في اللاهوت والممارسة، فإن الغرب يتعمد تجاهل هذا التقليد المستمر، ولا توجد إلا حالات قليلة يظهر فيها الغرب بعض ممثلي السلام المسلمين، والذين غالبًا ما يتم تجاهل انتمائهم الديني، أو يُعتبرون “الاستثناء من القاعدة” الشهيرة، أو يُلاحظ وجودهم باستغراب، كما لو أن هؤلاء الأشخاص يساهمون في السلام رغم أنهم مسلمون، وليس لأنهم مسلمون.

جاء هذا الكتاب شاملا يتضمن آراء ونقاشات مجموعة كبيرة من المفكرين المسلمين، الذين يمثلون الخطاب السلمي والمنهج اللاعنفي في الإسلام: وإذا كان هؤلاء المفكرون يختلفون فيما بينهم من حيث الوظيفة، حيث يذكر المؤلف نموذجا من الباحثين والمفكرين والناشطين، وحتى الحركات الإسلامية، والذين يختلفون أيضا من حيث الإنتماء الفكري، حيث لدينا سنة وشيعة وإسماعيلية ومن جماعة الإخوان المسلمين، ويختلفون من حيث الجنسية التي تتوزع بين الهندي والأفغاني والباكستاني والعراقي والسعودي والسوري، والجزائري والمصري أو أي دولة أخرى يسكنها المسلمون، فإن هؤلاء يتحدون فيما بينهم في انتماؤهم إلى الدين الإسلامي، وفي دفاعهم عن الإسلام ونفي صفة العنف عنه، من خلال نقاشات وكتابات ومؤلفات ومحاضرات وعمل ميداني.

رؤية الامام الشيرازي في اللاعنف

ومن أهم النماذج التي أكد على أهميتها المؤلف في هذا الكتاب، نموذج آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، الذي ولد في عائلة شيعية بالنجف بالعراق، ويشهد تاريخ عائلته على منطلقها السلمي، وأن النظرية التي تقول إن الإسلام انتشر بالعنف، نظرية قاصرة، وأن الدين الإسلامي إنما يتوخى تحمل الإنسان لمسؤوليته. ناضل من أجل عالم خال من الأسلحة، وهي مسؤولية المجتمع الدولي، كما هي مسؤولية المسلمين بوصفهم صانعين للسلام. ودعا إلى ضرورة تحكيم الاخوة الإسلامية وإلى الحوار الحر والمؤتمرات والتعددية السياسية، وإلى شورى المراجع. وقد اهتم في كتبه ومحاضراته بمواضيع مهمة جدا ومؤسسة لتربية السلام والتسامح، من بينها: اللاعنف، التربية، الفكر الحيوي، الأخلاق الرفيعة، الجهاد المستمر بالأساليب السلمية، وكان مبدأه في الحياة هو السلم واللاعنف. وكان يقتدي بسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وعلى اله وسلم)، الذي عالج مسألة العنف حين دعا قومه ثلاثة عشر سنة، سلميا، رغم ما سببته له قريش من أذى. كما أنه تأثر بمنهج النبي عيسى عليه السلام السلمي، لهذا دعا الشيرازي أنصاره إلى تبني منهج سلمي في الدعوة والكفاح، تعبيرا عن الحركة السلمية التي يتبناها، وبالتالي فإن المسيحيين والمسلمين مجتمعين سيقودون الناس نحو نمط عيش سلمي.

وحول موضوعة السلم والسلام يؤكد الإمام الشيرازي على أن كلمتي السلم والسلام في الإسلام؛ استعملتا -كتاباً وسنة- في موارد كثيرة، كما أن «السلام» من أسماء الله الحسنى، لأن الله -عزَّ وجلَّ- خالق السلم والسلام، ويضمن ذلك للناس بما شرعه من مبادئ، وبما رسمه من خطط ومناهج، وبمن بعثهم من أنبياء وأوصيائهم، وبما أنزله من كتاب، فهو تعالى مصدر السلم والسلام، والخير والفضيلة... وخاتم الأنبياء محمد هو حامل راية السلم والسلام، لأنه يحمل إلى البشرية الهدى والنور، والخير والرشاد، والرحمة والرأفة، يقول تعالى: ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعاملين﴾.

ويشير الإمام الشيرازي إلى أن الهدف الذي يتوخاه الإسلام ويسعى إليه، هو تهذيب الإنسان، وتمكينه من العيش في الدنيا والآخرة بأمن وسلام، وقد تحقق ذلك فترة حكومة القوانين الإسلامية التي طبقها الرسول، والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب..

جملة من المسائل الشرعية

طرح الإمام الشيرازي في الكثير من كتبه جملة من المسائل الشرعية في السلم والسلام السياسي، نذكر بعضها:

- سلم مع المعارضة: يلزم على الحكومة مراعاة السلم مع المعارضة، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية، فلا يجوز مصادرة حرياتها من الإعلام والصحف والتجمعات وما أشبه.

- مع الأقليات: يلزم على الحكومة الإسلامية مراعاة قانون السلم والسلام مع الأقليات الدينية الموجودة في البلد.

- جماعات إرهابية: يحرم على الدولة الإسلامية تشجيع جماعات العنف والإرهاب ودعمها.

- تعدد الأحزاب: من مصاديق السلم واللاعنف، فتح المجال أمام الأحزاب الأخرى أي تعدد الأحزاب، وكذلك الجمعيات والمنظمات.

- مظاهر العنف: يلزم على الحكومة ترك مظاهر العنف حتى في الشعار، كالموت للدولة الكذائية! وما أشبه.

- مع المرتد الفطري والملي: ينبغي مراعاة السلم والسلام مع المرتد الفطري والملي.

ويرى الإمام الشيرازي أن القاعدة الأولية في الإسلام هي السلم والسلام، والأصل هو اللاعنف، أما القتال والحرب فهي الاستثناء، ولا مسوغ للحرب في نظر الإسلام مهما كانت الظروف، وهو -أي الإسلام- لم يأذن بالحرب إلا دفعاً للعدوان، وحماية للدعوة والمستضعفين، ومنعاً لاضطهادهم، وكفالة لحرية الدين وهي من الحريات المشروعة لكل إنسان، فإنها حينئذ تكون فريضة من فرائض الدين، وواجباً من واجباته المقدسة ويطلق عليها اسم (الجهاد) مشروطة بشروط كثيرة والتي منها فتوى شورى المراجع، يقول تعالى: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير الصابرين﴾.

ويتطرق الإمام الشيرازي في الكثير من كتبه لـ«جملة من مصاديق السلم والسلام الاجتماعيين» منها أن عملية التعارف بين الإنسان وأخيه الإنسان قد ابتدأت بالتحية وهي أول كلام يحصل في اللقاء وقد أراد الإسلام أن تكون نقطة الابتداء عنواناً للسلم والسلام، فكانت التحية: (السلام عليكم)... فلما خلق الله -سبحانه وتعالى- الخلق جعلهم أمماً وشعوباً، فقال تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾. فالخلق مأمورون بالتعارف فيما بينهم، ومن حكمة تصنيف البشرية إلى هذا التقسيم هو حصول التعارف بينهم وهو أمر غير عسير، فيبتدأ من الخلية الصغيرة وهي الأسرة، ثم ينتقل إلى دائرة أوسع وهي القبيلة، ثم إلى محيط جامع وهو المجتمع وهكذا، وبهذا تسهل عملية التعارف بين الأسر والقبائل والشعوب فيما بينها، ويستدل بالآية على لزوم تعارف الأمم والشعوب والقبائل كي يحصل التعاون والتواصل فيما بينها».

وفي تقسيم رائع لـ(مفهوم الأخوة في القرآن)، يقول الإمام الشيرازي إنه يمكن أن يشتمل ثلاثة أصناف، وهي:

- الأول: الأخوة في العقيدة.

- الثاني: الأخوة في النسب.

- الثالث: الأخوة الإنسانية.

وحتى في ما يتعلق بالسلم والسلام الإداري على حد تعبير الامام الشيرازي الراحل (قدس سره):

يضع جملة من المقومات والشروط التي من شأنها تحقيق السلم والسلام الإداري في كل مصاديقه بدءاً من إدارة العباد والبلاد «أي الحكومة» وانتهاء بإدارة مؤسسة صغيرة أو أسرة لا تتجاوز الزوجين. إذ يرى (قدس سره) إن الحب والاحترام المتبادل بين المدير والمدار، والمسؤول والمسؤول عليه، وبين الحاكم وشعبه هو من أسس السلم والسلام الإداري، فينبغي لكل مدير أن يقوم بما يوجب تثبيت هذه المحبة بينه وبين من يرتبط به في إدارته.

ومن المقومات التي يضعها الإمام الشيرازي في هذا المجال:

(المعاملة الحسنة والحسنى، الاهتمام بالآخرين، التواضع الإداري، القول اللين، إعانة الغير، التبسم للناس، رفع المعنويات، العفو عن الخطيئة، الحزم بعيداً عن العنف، النقد البناء، السؤال عن الفرد ومتاعبه، تفهم المسيء، عدم التدخل في صلاحيات الآخرين، لست على الحق دائماً، ضع نفسك مكانهم، لا تلق بأخطائك على الآخرين، تقسيم الأعمال، مكافأة الأفراد، تقبل النصح، لا تعاقب وأنت غاضب، لا تتبجح، لا للاستبداد، الحياد وعدم الانحياز، الاعتراف بالخطأ).

قواعد اللاعنف

وأخيرا يمكن التعرف على منهج السلم واللاعنف في أفكار الامام الشيرازي الراحل وتطبيقاته العملية من خلال قواعد اللاعنف التالية:

1- تطبيق الحكومة لمنهج السلم واللاعنف مع الشعب، فلا يجوز استعمال العنف مع الشعب أو غيره إلا في ما أقره الشارع المقدس وبالمقدار المقرر فقط.

2- تطبيق الحكومة لمنهج السلم واللاعنف مع المعارضة، فلا يجوز مصادرة حريتها في مختلف المجالات.

3- أن تجعل الحكومة سياساتها الخارجية مبنية على منهج السلم واللاعنف مع دول الجوار والدول الإسلامية والدول الأخرى.

4- مراعاة الحكومة منهج السلم واللاعنف مع الأقليات الدينية الموجودة في بلاد المسلمين.

5- عدم تشجيع الدول الإسلامية جماعات العنف والإرهاب ودعمها.

6- أن تجعل الحكومة شعارها القولي والفعلي هو السلم واللا عنف.

7- نشر وبيان الأسلوب السلمي لحكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفع الشبهات التي ترد على الإسلام وتتهمه بأنه دين العنف.

8- عدم ممارسة التعذيب للإقرار بالذنب حتى مع المجرمين لأنه من مصاديق العنف.

9- لا يجوز إخراج مسلم من بلد إسلامي بحجة عدم انتمائه لذلك البلد.

10- فضح الظالمين الذين يمارسون العنف تجاه الناس بأسلوب سلمي، أي يجب استعمال اللاعنف حتى مع الأعداء.

11- الاستشارة في إدارة شؤون البلاد من مصاديق السلم واللا عنف.

12- مراعاة السلم واللا عنف في وضع القوانين وتطبيقها.

13- مراعاة السلم واللاعنف في وسائل الإعلام بكافة أشكالها.

14- مراعاة أسلوب السلم واللاعنف في قضايا العقيدة ومع أهل الأديان الأخرى.

15- مراعاة السلم واللاعنف في أخلاق المسلم، فيبتعد عن الأخلاق السيئة كالحسد والغيبة والنميمة والتهمة والغصب والقتل والكذب والرياء وغيرها فهي من مصاديق العنف.

16- يلزم على المنظمات العالمية لحقوق الإنسان والأمم المتحدة أن تعمل على رفع أعمال العنف وعدم التغاضي عنها بحجة إنها من الشؤون الداخلية للدول.

17- مراعاة السلم واللاعنف في وضع البرنامج الاقتصادي للدولة.

18- مراعاة السلم واللاعنف في قضايا النكاح والطلاق.

19- يجب تشكيل لجان للقضاء على الإرهاب العالمي بالطرق السلمية لا بالإرهاب المماثل.

19- مراعاة السلم واللاعنف في إدارة المؤسسات، ذلك إن الحب المتبادل بين المدير والمدار، والمسؤول والمسؤول عليه، وبين الحاكم وشعبه هو أسس السلم والسلام الإداري.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2023
http://shrsc.com

................................................
احالات ومصادر
كتاب تحديات العنف/ ماجد الغرباوي
الطريق إلي التطرف اتحاد العقول وانقسامها/ كاس. ر سينشتاين،
قاموس اللاعنف/ جان ماري مولِّر
اللاعنف في الإسلام: مفكرون، ناشطون، وحركات اللاعنف الإسلامية/ محمد سمير مرتضى الناشر اللغة: الألمانية.
فقه السلم والسلام عند الإمام الشيرازي أعلى الله مقامه/ حسن آل حمادة

اضف تعليق