الحضارية المادية تؤدي الى تحطم الانسان في روحه ونفسه وتفكك الاستقرار في تفكيره مما يؤدي الى جنوحه واضطرابه بسبب تراكم الانحرافات وتزلزل المبادئ والانغماس في الملذات المفتوحة والعنف الاعمى والاستباحة الذاتية للقيم الفطرية، هذا المجتمع يمرّ الآن بحالة الاحتراق، فهناك حروب، هناك ثورات، هناك جنون التسابق إلى التسلّح...
الحضارة في مفهومها العام هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصوداً أم غير مقصودة، وسواءً أكانت الثمرة مادية أم معنوية.
لكن مفهوم الحضارة المعاصر وتراكم تجاربه الحديثة تحول الى رؤية مادية وتكنولوجية ونزعة لذائذية تعتمد على تكريس مفهوم الحريات الفردية في اطار الانطلاق المنفلت للغرائز والمتع، وتفكيك الضبط الاجتماعي والالتزام المسؤول بالقيم والمعايير الثابتة، تحت عنوان تحرير الانسان من الكبت والقمع.
فهل مفهوم الحضارة بهذا المادي المحض يؤدي الى تحسين حياة الانسان وتطوره وتقدمه؟
من فلاسفة الغرب ومفكريه الذين اهتموا بمفهوم الحضارة يمكن ايراد عدد من تعريفاتهم، يرى "ول ديورانت" صاحب "قصة الحضارة": أن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
ويرى الألماني ألبرت اشفيتسر في تعريف الحضارة في كتابه (فلسفة الحضارة): (إن الحضارة بكل بساطة، معناها بذل المجهود، بوصفنا كائنات إنسانية، من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم، من أي نوع كان، في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي. وهذا الموقف العقلي يتضمّن استعداداً مزدوجاً: فيجب أولاً أن نكون متأهبين للعمل إيجابياً في العالم والحياة، ويجب ثانياً أن نكون أخلاقيين).
وذهب فريق من العقلانيين إلى أن الحضارة مرادفة للعقل نفسه، إذ هي في أحسن الأحوال ثمرات العقل، في حين قال آخرون: إن الحضارة هي الاقتصاد.
وتعريف الحضارة عند "وليم هاولز"، هي كل ما يساعد الإنسان على تحقيق إنسانيته.
وربط "أرنولد توينبي" الحضارة بالكنيسة الكاثوليكية، مدعيًا أن الحضارة الغربية هي وحدها التي تحافظ على "الشرارة الإلهية الخلاقة"، وهي وحدها القادرة على أن تؤول إلى ما آلت إليه سابقاتها. وقد حدد معالم الحضارة بقوله: "إنها حصيلة عمل الإنسان في الحقل الاجتماعي والثقافي، وهي حركة صاعدة، وليست وقائع ثابتة وجامدة، إنها رحلة حياتية مستمرة لا تقف عند مينائها.
ويخالف "رجاء غارودي" ما ذهب إليه "توينبي" عن خلود الحضارة الغربية المسيحية في كتابه "حوار الحضارات"، ويتحدث عن الحضارة الغربية قائلاً: "وأنا أطلق عبارة "الشر الأبيض" على هذا الجانب من الدور المشؤوم الذي نهض به الإنسان الأبيض في التاريخ.
ان هذه الأزمة التي يعيشها الغرب، إنما ترجع في جذورها حسب رأي غارودي، إلى عصر النهضة، الذي ولدت معه الرأسمالية والاستعمار معاً، وما صاحبه من تنكر وهدم لجميع الثقافات غير الأوروبية، فقد اتبعت الحضارة الغربية في نموها وتقدمها من القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن العشرين، طريقة أوصلتها كما يعتقد غارودي، إلى أزمة داخلية عميقة، حدودها في ثلاثة أبعاد رئيسية، شرحها في كتابه: (حوار الحضارات)، وهي:
1ـ رجحان جانب الفعل والعمل، بالشكل الذي يتحول فيه الإنسان إلى مجرد آلة للإنتاج والاستهلاك، ويفقد جوهره المعنوي والأخلاقي.
2ـ رجحان جانب العقل، واعتباره قادراً على حل جميع المشكلات، بحيث لا توجد مشكلات حقيقية إلا تلك التي يستطيع العلم حلها، والنتيجة بعد ذلك هي عدم القدرة على تحديد الغايات الحقيقية، والسيطرة على الوسائل.
3ـ رجحان جانب الكم، وجعله معياراً ومقياساً لا نهائياً، بحيث يصبح النمو باعتباره نمواً كمياً صرفاً في الإنتاج والاستهلاك.
ويرى غارودي أن حضارة تقوم على هذه الأبعاد الثلاثة، إنها حضارة مؤهلة للانتحار.
وقبل "غارودي" قام الألماني "أوزوالد شبنغلر"، بالتبشير بانهيار الحضارة الغربية في كتابة "انهيار الغرب"، الذي أصدره عقب الحرب العالمية الأولى. وأما "ألكسيس كاريل"، فيتحدث عن الحضارة الغربية المعاصرة في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" قائلاً: "إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أي معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت في خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا.
تعيش الحضارة الغربية في ازمة طاحنة، منذ بدايات القرن العشرين وحتى الان، ويعود ذلك براي المختصين الى عدة اسباب منها:
الخواء الروحي: فالتعليم صار أُحادي الجانب أو يجنح إلى إعلاء شان التقنية على حساب الروح.
سيادة الثقافة الجماهيرية: فإذا كانت الثقافة الأصيلة تنحو تجاه الفرد فالثقافة الجماهيرية تصب في الاتجاه المعاكس، نحو التماثل (صب الأرواح في قوالب متماثلة) عكس الثقافة الأصيلة التي تسعى لخلق الحرية الإنسانية والتي في صميمها مقاومة التماثل وآلة تعليب العقول الكبرى هي التلفزيون.
العلم والتكنولوجيا: يقول آرثر ميللر: إني اعتقد أن المشكلة- في وضعها الراهن- هي نتاج التكنولوجيا التي دمرت الإنسان كقيمة في ذاته... باختصار لقد اندثرت الروح وتلاشت ومن ثم ظهر المسرح المتشائم وكثرت المذاهب العدمية في أكثر المدن تقدما. أن التقدم التقني هائل لكنه لا يعني أن الحياة ستكون أغنى آو أسعد آو أكثر إنسانية.
حضارة استهلاكية تستنفد الموارد الطبيعية: ازداد تكديس الأشياء وربما لو نظر الأنسان في نفسه، في بيته ووازن بين الضروري من حاجاته والكمالي منها لتبين له ان الكمالي – من حيث يظن ضروريا- فاقت كميته الضروري وتزداد حاجتنا كلما لبيناها.ولكن هل حقق الاكتفاء؟ من سمات الحضارة إنها تخلق في الإنسان ضرورات متجددة وتغري الإنسان بالحياة البرانية على حساب حياته الجوانية. شعارها "انتج لتربح واربح لتبدد" هذه سمة في جبلة الحضارة. فالحضارة الغربية تعيش حالة من اللهاث وراء الاشباع. ويمكن رؤية آثار هذا التغول المادي في جوانب كثيرة من حياتنا.
من مظاهر الأزمة كثرة العمران وامتداد المدن وشدة استقطابها لمتساكنيها لكنها تصنع إنسانا ميتا يختلف عن ذلك الذي يشاهد السماء المنقوشة بالنجوم والحقول الخضراء، انه انسان آلي يمارس مشاعر الاثارة في مباراة حامية لكرة القدم أو الملاكمة هو آلي ميت.
والأدلة كثيرة التي تؤكد موت الإنسان من خلال ارتفاع نسب الانتحار والجريمة والعنف والخوف والأمراض العقلية والنفسية، وقد صارت الكحول والمخدرات والإباحية ملاذا للاغنياء بعد ان كانت ملاذ الفقراء وذلك بسبب الكبت والحياة الآلية السائرة على وقع: "نوم-قطار-عمل" يسعى الغني والفقير - وهم أسرى هذه الآلة الرهيبة - للهروب بالإشباع في هذه الإثارة الرخيصة.
ويمكن اختصار تلك الازمة بما يقوله فيرنر هايزنبرغ: نعيش اليوم في عالم قد غيره الانسان إلى حد بعيد، بحيث لا يواجه أينما ذهب سوى البنى التي أنشأها، فهو بذلك لم يعد يلاقي إلا نفسه.
الحضارة كما يراها الامام الشيرازي
أزمة الحضارة، كتب عنها المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي: (اختلف الغربيون والمحللون السياسيون في سبب أزمّة الحضارة إلى أقوال، وإنْ كان الكلّ متّفقين على وجود أزمة خطيرة يمكن أن تؤدي بالحضارة إلـى الانهيار إن لم تعالج، ولكنّ كلّ ما ذكروه من أسباب تعد جزئية وعللاً غير واقعية). وهي الأسباب التي ذكرت في السطور السابقة.
يحدد الامام الراحل ازمة الحضارة الحالية في (الابتعاد عن الدين والقيم السماوية).
وهو ابتعاد نتلمس مظاهره الكثيرة وخلله الفادح في الكثير من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تكاد تضغط على العالم وتطحنه.
فـ(الإنسان يختلف عما هو عليه في الحضارة المادية حينما تزداد معارفه فتتعدد أهدافه فيسيطر على الحياة فيفسدها بعد أن يزداد حرصه وتتشعب طموحاته).
الحضارة الحديثة ومأزقها، لايكفي القول انها يمكن ان تتجاوز ذلك المأزق عن طريق العلم الذي تستند اليه، فهو على حد تعبير الامام الشيرازي (غير كافٍ في حفظها)، لان هذا العلم الذي تستند عليه (يكفي فـي الرقابة الظاهرة)، لكن الحياة غير قائمة على الظاهر فقط بل الأمـر بحاجة إلى الباطن أيضاً، وهذا الباطن هو (الدين والإيمـان بالله واليوم الآخر وهـو وحده الذي يكون رقيباً في الظاهر والباطن، وأما غيره من القانون والشرطة والرقابة ـ بالأحزاب وغيره ـ لا يمكن أن يحفظ الباطن).
ان ما يمنحه الاسلام للمؤمنين به، وحسب الامام الشيرازي هو (العامل الأقوى الذي يحصّن الناس من الانزلاق في متاهات المفاسد، لأنّه يؤجج في الإنسان مشاعر الخوف مـن الله ومن اليوم الآخر).
والسلطة في البلدان الغربية وعبر قوانينها التي تشكل اعمدة حضارتها، وهي في الوقت نفسه، عامل انهيارها بتغييب او غياب او تحييد الدين، (لا يمكنها مهما كانت قاسية أن تكون رادعـة ومانعة من انهيـار روح الإنسان وانسياقه وراء الملذّات).
فالحضارية المادية تؤدي الى تحطم الانسان في روحه ونفسه وتفكك الاستقرار في تفكيره مما يؤدي الى جنوحه واضطرابه بسبب تراكم الانحرافات وتزلزل المبادئ والانغماس في الملذات المفتوحة والعنف الاعمى والاستباحة الذاتية للقيم الفطرية: (إن هذا المجتمع يمرّ الآن بحالة الاحتراق، فهناك حروب، هناك ثورات، هناك جنون التسابق إلى التسلّح، هناك اللف والدوران والمكر والخداع والغش والاحتكار، والرأسمالية المنحرفة، وسواها).
ونزع الثوابت الفطرية من العلاقات الاجتماعية أدى الى (انّ الحياة أصبحت في ظل الحضارة المادية، خارجة عن دائرة الأنبياء وقوانين السماء، فابتليت بالمشكلات، في جميع النواحي، فالنساء صار الكثير منهن عانسات، وبعضهن تورطن في البغاء وصرن بضاعة وصوراً دعائية، أو عاملة في أماكن الرجال وقد نجم عن ذلك الكثير من الأمراض، والقلق والوحشة، والذل والمعاناة، والفقر والمسكنة).
وهنا يؤكد الإمام الشيرازي على قضية الانتباه إلى علامات وملامح تحطّم المجتمعات، حتى يتم تلافيها، وتحييد نتائجها التي فيما لو أهمِلت سوف تنتهي بالمجتمع إلى التدمير، فكل خطأ يتم إهماله يكبر ويتضاعف ويتعدد، ويكون بالنتيجة مؤلما في الكوارث التي سوف يلحقها بالجميع.
(أما المستقبل فالمجتمع مستمر في طريق الوصول إلى نقطة النهاية والتحطم، حيث تفنى الحضارة التي وصل إليها الإنسان منذ قرون وقرون.. أليس ذلك دليلاً على انحراف الاجتماع وعدم تعقله، أليس هذا الواقع يلحُّ على عقلاء العالم للتفكير في كيفية العلاج والخلاص لكل العالم، لا لأمة خاصة أو مدينة خاصة أو جماعة خاصة أو ما أشبه؟).
وحينما يتغاضى الانسان عن المخاطر التي تهدد حياته، لا يتردد في تدميرها كما يفعل مع البيئة الطبيعية: (ومن التلوث: تدخُّل الإنسان في قوانين البيئة التي سنها الخالق عزّ وجل، وإخلاله بتوازن عناصرهـا ومكوناتهـا بحيث تكون حينئذ ضارة للإنسان أو الحيوان أو النبات أو ما أشبه ذلك. فقد كانت للثورة الصناعية التي قامت على أساس علماني آثار مدمّرة على البيئة، حيث دمرّت مقوَّمات الحياة في الهواء والماء والتربة والغذاء).
فالحضارة المادية القائمة على الإنتاج الشره والاستهلاك المفرط والارباح المتضخمة هي التي تؤدي الى كوارث مناخية هائلة وازمات اجتماعية كبرى تؤدي الى تدمير الحياة البشرية في الصميم.
ويرى الإمام الشيرازي ان الإيمان هو الحل، وتغليب الفكر والمعنى على الرغبة المادية، أمر لابد من التمسك به كمنهج بشري شامل، للخلاص من مظاهر العنف والأزمات، وقلة الإيمان، والخوف الذي يهيمن على عالم غاطس في الماديات، وتارك بشكل تام للمعنويات.
(لقد أسّسوا حضارة مادية جميلة في ظاهرها، فما أجملها بالمعامل والمصانع ووسائل النقل ووسائل الاتصال، وكان بالإمكان أن يسهل ذلك في أن تخلو الحياة من الموبقات والمفاسد، كالفقر والأمراض والهرج والمرج، والاستعمار والسجون والتعذيب، والعزوبة والعنس، والكبت والإرهاب، وسوء الأخلاق وفساد الضمير وعدم الإيمان، والاستهتار والإباحية والمفاسد الأخرى التي يزعم البعض أنها من لوازم الحضارة الحديثة، لكنها من نتائجها، وذلك نتيجة لعدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وعدم الإيمان بشرائع الإسلام كما أُنزلت).
فعدم الايمان بالثواب والعقاب وانعدام الجزاء يفتح كل أنواع الشرور عبر آلية التدمير الذاتي لكل معاني الحياة المادية والمعنوية.
اضف تعليق